الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الإعلامي العربي: بين واقع الصورة وسلطة الفكرة

كاظم الواسطي

2005 / 12 / 17
الصحافة والاعلام


إن التغيرات النوعية التي حصلت في نمط الإنتاج العالمي ، والانتقال من اقتصاد السلع الثقيلة الميكانيكي إلى ما سمي ب (الاقتصاد الناعم) ذي السلع الإلكترونية الافتراضية ، قد تركت آثارا واضحة على كافة النشاطات البشرية ، علمية وفكرية وثقافية ، مثلما أثرت على طبيعة العلاقات بين البشر أنفسهم . وقد ظهرت ، بعد تلك التغيرات ، قوى إنتاجية واجتماعية تختلف عن التي سبقتها في آليات العمل والأداء الوظيفي . ومن بين تلك القوى ما سمي بالفاعل الاجتماعي الجديد ، الذي ينتسب إليه المشتغلون في تقنية المعلومات ، والإعلاميون المهتمون بإنتاج الصورة وصياغة المشهد اليومي ، عبر متابعة الوقائع والأحداث على مدار الساعة . وقد عمل هؤلاء الفاعلون ، بفعل مخلوقاتهم العابرة للقارات ، على تصدّع الحدود بين الدول والمجتمعات ، وجعلوا من العالم مجرد ( قرية صغيرة ) مشتركة ، ومخترقة من الجهات الأربع .
وفي هذا العالم الصغير المخترق ، صار من غير الممكن ، لدوله ومجتمعاته ، الحفاظ على مساحات آمنة داخل حدودها التقليدية ، من تدخل تلك القوى ، التي لا يمكن التحكم بمسار إنتشارها الأفقي في كل مكان من هذا العالم . كما أن تلك القوى ، قد وضعت ( النهاية الرمزية لعصر المكان ) كما يقول عالم الاجتماع زيغموند بومان .إن السلع الإعلامية الجديدة تصنّع بسرعة هائلة ، وتصدّر فورا ، عبر الأثير ، بشكل لا يسمح بالوقت الكافي للتأمل والتحقق من سلامة المنتج ، أو التعرف على حقيقة ما يبث من معلومات وصور ، باتت تشكل قوة للتأثير على مسار الأحداث تتجاوز ، في كثير من الأحيان ، تأثير القوى السياسية والأمنية للدولة ، التي تنتشر على خارطة محددة الخطوط والاتجاهات، وبإمكانيات لا تستوعب جيدا ما يجري من حولها .
وبهذا المعنى ، صار للإعلاميين والإعلام المرئي ، بشبكاته الواسعة ومصادر معلوماته المتنوعة ، دور متميز في صناعة الرأي العام ، وصياغة المشهد السياسي، بل القيام ، في بعض الأحيان ، بإعادة تشكيله ، سلبا أو إيجابا ، بالمعلومة وترتيب الصورة ،بحسب زاوية النظر التي يعتمدها الإعلامي المشتغل في ساحة الحدث ، واختيار الصورة الملائمة لتلك الزاوية من بين مجموعة الصور المتنوعة التي تعنى بما يقع في لحظة معينة . من هنا تأتي أهمية الانتباه لسياقات الإعلام الجديد ، وما قد تحدثه من أضرار أو فوائد ، وخاصة في المجتمعات التي تعيش وسط أزمات سياسية و أمنية حادة . كما هو حال مجتمعنا العراقي اليوم . إن اتساع شبكات الإعلام ، وتغطيتها الواسعة لمواقع الحدث ، يحتاج إلى أعداد كبيرة من المشتغلين في حقولها المتنوعة . و لأن هذا النوع من تقنيات العمل، حديث العهد في مجتمعنا العربي ، إضافة إلى ما خلفته تجربة الدكتاتوريات في المنطقة، من نسقية تنمّط العمل الإعلامي، وتختزله بمجموعة من المفاهيم والشعارات الموالية لأنظمة الحكم ، وتوظيف كل الإمكانيات المتاحة لهذا الغرض . كما أن الكثير ممن يعملون الآن في هذه الشبكات ، يفتقرون إلى المهنية العالية المطلوبة في عملهم . وإن حصل البعض منهم على هذه المهنية ،بالدراسة والعمل، فان ما يفتقرون إليه هو الذهنية الحيادية المرنة في التعاطي مع الوقائع والأحداث .
إن الافتقار للذهنية الحيادية في هذا العمل الواسع الانتشار ، والخارق لأمن الأمكنة وأسرار البشر في كل مكان، يعني الدخول في اللعبة السياسية ، والخضوع لأهواء البعض على حساب البعض الآخر في حلبات الصراع السياسي والاجتماعي . وأن حصول مثل هذا الأمر ، جعل من حرية الإعلام ، التي أقرتها النظم الديموقراطية ، ومهدت لها تقنيات العلم الحديث، وآليات الثورة المعلوماتية ، عامل تشجيع مؤثر للفرقة السياسية والاحتراب الأهلي ، في مجتمعات لم تستوعب بعد معاني اللعبة الإعلامية ، وخاصة الجانب الافتراضي فيها . حيث يتيح الانتشار الواسع لشبكات الإعلام مشاركة كبيرة للأفراد ، من مختلف الاتجاهات والأطياف، في الإعلان عن وجهات نظرهم ومواقفهم من أحداث الساعة . ونحن إذ نعترف بالجانب الإيجابي لهذه المشاركة الواسعة ، التي تعزز لغة التفاهم والحوار بين البشر ، وتعطي للكثير من المكونات الاجتماعية المهمشة ، في الوسائل الأخرى ، فرصة للتعبير والكشف عن واقع حياتها ، إلا أن أمرا آخر لا يقل أهمية ، في الجانب السلبي ، يجب التعاطي معه في هذا العمل ، بروح نقدية منفتحة على مسار التجربة ، وواقع الصورة التي يراد لها ، في الإعلام المرئي، أن تكون مرآة للحدث ، وصورة لواقع ما يحدث . ومثلما كنا ننظر إلى الحرية بمعايير مجردّة تعنى بها كمفهوم في الذهن و (كلمة حلوة ) تساعدنا على هضم مرارة الاستبداد ، بدون مخاطرة في حياتنا ، وفعل قد ندفع به تلك الحياة ثمنا له ، كذلك نظرنا إلى حرية الإعلام ، بعد انهيار مؤسسات الدكتاتورية ، بشكل فوق- واقعي يعنى بها كمظهر خارجي ، لا يترتب عليه دور في إشكاليات التجربة الجديدة .
إن تجربة العراق بعد أحداث 9/4 قد أسقطت الكثير من الأوهام والأقنعة السياسية والاجتماعية ، التي كنا نتخفى وراءها تحت ضغط آليات الاستبداد الشامل . حيث كنا نعتقد بوحدتنا المطلقة ومشروعنا المشترك تحت حرارة السقف الدكتاتوري المغلق . ونؤمن بأن لا أحد أو جهة يمكن أن تشرخ ذلك الاعتقاد أو تزعزع ما يمكن أن نكون عليه من تفاهم في ظل غياب تلك الآليات القاهرة . كما أن طبيعة تلك الأحداث وما يمر به العراق اليوم من تعقيدات وصعوبات في واقعه الاجتماعي والسياسي ، يبين درجة الوهم العالية في الذهنية السياسية التي تعاملت مع هذا الواقع ، على أساس الموقف الكلي لكتلة الجمهور الموحدّة تجاه التجربة السابقة . وظلت هذه الذهنية تعيش صدمة الوقائع اليومية ، مذ بدأت عمليات السلب والنهب للمتلكات العامة، وحرق المؤسسات ، وحالات القتل العشوائي ، والتخريب الذي لم يستثن مفصلا من مفاصل هذه البلاد ، بدون إمكانية للخروج من وهم النوايا ، والسلطة العمياء لشعار ( إن الحق معنا )،إلى واقع المتغيرات ، وحقيقة التشظي في كتلة الجمهور . ومن فراغ هذه الذهنية تسلل محترفو الحيلة ، وصيادو الفرص ، إلى مواقع القوة الجديدة ، والتي كان من أخطرها موقع الإعلام ، بشبكاته واسعة الانتشار . إن الظروف الأمنية الصعبة ، ومخاطر الحركة في الأماكن العامة ، عزلت المواطنين عن طبيعة ما يجري من حولهم ، وجعلت من البيوت ملاذهم الآمن ، ومن شبكات الإعلام المرئي ، مصدرهم الأساس للمعلومات والوقائع . ولأن المثقف الحقيقي ، الذي همش طوال عهود الاستبداد ، لا يملك الحيلة ولا أدوات صائد الفرص في خزائن المال المسروق، المعاد دفعه ثمنا لكلامٍ كاذب ، وصورة مشوهة ، فأن أشباه المثقفين ، وبعضا من أشباح السياسيين الخارجين من رماد الدكتاتورية ، عراقيين وعربا ، صاروا فرسان هذه الشبكات، يجلدون عقل المواطن المعزول بأخبار وصور تبث الفرقة والانشقاق في المجتمع ، وأخرى تنشر ثقافة القتل والترويع فيه . ولنا في ذلك الكثير ، من استضافة الناطقين بأسم الطائفية والمروجين للفوضى وعدم الاستقرار، في ندوات يغلب عليها النباح لا الحوار ، إلى عرض صور الذبح البشعة تحت شعار المقاومة . وما بينهما لا يحصى من معلومات وصور تظهر للمواطن المحاصر ، بأنه يعيش في وسط الجحيم ، ولا أمل له في الخروج منه ، أو التفكير في حياة أسعد حالا وأكثر أمنا مما كانت عليه في زمن الدكتاتورية . إن بطولة هؤلاء الفرسان ! ، التي تحسب لهم حقا ، هي تشبثهم بعقارب الساعة العراقية، ودفعها ، بكل ما يملكون من قوة ، إلى الوراء .
لقد نسى ، أو تناسى، إداريو هذه الشبكات ، ضمير المهنة الذي يمنح حرية عملهم نكهته الإنسانية في ظروف تحتم الوقوف إلى جانب الإنسان ، والكشف الحيادي لمحنته اليومية مشفوعا بأمل الرغبة في البقاء ، وقوة التمسك بقارب الحياة ، المتجه إلى ضفاف الاستقرار والبناء ، وإن تحطمت بعض أجزائه. بل شجّع هؤلاء الإداريون فرسانهم الصغار في مواقع الحدث على اللقطة الفاضحة لأكثر الأجزاء تحطما من هذا القارب ، بزيادة الأجر المدفوع ، حتى صار الكثير منهم يتمنى تحطم الأجزاء المتبقية ، ليكون له السبق في تصوير لقطة الغرق الأخيرة . إن تقنيات شبكات الإعلام الحديثة ، والحرية الواسعة التي أتاحتها للعاملين فيها، تتطلب وعيا وثقافة ، بمستوى آليات سرعة انتشار سلعها آنية الصنع . بمعنى آخر ، يجب أن يكون للإعلامي العربي الجديد، متسعا ذهنيا بمستوى عمله كفاعل اجتماعي، يمتلك ثقافة مهنية واجتماعية تتعارض مع ثقافة الإعلام الخطابية السابقة ، لكي يستوعب إشكاليات الواقع، وحراك قواه السياسية والاجتماعية ، بدون مسبقات تمليها فكرة محددة أو جهة واحدة . لأن مثل هذا التعاطي الإعلامي المنحاز ، سيظهر مرئياته بلون واحد، يتعارض مع تعددية الثقافة وحرية الأفكار التي تنتج الكثير من الألوان والتنويعات في المشهد الذي يجب أن يميز إعلام الصورة في عصرنا هذا . كما أن اعتماد سياقات ثقافة الإعلام السابقة ، سيجعل من شبكات الإعلام الجديد ، في المجتمعات التي تقف على مفترق التحولات السياسية ، والتصدع الاجتماعي الناتج عن تجارب الدكتاتوريات المغلقة ، منابر لتفتيت القوى والمناطق ، عبر التركيز على بعض المعلومات دون غيرها ، وانتقاء الصورة الواحدة من بين عشرات الصور . وهذا ما يجعل آلاف المواطنين المعزولين في مناطق نأت عن بعضها، بسبب الظروف الأمنية الصعبة ، يعيشون واقعا افتراضيا ، من خلال الشاشات التي صارت نوافذ لحياتهم ، والمصدر الأهم لمعلوماتهم حول ما يجري ، وإن كان على مبعدة أمتار منهم . ولنا مثال على ذلك ، في النغمة الطائفية المتصاعدة في العراق الآن . وإذا ما دققنا النظر فيها جيدا ، لوجدناها من نتاج العقليات السياسية والدينية المغلقة ، ومفاهيم مجموعات مازالت تعيش في أنقاض التاريخ ، استطاعت ، من خلال تسللها إلى شبكات الإعلام ، والاستحواذ على جزء كبير من مرئياتها ، أن تحقق ذلك الواقع الافتراضي في ذهن البعض . والخشية كل الخشية أن يستمر ذلك بالانتشار في المجتمع ، حيث تكون له تجليات واقعية ، أكثر اتساعا ، يصعب التحكم بها مستقبلا .
إن حرية الإعلام وعمله المستقل عن المؤسسات الأخرى ، تعني مسؤولية مضاعفة في التعاطي مع الوقائع والمتغيرات ، وإظهار القيّم الجديدة التي تحرر عقل المواطن من الأوهام والخرافات ، وكل ما يلغّم حياته بعناصر العنف والكراهية .وأن يعرف العاملون في شبكاته ، بأن الحرية الممنوحة لهم ،هي جزء من تقاليد عمل يهتم بالحرية نفسها كحق للبشر في مواجهة نظم الاستعباد التي توحش مشاعرهم ، وتحطّم عقولهم . وأن يفهموا دورهم ومسؤولياتهم بمستوى النشاط النوعي لأدوات عملهم , وتأثيرها العملي في أوجه الحياة المختلفة . لأن مثل هذا الفهم ، هو الذي سيضع ضوابط مهنية وإنسانية على تدخل الأطراف الأخرى في عمل شبكاتهم ، واستغلالها كواجهات دعائية وتحريضية لأفكارهم وعقائدهم . وبهذا النوع من الفهم ، يتحرك الإعلاميون كمخلوقات ناعمة تتطابق مع أدواتها الضوئية ، لكي تكشف خلايا البناء والأمل في المجتمع ، التي يعرف المواطن المحاصر والأعزل ، من خلالها ، استمرار الحياة من حوله ، و لا شرعية صانعي الأزمات ، ومفجرّي المفخّخات البلهاء . إن ما تعرضنا له من آلام وويلات طوال أكثر من عامين بعد سقوط الدكتاتورية، جعل المواطن العراقي فائق الحساسية إزاء كل محاولة يراد منها إطالة أمد معاناته ، واستغلال الواقع الملتبس الذي يعيشه ، بإنتاج المزيد من صور الالتباس ، وتهويل الأزمات . وهذا ما فعلته بعض شبكات الإعلام العربية التي عاضدت قيّم العنف والإرهاب في العراق ، عبر عرض صور الذبح المرّوعة على شاشاتها ، والترويج لخطابات المجموعات الإرهابية ، بدعوى مقاومة الاحتلال ، وتشويش أذهان المواطنين ، بتعارض المعلومات و الأخبار ، التي توهن أعصابهم ومعنوياتهم لصالح مجموعات شاذّة في المجتمع . كما أنها تصنع لهم ، عبر البث الفوري المباشر لصور ومعلومات تنتقى بالتنسيق والمنفعة ، واقعا وهميا ، بعنوانات طائفية ومناطقية ، تؤثر على مشاعر الكثيرين ، ممن لا يعرفون بدقة حقيقة ما يحاك لهم. وقد كشفت التحقيقات الجنائية اللاحقة ، أن قسما كبيرا من تلك المجموعات ، هي من عناصر الجريمة المنظمّة ، التي استغلت الغطاء الإعلامي الفضفاض ، لتضع اللافتة الدينية فوق رؤوس الذبّاحين ، عنوانا يمنحهم القوة في تجاوز الشعور بالذنب ، الناتج عن السمعة الدونيّة في المجتمع ، لجرائم القتل العادية . و أن استضافة أنصاف المتعلمين وأشباح السياسيين في لقاءات وندوات ، بصفتهم محللّين سياسيين ، وخبراء استراتيجيين ، وممثلين شرعيين لبعض طوائف أو مناطق العراق ، قد ساهم في غموض المشهد العام وتعقيده . وأوقع مكونات المجتمع في شراك التنظيرات العقيمة ، وفخاخ النخب الطائفية التي تمزّق النسيج الاجتماعي باستعراض تمثيلها لمصالح هذه الطائفة أو تلك ، دون أن يكون لمواطنيها رأي في ذلك ، تعرضه شبكات الإعلام بحرية توازي المساحة المفتوحة التي تمنحها لتلك النخب . إن ازدواجية المعايير في ممارسة العمل الإعلامي ،والدخول في متاهات اللعبة السياسية ، يجعلنا نشك بجدوى حرية الإعلام نفسها ، في مجتمعات تعيش على حافة الصراع السياسي والاجتماعي . إن ما تحتاج إليه هذه المجتمعات ، هو كل ما يجعلها أكثر تماسكا وقدرة على تجاوز الأزمة التي تمر بها . والحرية المشروعة لأي عمل فيها ، ترتبط بمسؤولية الإسهام في تحرير عقول أبنائها من سلطة الوهم والالتباس ، التي يحاول البعض فرضها ، بدافع المصلحة الضيقة ، وتحقيق المكاسب الآنية . أو أن يكون هذا العمل ، في الأقل ، مرآة تعكس واقع الصورة التي يظهر بها المجتمع في مرحلة من مراحل وجوده . فمتى نشهد إعلاما عربيا لا تغويه حقول الموت في العراق ؟ ومتى يكون الإعلامي العربي ، متحررا من مفارقة العلاقة بين الحرية وتفخيخ الصورة بالانحياز ، التي مازالت تحكم عمله في التعاطي مع التجربة العراقية الجديدة ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أجواء من البهجة والفرح بين الفلسطينيين بعد موافقة حماس على م


.. ما رد إسرائيل على قبول حماس مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار؟




.. الرئيس الصيني شي جينبينغ يدعم مقترحا فرنسيا بإرساء هدنة أولم


.. واشنطن ستبحث رد حماس حول وقف إطلاق النار مع الحلفاء




.. شاهد| جيش الاحتلال الا?سراي?يلي ينشر مشاهد لاقتحام معبر رفح