الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضواء على سيكولوجية العبودية

حسن الفجح

2016 / 7 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


كتب عزمي بشارة قبل شهور مقالا عنوانه "سيكولوجية العبودية" عالج من خلاله كيف يتعامل الناس الذين ألفوا أنطمة حكم استبدادية، مع تغير نظم الحكم نحو الديمقراطية؛ حيث اختار الثورة المصرية ليوضح طبيعة هذه السيكولوجية. ففي مصر كسر الشعب جدار الصمت و تحدوا الخوف و ثاروا في وجه نظام مبارك ذي القبضة الأمنية المتشددة، و استطاعوا في ظرف وجيز أن يطيحوا برأس النظام و يبدأوا فصلا جديدا يؤسس للديمقراطية يعيد للمواطن المصري كرامته.
في ظل هذا التحول، الذي باركه جل الشعب المصري، نظمت انتخابات حرة و نزيهة (ربما لأول مرة في تاريخ مصر الحديث) حملت تيارا إسلاميا إلى الحكم ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين. لم يمر سوى وقت قصير حتى بدأت أصوات الامتعاض من حكم الاخوان تتعالى، اشتدت بسرعة و اتسعت دائرة الانتقادات و تكونت كتلة عريضة ناهضت اسلوب الاخوان في الحكم و عارضت بشدة سياستهم، و الى هذا الحد كانت الامور مقبولة في بلد يتعلم اولى فصول الديمقراطية، لكن الوقائع تسارعت بشكل مخيف و استغل العسكر الوضع بشكل ذكي و قاد انقلابا أبيضا في شكل احتجاج شعبي جند له كل الوسائل ليتم في النهاية على أحسن وجه.
فرط المصريون في الرئيس المنتخب محمد مرسي ، لكن واقع الحال أنهم فرطوا في الديمقراطية الفتية التي كانت تتشكل بصعوبة (لسنا هنا ندافع عن مرسي او الاخوان، فقد ارتكبوا من الاخطاء الكثير، لكن ما يهمنا بالاساس هو الدرس الديمقراطي الذي لم يتم). تعامل المصريون مع محمد مرسي بقسوة و نالوا منه بشتى انواع الشتم و السب و التهكم و الازدراء طيلة فترة حكمه القصيرة، و رغم انه كان منتخبا بشكل ديمقراطي فان المصريين تعاملوا مع الفريق عبد الفتاح السيسي باحترام (او هو ربما خوف) كبير، بل ان المثقفين و الاعلاميين قادوا حملة محكمة دفاعا و تأييدا و تلميعا لصورة الجنرال الذي انقلب على الشرعية الديمقراطية؛ هنا بالذات نلتمس ما أسماه بشارة "سيكولوجية العبودية" حيث تعامل محمد مرسي "اللطيف" و الديمقراطي (الى حد ما ) و المتواضع و الرحيم مع شعبه و اهتمامه باوجاعه بشكل انساني لم يشفع له، بل انقلب الى نقيضه و تنكر الشعب المصري للرئيس المنتخب، بينما هلل و طبل و احتفى بحرارة بحكم السيسي رغم جفائه و قسوته و بطشه و تنكيله بمعارضيه و رافضي الانقلاب. و لعل التفسير الوحيد لهذا السلوك الذي يبدو شاذا هو أن من ألف الاستبداد و الاستعباد و تربى في ظله لن يرضى بغيره بديلا و لن يتفهم أسلوبا مغايرا و مناقضا لأسلوب القمع و التنكيل و الاهانة.
هذا النموذج الذي أنتجه الاستبداد و الاستعباد يمكن تعميمه على كل الشعوب التي عانت من هذا الوباء اللعين؛ فمعظم الدول العربية عانت من هذا الوضع بنسب متفاوتة، و نتج عنه أن ترسخ في لاشعورهم بنية نفسية تتوق للعبودية و تنفر بشكل كبير من الاساليب اللطيفة التي تحترم انسانية الانسان و تقيم وزنا لكرامته. و المغرب ليس استثنائيا في هذا الباب؛ فمعظم المغاربة في احاديثهم اليومية يتوقون الى أيام وزير الداخلية ذائع الصيت ادريس البصري، بل و يجدون أن تلك الفترة هي الجيل الذهبي الذي عاشه المغاربة منذ الاستقلال. و لو قارننا بشكل موضوعي عهد البصري بما نعيشه اليوم لاتضح البون الشاسع و لوجدنا أن دافع الحنين الى العبودية هو المحرك الوحيد لتمجيد تلك الفترة. و اليوم أمام ما نعيشه من انتقال ديمقراطي في ظل دستور متقدم و صلاحيات واسعة (نوعا ما ) لرئاسة الحكومة، فان حجم الانتقاد بل و التهكم و السخرية من رئيس الحكومة السيد عبد الالاه بنكيران تجاوز المألوف و تخطى الحدود التي لم تتجاوز في ظل الملكية التنفيذية قبل 2011، والتي لم يكل لها كل هذا الحجم من الانتقادات. و لا يفسر هذا الأمر فقط بكون هامش الحرية قد اتسع بعد حراك 20 فبراير، بل يعود الأمر بشكل كبير الى سيكولوجية العبودية المترسخة عبر الازمان؛ فامام تساهل رئيس الحكومة الحالي و تعامله الديمقراطي الى حد كبير مع الشعب فإن كثيرا من النفوس تتوق الى "أيام البصري" الذي عرف بغلضته الأمنية.
نظر الى عبد الإلاه بنكيران أيام كان في المعارضة باحترام شديد، لكن ما إن وصل الى رئاسة الحكومة و حاول إعادة الاعتبار للمواطن المغربي و تحصين كرامته بأسلوب بعيد كل البعد عن الاساليب الخشبية المعهودة منذ زمن، حتى تتالت حملات التشويه و الانتقاد و الاستهزاء و الازدراء، مؤكدة من جديد أن النموذج الديمقراطي المتقاطع مع هموم الشعب غير مرحب به، و أن شعبا جبل على الإستعباد سيصعب عليه فهم الأسلوب الديمقراطي في كليته.
إذا كان الأمر هكذا في الديمقراطيات الفتية التي لازالت تصارع مع مخلفات الماضي، فإن الديمقراطيات التي باتت تعرف ثباتا قد قطعت مع هذه العقليات و النفسيات. فتركيا بعد صراع الديمقراطية الطويل مع العسكر، توج بحكومة استطاعت بعد حوالي 14 سنة أن تنهي زمن الانقلابات و تنهي معه معالم الاستعباد و تخلص النفوس من هذا البلاء. فحكم طيب رجب أردوغان سواء حينما شغل منصب عمدة اسطنبول او بعدما وصل الى رئاسة الحكومة او حينما صار رئيسا للبلاد، جعل الاتراك يتعلقون بهذا الرجل و ازداد حبه في قلوبهم، لكن يبدو في حقيقة الأمر أن تعلقهم به و حبهم له لم يكن لشخصه بل كان تعلقا و حبا للديمقراطية التي كان يمثلها أردوغان، و الدليل هو أن طموح أردوغان في توسيع صلاحيات رئيس البلاد عبر عزمه تعديل الدستور قد جوبه بعقاب شعبي خسر بموجبه أردوغان و حزبه، في الانتخابات ما قبل الأخيرة، أغلبيته التي كانت ستخوله تشكيل حكومة بأريحية؛ و هي رسالة قوية لسان حالها يقول أن حب أردوغان من حب الديمقراطية و أن المساس بالديمقراطية خط أحمر و لو جاء هذا المساس من أردوغان نفسه. و هو الأمر الذي جسده الشعب التركي حينما تصدوا بصدور عارية لمحاولة الانقلاب الأخيرة و أجبروها على الفشل، ليس حبا في أردوغان و حكمه بل حبا في الديمقراطية و رفضا لكل أشكال الاستعباد، و هو درس بليغ يبين أن الديمقراطية ثقافة و سلوك يتشربه المرء بالممارسة و المران الطويل.
إن معاناتنا مع هذه السيكولوجية المعادية للبناء الديمقراطي، لا نجد لها حضورا في السياسة فقط، بل إنها منتشرة بين كل ثنايا المجتمع و عبر كل مؤسسات من الأسرة فالمدرسة ثم الشارع، إنها ثقافة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.
إن ترسيخ الديمقراطية لا يكون سوى بالديمقراطية بل و مزيد من الديمقراطية، و لعل هذا الأمر لا يقع تحت مسؤولية الدولة لوحدها بل يقع أيضا تحت مسؤولية المواطن الذي لا بد أن يكون ديمقراطيا في حياته اليومية ليعمل على ترسيخ الديمقراطية كسلوك و ثقافة لا بد لها أن تعم و تنتشر داخل مجتمع طال فيه انتظارها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا علقت قناة الجزيرة على قرار إغلاق مكتبها في إسرائيل


.. الجيش الإسرائيلي يسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح




.. -صيادو الرمال-.. مهنة محفوفة بالمخاطر في جمهورية أفريقيا الو


.. ما هي مراحل الاتفاق الذي وافقت عليه حماس؟ • فرانس 24




.. إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على «موقع الرادار» الإسرائيلي| #ا