الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كومبارس

عبد الكريم العامري

2005 / 12 / 18
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير


قادني القدر ذات يوم من عام 1995 الى أن أتسكّع في شوارع عمان بعدما تركت الأهل في العراق على مضض لظروف قاهرة ليست هي بأحسن حال من ظروف العراقيين الذين سبقوني الى مدن الله الواسعة . هناك ، لم يشغلني وجه المدينة النظيف قدر ما شغلتني معاملة الناس للعراقيين بجفاء غريب وقاسٍ وكأنهم في ذلك يشاطرون سلطة البطش والتنكيل مطاردة العراقيين .. قليلون – جداً – هم من وجدت فيهم طيبة القلب ورحابة الصدر ، لكنّ الآخرين فكانوا صداميين حدّ النخاع !
كانت الساحة الهاشمية التي يشرف عليها المسرح الروماني الكبير حبلى بالعراقيين وكأن العراق قد تجمّع في ذلك الوادي ، وجوهٌ حائرة ، شاردة ، تندب حظها بعدما تخلّصت ( بقدرة قادر ) من آتون وطنٍ صار فيه العيش موتاً زؤاماً ! .. ساعتها تساءلت : كيف يلفظ الوطن أبناءه ويتركهم فرائس للطامعين ؟! وعندما استعيد شريط حياتي أقتنع أنه الحل الأمثل ، كي يعطي المرء نفسه فرصة أخرى للحياة خير من أن يجدها رقماً في مقبرةٍ ضمت آخرين في بقعةٍ مهجورة من أرض الوطن .
في عمان ، يتسكّع العراقيّون ، دونَ بوصلةٍ تدلّهم على برِّ الأمان . يحملون جوازات سفرٍ سياحيّة لا تؤهلهم للحصول على أيّةِ فرصة عمل .. ومنهم من خلا جيبه من أية أوراق ثبوتيّة . وهكذا أصبح شبح الجوع يقف جنباً الى جنب الخوف من بطش مخابرات النظام في الخارج .
أيهٍ أيّها العراقي ، حتى في المنفى لا تنجو بجلدك ؟!
هناك ، في الوادي الكبير ؛ فيلادلفيا ، اتخذ العراقيّون من السماءِ غطاءً ومن إسفلت الشوارع الباردة فراشاً ، ينامون في الأرصفة والحدائق حتى قال قائلهم بلهجةٍ عراقيّةٍ خالصة واصفاً الحال : ( يا عراقي يا شريف ... ليش نايم عالرصيف ؟! ) .
في شتاء ذلك العام ؛ 1995 ، تجمّدَ خمسة عراقيين وماتوا . قضوا نحبهم بعدما امتنعت الفنادق من أن تلمّ خوفهم وتعبهم ذلك لأن جيوبهم فارغة من ( المصاري ) .
للآن أتذكّر كيف جمّعنا – نحن العراقيون – نقوداً من أجل أن نعيد جنازة عراقي الى أهله في الوطن .
للآن أتذكّر كيف امتنع المستشفى الأردني من تطبيب عراقي لعدم امتلاكه ما يسد تذكرة الدخول الى المستشفى .
وللآن أتذكّر العراقيات وهنَّ يفترشنَ الأرصفة يبيعنّ السجائر ويطاردهنّ رجال الأمانة والشرطة .
في ذلك العام الكئيب ؛ 1995 ، التقيت بأحد العراقيين وقد حُلِقَ شعر رأسه وحاجباه وشاربه ايضاً ، حتى بدا وكأنّهُ مخلوقٌ جاء من كوكبٍ آخرٍ ، بالضبط مثل تلك المخلوقات الغريبة التي نشاهدها في الأفلام الأميركيّة ! .. رأيته حزيناً ، صامتاً ، منهاراً .. ظننت في الوهلة الأولى أن الرجل قد أصيب بمرضٍ من ذاك الذي يسقط الشعر .. لكنّهُ أفصحَ عمّا في داخله وأخبرني أنّ متعهداً في التلفزيون الأردني إختاره وعدد من العراقيين للقيام بدور كومبارس لأحدى المسلسلات التلفزيونيّة التي تتناول عصر الفراعنة ! .. و ( هكذا وجدتني يا أخي أصيح بصوت مبحوح : رع ... رع ... رع !!! ) .
لم يكن العراقي في يوم ما ، وعلى مدى حقب التاريخ، غير شخصية رئيسية ، فما الذي جعلهُ مختبئاً خلف الكواليس في دورٍ ثانويٍّ..؟ أهي مصادفة أن يكون (كومبارس) في التلفزيون مثلما أرادوه أن يكون في الحياة ؟! أم هو الحنق من شخصية أثبتت جدارتها بعد إن منَّ الله عليها بوافر خيراته وعلمه ؟
يا لسخرية القدر ، أن يتسلّط على الرقاب من لا يرحم ، يذلّ أعزّتنا ، ويشتت فلولنا ، ويستأصل جذورنا ، ويقطع أوصال أرحامنا ، ويقتل صغيرنا وكبيرنا ، يشاركهُ في ذلك من لاضمير له ولا حياء ، يظنّ أن المُلكَ يدوم والظلمَ يُثبّت الأسس والأركان ، ويجعل الرعيّة مثل أغنام يجرجرها حيث المجازر وما درى أن الله قادر على كل شيء .
واليوم ، بعدما دارت على الباغي الدوائر ، هل يتّعض المطبّلون والمزمّرون للشيطان ؟
أنها وقفة مع الذات لاسترجاع ما لا يمكن إصلاحه مما فات ، وإصلاح ما يمكن إصلاحه مما يجيء !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح


.. الرئيسان الروسي والصيني يعقدان جولة محادثات ثانائية في بيجين




.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط