الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!!يا وجيعة فقرنا.. يا

ياسر العدل

2005 / 12 / 17
حقوق الانسان


منذ ثلاثة آلاف سنة، رصد معجم الحضارة المصرية القديمة، الصادر عن مكتبة الأسرة سنة 2001م، أن رمسيس هو اسم لعدد من الملوك الفراعنة عرفوا بالرعامسة، أشهرهم رمسيس الثانى، الذى أقدر له أنه ترك آثاره على معبد الكرنك فى الأقصر، حارب الحيثيين ستة عشر عاما وانتصر عليهم فى معركة قادش، ويغيظنى منه أنه حكم البلاد سبعا وستين سنة وتزوج بخمس أو ست عظميات وكان أبا لأكثر من مائة ولد ملكى، وفى نهاية عهد الرعامسة كان حكمهم خاملا يرثى له، اتسم بفضائح إدارية وشقاقات داخلية ونهب مقابر طيبة، وارتفاع أسعار المعيشة، وتخلوا عن الحكم إلى الملوك الكهنة.
منذ ست وثلاثين سنة، جمعتنى مع رمسيس واصف( رسام الكاريكاتير المعروف) أيام قضيناها على أرضية خيمة كشفية فى المعسكر الكشفى لطلاب الجامعات فى حلوان، وقتها كانت لرؤوسنا هالات من الشعر ولعيوننا حواجب كثيفة، ولأجسامنا أرجل تثب فى الهواء وتلحق بالأتوبيسات وتصعد السلالم فى لحظات، وقتها لم يكن الفقر عيبا، كان العيب محصورا فى أن يعيش الناس دون رغبة فى الحياة، وكانت المجانية شعار كثير من الحاجيات الضرورية، التعليم الجامعى وذهاب الطلاب إلى معسكرات كشفية، ووجبات الطعام فى المعسكرات0
فى المعسكرات القديمة، كان الشيوخ والأساتذة يملأون القاعات بالمحاضرات والإرشادات، وكان الطلاب ومشاريع الأصدقاء يملأون الخيام بالفتوة وينثرون أحلام الشباب0
فى ذلك المعسكر القديم بحلوان، كان رمسيس واصف أكثرنا التصاقا بالورق وأقلام الرسم، فى الصباح يهرب من ترتيب الأسرة وتنظيف الخيمة، وحين نظهر له العين الحمراء، يرجونا أن نتوقف فى حاله سكون كى يتمكن من وضع خطوط رسوماته الكاريكاتورية لوجوهنا، وفى المساء يهرب من المحاضرات وطوابير خدمة المعسكر، وحين نقرر التكاتف للإيقاع به، يعدنا بترتيب حفلات سمر نكسب فيها المنافسين، فى تلك الأيام حصلت من رمسيس على أول رسم كاريكاتورى مجانى لوجهى الكريم، وبدأت من يومها أتفنن فى رسم لوحات لكل الشخصيات، بيضة كبيرة متعرجة الحواف تمثل الوجه وستة بيضات ملونه صغيرة للأذن والعيون والأنف والفم، يحيط بالبيض شعر وتجاعيد وتوقيع اسمى الفنى0
تهاوت السنون تمر بنا على درب الزمن، وانهارت مجانية التعليم وضنت الجامعات على طلابها بالمعسكرات، وأصبح رمسيس فنانا رساما، يفتح بيته من رسوم الكاريكاتير، يعرفه كثير من أهل التلفزيون، بأنه رمسيس يا، أما أنا فيتوعدنى معظمهم بهرس العظام كلما حاولت رسم صورة أحدهم، ذلك بأننى أرسم الناس بالكتابة، لوحات من بيض ملون يتدحرج فى خطوط متشاكسة ودوائر غير مكتملة تثقبه أسهم وعلامات تعجب0
منذ أيام شهدت سلالم هيئة الكتاب بكورنيش النيل، صوت أحضان بينى وبين رمسيس، وحين ناديته يا رمسيس يا، ظهرت اكتنازات الدهون على الجوانب، وتعاظم الصلع على الرؤوس، وتقلصت حواجب كانت حواجب، واصطكت أرجل ما عادت بقادرة على أن تكون راقصة، وأصبح لائقا بنا أن نوقف الزمن، نتبادل المديح والدعاء والتفاخر، نطلب الزواج والستر والأدوية وكرم الأصدقاء وحكمة الأعداء كى نبدأ الحياة فى قداسة من جديد.
ألقاها رمسيس فى وجهى، انه يقرا بعضا مما أكتب، ويرى أن الناس لا ذنب لها فى أن تمتلئ مقالاتى باستعراض فقر أهلى وضعف عشيرتى وتسلط زوجتى وتفاهة زملائى وفساد وظيفتى، وتنحسر كتاباتى على عالم ضيق لا يسع غير حمير وبط وأبقار وشحاذين تسرح فى زرائب من الجلة والسباخ، تشرب من الترع وتعوم فى المصارف وتحيط بها قلة القيمة.
يا عزيزى رمسيس يا، من المفاهيم المستقرة بين نقاد الفنون، أن موضوعات الفن تنحاز لأغلبية ما يعاشره الفنان من وقائع، وجماليات النص الفنى هى تنويعات على لحن أساسى يحلم به الفنان فى إعادة صياغة تلك الواقع، وأنا أحلم بتغيير الواقع.
قبل خمسين سنة تقول الإحصاءات أن مجتمع الرفاهة الاقتصادية فى مصر لم تتجاوز نسبته الخمسة فى المائة من السكان، وانه بعد خمسين سنة من محاولات الانغلاق والانفتاح وصلت النسبة نفسها إلى خمسة عشر فى المائة فقط، ويبقى الفقر ممسكا بتلابيب ستين مليون مصرى، لا يظهرون فى التلفزيون ولا يكتبون فى الصحف0
يا عم رمسيس يا، هل بعد هذه الإحصاءات فى بلادنا، أيكون المطلوب وضع اليد على الوجيعة، أم تزكية فنون التسالى ونشر أخبار النجوم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - الأونروا: الأوضاع في غزة كارثية ج


.. جهاز الشاباك: حذرنا بن غفير والأمن الوطني من استمرار الاعتقا




.. شهادات أسرى غزة المفرج عنهم حول التعذيب في سجون الاحتلال


.. مواجهة شبح المجاعة شمالي غزة بزراعة البذور بين الركام




.. مدير مستشفى الشفاء: وضع الأسرى في السجون الإسرائيلية صعب ومأ