الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسرح المصري: ظاهرة تأبى أن تعي ذاتها (2-2) .... نمط الوعي المهيمن عند المسرحيين

عبد الناصر حنفي

2016 / 7 / 21
الادب والفن


خلصنا في المقال السابق إلى أننا نفتقر إلى اي معطيات محددة حول امتدادات ظاهرة المسرح المصري، وحجمها، وحدود انتشارها، وأعداد ممارسيها، واقتصادياتها ..الخ، بالرغم من أهمية تلك المعطيات إذا كنا نسعى بالفعل لتطوير هذه الظاهرة وطرحها علميا في إطارها الموضوعي، والبحث عن الانصاف والاهتمام الجديرة به لدى صناع القرار وواضعي السياسات، مرورا بإعادة تنظيم جهود ممارسيها والمهتمين بها ليكتسبوا وزنهم الاجتماعي والثقافي الحقيقي على نحو يفسح المجال أمامهم لإعادة تأكيد وبلورة علاقتهم بعروضهم وبجمهورهم المستهدف وكذلك بالمجتمع ككل، واستكشاف طرق أكثر فعالية لتوسيع نطاق ممارستهم ..الخ.
وبالقطع، فهناك الكثير من الصعوبات والمشاكل المنهجية التي قد تعترض تحقيق هذا المشروع العلمي/الإحصائي، مثل شفافية العمليات المسرحية، ومدى دقة أو تداخل بياناتها، وهل هذه البيانات متوافرة اصلا وفي إنتظار من يجمعها فحسب، أم أننا سنكون بحاجة إلى خلقها خلقا عبر إعادة فرزها وتصنيفها في حزم متجانسة انطلاقا من مجموعة من التعريفات المنهجية المفصلة والدقيقة، ناهيك عن المشاكل العملية التي قد يواجهها تنفيذ كل مهمة من هذه المهام.
إلا أنه سيكون من قبيل الترف النظري أن نناقش الآن مثل هذه الأمور، أو حتى أن نتساءل ما إذا كان لدينا الجهات أوالكيانات التي تمتلك قدرات بحثية كافية تجعلها قادرة على عبور تلك العوائق والقيام بالإحصاءات السنوية المطلوبة، أم أننا سنحتاج إلى تأسيس كيان ذو مواصفات علمية وإمكانيات إجرائية خاصة ليضطلع بهذه المهمة، فقبل إثارة مثل هذه المناقشات –الهامة بالفعل- يتوجب علينا أن نبحث لماذا فشل هذا المطلب –الذي يكاد يكون بديهيا- في طرح نفسه على أجندة الواقع الثقافي والمسرحي؟
إن إرادة الفعل التي يحتاجها هذا المشروع تقع في مسافة ما بين ثلاثة كيانات متباينة، أولها صناع القرار في مؤسسات الدولة والحكومة، وهؤلاء –بوجه عام- لم يتركوا فرصة تمر إلا وأثبتوا عدم قدرتهم –وأحيانا عدم رغبتهم- على استيعاب الدور المحوري للمسرح في التنمية الاجتماعية والثقافية، وثانيها هي المؤسسات البحثية التي تتمتع بتاريخ طويل من اضطراب له طبيعة فصامية في العلاقة متطلبات الواقع، أما العامل الأخير فهو وعي المسرحيين انفسهم، والذي يمثل العائق الرئيسي الذي لا يمكن تجاهله في عدم تبلور الارادة الكافية لطرح هذا المشروع أصلا، وهو ما ينبع بدرجة أو أخرى من طبيعة وعي المسرحيين بعملهم والذي لا يتيح لهم القدر الكافي من الانتباه أو الاهتمام بالمطالبة بتكريس مثل هذه الأجندة العلمية في تناول ظاهرة المسرح.
إن خطاب المسرحيين في مصر يهيمن عليه التعثر في الأفق الجمالي بشكل مبالغ فيه، بحيث أنه يجحب التفكير حول الجانب الاجتماعي الذي لا يمكن إغفاله في الظاهرة المسرحية ولا يسمح بتناوله إلا على طريقة نظرية الأدب باعتباره لا يحضر إلا في مكونات التيمة أو الصراع الذي يتم تقديمه دراميا، وهو ما يغفل الخصوصية الفارقة للممارسة المسرحية والتي تميزها عن أي نشاط جمالي آخر بإعتبارها ممارسة اجتماعية بالمقام الأول، وأن عطاءها الاجتماعي لا يتوقف بالضرورة على عطاءها الجمالي، بل إن هذين المسارين قد يذهبا في اتجاهات متباينة أحيانا (للتوسع في هذه النقطة يرجي مراجعة مقالي بجريدة القاهرة: "ظاهرة المسرح بين العطاء الجمالي والعطاء الاجتماعي" عدد 21 أكتوبر 2015)، علما بأن إغواء ما هو جمالي هنا لا يقتصر على النخب المسرحية وحدها، بل يمتد ليشمل وعي جميع الممارسين تقريبا، حيث تتحول الجوانب الاجتماعية والواقعية لحضور ظاهرة المسرح إلى مجرد ملامح عملية أو إجرائية ذات طابع شخصي متصل بالخبرة الفردية وحدها ومقتصرا عليها، بمعنى أن هذا الوعي العملي المنكب على ذاته سيظل مرتبطا بالحالة أو الوقائع الجزئية التي تصاحبه على نحو لا يسمح بتعميمه أو "إعلائه" ليصبح ملمحا، أو حتى مشكلة، تخص حضور ظاهرة المسرح نفسها، وهو ما يعني في النهاية غياب أفق الوعي العام بواقعية الظاهرة، وخفض هذا الوعي دائما أو سجنه فيما هو خاص وجزئي أوطاريء وعابر، مقابل "تعالي" ودوام وجوهرية ما هو جمالي.
ولكن ما "هو جمالي" هو في النهاية مجرد عملية تقييم او تثمين خلافي بطبعه، وبالتالي فمن المستحيل أن ينتج عنه تعريف اجرائي متوازن لظاهرة اجتماعية يمكننا من رصد وجودها أو حضورها في الواقع من عدمه. وبالتالي فهذا النزوع الجمالي يعمل بوصفه حجابا أو عائقا أمام تبدى الظاهرة في مواجهة وعي المسرحيين، وبمعنى آخر فبعض المسرحيين (خاصة هؤلاء الذين يعتبرون انفسهم أقرب للوسط الاحترافي) سينظرون إلى المسرح المدرسي أو الكنسي أو عروض الشركات، مثلا، بإعتبار أن ما يقدم هناك هو مجرد حالات مسرحية على هذا النحو أو ذاك، اكثر مما هو عرض مسرحي "فني" حقيقي، وبعضهم الآخر سيتعامل مع أغلب عروض الهواة باعتبارها في افضل الاحوال مجرد تدريبات مسرحية أولية وفظة يقوم بها بعض المبتدئين، أكثر منها عروضا "حقيقية"، وبالمقابل، فمن الهواة من سينظر إلى عروض الانتاج الاحترافي باعتبارها مجرد "سبوبة" أو "نحتاية" غرضها الأساسي استهلاك الميزانيات، ولا علاقة لها بالفن أصلا، وهناك بالطبع من سيمد هذه الخطوط المتقاطعة على استقامتها ويجمع بينها ليخلص إلى أنه : "مفيش مسرح عندنا في مصر، الاختراع ده لسه موصلناش، أو جالنا فترة –الستينات مثلا- وبعد كده هاجر بلا عودة"!.
وهكذا فإن الاعتماد على التعريف الجمالي –الخلافي- وحده في تعيين الظاهرة المسرحية يفضى إلى هذه الحالة من النفي والإقصاء المتبادل، والتي تبعثر حضور الظاهرة وتفتته، وتترك المسرحيين أسرى وعي ذاتي متشرذم ومحتجز في أطر ضيقة تتصارع على ما ينبغي أن يكون جماليا بينما تغفل أو تتناسى ما هو كائن واقعيا، مما يفضي بنا إلى وعي مغترب لا يكترث سوى لمصالحه المباشرة بالمفهوم الضيق على نحو يجعله اشد ما يكون شبها بما تطلق عليه الأدبيات اليسارية "وعي البروليتاريا الرثة" التي تبعثرها المصالح الفردية المتعارضة وتمنعها من الوعي بذاتها بوصفها كيان تجمعه مصالح مشتركة.
وما يزيد من هذه النتيجة سوءا ويضاعف من أثرها المدمر على "الوعي" بظاهرة المسرح في مصر هو أن الكتلة العظمى من العروض هي عروض هواة مرتبطة بلا فكاك بمكان ومجموعات تنفيذها، ولذلك فإن تجاهلها وإلغائها ونفيها يترك في الواجهة أمام أعين المراقب المهتم (ولكن غير المدقق) رقما لا يتجاوز في افضل التقديرات نسبة 20% مما يتم انتاجه موسميا، وهو ما تمثله تلك العروض المحترفة وشبه المحترفة والقاهرية، بالاضافة إلى عروض بعض المجموعات المهمشة التي قد تجد طريقا لنفسها عبر المنافسات الشرسة في تسابقات الهواة، وهو ما يجعل ظاهرة المسرح المصري تبدو للبعض وكأنها جبل جليدي ضخم غارق في تلك المياه الباردة التي لا تظهر لنا سوى قمته الصغيرة.
ولكن برغم النفي المتبادل، ونزع "الشرعية الجمالية" الذي يواجه به المسرحيون بعضهم البعض، إلا أن تاريخ الظاهرة مختلف تماما، فلولا تفجر مسرح الهواة منذ مطلع التسعينات لضمر مسرح الواجهة "الاحترافي" إلى حد التلاشي، بل وربما الفناء الكامل، وبالمقابل فلولا أن مسرح الواجهة الاحترافي وشبه الاحترافي (وبالأخص في الثقافة الجماهيرية تحديدا) قد قاوم الفترات العجاف التي عصفت بالمسرح المصري منذ السبعينات وتمكن من المحافظة على تواجد واستمرارية قوة العمل المسرحي لما عثر هؤلاء الهواة على الطريق الذي يقودهم إلى المسرح اصلا. وبمعنى آخر فظاهرة المسرح المصري، بحكم طبيعتها كظاهرة، تحافظ في كل الاحوال على اتساقها مع واقعها وعلى وحدة استجابتها للعالم بوصفها كيانا متصلا ومتماسكا، وذلك بغض النظر عن وعينا المغترب عنها، فتبدي الظاهرة للوعي شيء، وحضورها في العالم شيء آخر تماما، أما إزالة الحواجز وبناء الجسور بينهما فهو أمر يتطلب الكثير من التحليل والعمل المشروط اجتماعيا ... فهلا بدأنا؟
----------
* نشر في العدد الثاني من النشرة المصاحبة للمهرجان القومي للمسرح المصري، الدورة التاسعة، 20-7-2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا