الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوهق

ماجد رشيد العويد

2005 / 12 / 19
الادب والفن


فتّشت دخيلتي فوجدتها ركاماً من الفراغ، وعمقاً أجوف يرجّ محدثاً دويّاً قوياً، لأدنى هزّة أو ذبذبة من أصغر كائن، قل من ذبابة، إن شئت، فهذه على صغرها وبشاعتها كانت قادرة على بعث الرنين والدويّ في جوف لم يكن أكثر من طبل، ولعله أيضاً كان مهترئاً، بالياً مثل إحساسي بالزمن. ولعلّ تمرّدي كان مكراً ولعله كان لاختلاس الحقيقة، وتعمير جوفي الفارغ بها.
أقول الحق لا سواه، فالاعتراف بكوني هشّاً خاوياً، أرنّ محدثاً صلصلة عظيمة في الحيز المفرغ من كل معنى … الاعتراف هذا سيكون مساراً لي إلى درب الشعر، وحصراً إلى أبيات منه أعمّر بها الجمجمة السكرى، فأتمثلها وأجعل منها نهجاً لي في تمرّدي على كل شيء، على كفري وهدمي لذلك الجمال الذي شفّت عنه الحياة، وعلى اجتثاثي لتلك الجذور القديمة والعتيقة. كنت لعنت التاريخ، وشتمته بعقل أرعن واصفاً إياه بالأصفر الشاحب البائس، الرث الهيئة، وكنت لعنت تجلياته بحجة مسخها نضارة الحاضر. سحقت شعاراته القادمة من وراء الزمن البعيد. ولأن ملامح امرأتي أبقتني طويلاً في دائرة الهيام بها ألهث كالمجنون وراء الشحوب المنشور على الخدّين، والساكن في العينين، ولأن معاتبتها لا تقف عند حد، ولأني قلت لها بقاؤك هكذا يدفعني إلى الموت، ولأنها قالت مجنون، ولأشياء أخرى كثيرة طلّقتها. قلت لها أنت طالق ثلاثاً طلاقاً بائناً بينونة كبرى. انهارت زوجتي وبكت. قلت: لا تبكي إنه بائن، وهذا يعني موت الجدوى من البكاء وخمط الشعر وشقّ الثوب من فوق.
خرجتْ من البيت تجرّ هُزال أيامها، ويجرّها هزالُ ملامحها العتيقة إلى الشارع، وهناك عند الرصيف قامت بانتفاضتها تقذفني بأقذع الشتائم. ليس مهمّاً فلم يكن في وارد حساباتي أن أهتم ببقايا امرأة عشت معها في كنف السنين التي اهترأ إحساسي بها، بل لقد اهترأ إحساسي بنفسي وروحي. إن لي روحاً مغموسة بالظلمة، وخاطني رفضي لوجه زوجتي التاريخي جسداً ترتديه فخرجت إنسانا أتقن فنّ المكر. وتمثّل بعض الشعر تمثلاً مقلوباً، فمشيت على رأسي، متمرداً على النأمات الهادئة الساحرة، عاشقاً لضجيج الوجود وخبطه لي.
جرى كل ذلك لمّا اكتشفت هشاشة أعماقي، قلت سأسعى بكل العزم إلى الناصية، قال اقرأ. أردت أن أفعل فاشتريت عدداً ضخماً من الكتب. كنت أذعن للحوار واستسلم بعد أن يهدأ ويتخافت ضوء الجدل لذلك الصراع النابت في أعماقي. تعاظُمُ الإحساسِ بخوائي ظلّ ينعكس على زوجتي، فقد ظلّت مصرّة على اتهامي بالجنون، وبإفقارها وتجويعها مع الأولاد. لمّا أكون مستغرقاً في النوم الذي يشملني برعايته، والذي ما فتئ يوكل بي نعاساً عذباً آسراً، فلا أرضى في الصيف وأنا نائم في باحة الدار التحرر من إساره الجميل قبل أن تأتيني الشمس، وتخترق أشعتها جمجمتي، فأنهض موصوفاً من زوجتي بالأبله والبليد والغبي وبنعوت أخرى شكّلت سبباً للقضاء عليها بطلاق بائن بينونة كبرى
فكرة القراءة ضغطت عليّ بدافع من الاعتقاد بفقـري الفكري. اشتريت كتباً وقللت من ساعات العمل، ولا بأس بإلغائه عند الضرورة، هكذا تخففت من الضيق ودفعت عن جسمي احتشاء أكيداً. كنت أعلم أن زوجتي لا تدرك أبعاد قراري، فهي لم تتنطّع في حياتها لأكثر من شؤون المعدة.
عندما أشرت إليها بوجوب إتقان فن التقشف لتأمين الفرصة لشراء الكتب قلت نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع. هذا حديث نبوي يا امرأة. وسألتها هل تعرفين معنى أنه حديث نبوي. إنه كلام لا يرقاه شك، استوعبيه قبل أن يصير عقد زواجنا باطلاً وتصبحين طالقاً طلاقاً بائناً، غير أن زوجتي التي مسخها الزمن هزالاً وشحوباً، وذاكرة مثقوبة أبت إلا الإصرار على اتهامي بالحماقة. آنذاك قلت لا يتساوق النور مع الظلام، ولا العقل مع الجهل. كـذب الناس فلا إمام سواه. طلّقتها، ورغم أني لا أعرف قائل هذا البيت، ورغم ما قيل عن محمولاته من الكفر والعصيان، فإنه بيت يتشفّى به أمثالي بأمثال زوجتي.
عشرات المكتبات دخلت، هالني ما رأيت من تراكم الزمان على الرفوف في كتب متنوعة، احتفظ ذهني بمئات العناوين، موسم الهجرة إلى الشمال، تكوين العقل العربي، خفت بداخلي جرس الصلصلة. عدت إلى البيت مع مجموعة كبيرة من الكتب أخذت أصطنع هيئة المثقفين بجلوسي إلى الطاولة، وبوضع إبهامي على خدّي وسبابتي على صدغي، وقلت لعلّ وضع الاستغراق هذا يحمل الدماغ على ضخ الأفكار وبضخها أصير واحداً من العارفين. بعد حين وجدت الكتب يعلوها غبار سميك، دخيلتي تزداد تكلّساً. اكتشفت أن قتامة الأفق مبعثها قتامة نفسي، وقلت لا بدّ من تبييض السواد، وجلي الصدأ عن الذاكرات التي أحمل. وآمنت أنه لا ينبغي لي أن أدرك معنى نهائياً للحياة ولا الحياة تدرك لي قراراً. نحن أنا والحياة منزلقان، وربطت بطريقة ما بين هذا الانزلاق وبين غرفتي المقلوبة.
في فراشي أشرب قهوة رديئة الصنع من يد ابنتي، وكثيرا ما كنت أترك الفنجان على الفراش مباشرة. للوقت عند المثقفين أهمية كبرى. أحدهم قال إنه وكي لا يضيع دقيقة واحدة من زمانه المقدس فإنه يشرب القهوة فور استيقاظه في فراشه، ثم ينهض مرة واحدة إلى علومه ومعارفه، وكان يستيقظ في الحادية عشرة لا قبل.. وكان يقول لا بأس بالتضحية بالنهار لأن الليل لإنشاء المعارف.
كما قلت إن عمقاً أجوف يقوم مقام أحشائي، ويضخ دماً فاتر اللون لدماغي، أو أني أحمل عمقاً ممتلئاً، من يدري؟ فلنقل أن قلقاً خرّب توازنات رأسي فصار إحساسي بالزمن ممهوراً بالهجين من الأفكار، وفي الطريق ذي الأبعاد المائعة أرى الناس فينتابني نحوهم حسّان متناقضان فتارة يتجلّى الخلق مستحاثة خرجت من تحت أديم غابر مجهول اللون، وفي الأخرى أراهم عبر حركتهم الذاهبة والآيبة يتجلّون في نشاط عمّر الأرض. ولأنني وقعت في شرك التناقضات، ولأن رأسي الذاهلة عمّرها الخراب والحيرة وتعدد الدوافع إلى شدّ الأنشوطة خرجت إلى الطرقات وطفت بالبيوت متمرّدا على الفوضى التي حطّمت أعلاي، ومتمنياً أن أقتنص من الدبيب البشري العجول معنى جديداً لي. كان كل ما أراه يثير الفضول. قلت إثارة الفضول بداية المعرفة، وبداية تحطيم الهشاشة، وملء الفراغ وتعمير الجوف الأجوف.
بحثت عنه بين الحشود المتدافعة. لمّا رأيته قلت له ما تقول في هذا الدبيب البشري. قال لي: فيض يسيح منه بحران من الطمأنينة والقلق، وتمخرهما الأقدام وتختزنهما العقول. وسألته ماذا أحتاج؟ قال: إيماناً يعلو بك وتعلو به. ثم تركني ورحل غير آبه، ولا أدري لم شعرت إزاءه في لحظة سريعة أنه يشبه آلة في كلامـه دون تلك النفحة من الروح، ودون ذلك الوثوب لها.
تابعت سيري مزحوماً بالأفكار والصور وبزوجـتي المطلقة. في الطريق شاهدت رجلاً معمماً، فسألته كيف لي أن أميز بين بحرين مختلفين في الشراب ومتداخلين في النسيج. كان رؤوماً معي فسدّد صوبي نظرة حانية وقال: الصبر فقط ينشئ الإيمان وخلّفني وراءه وهو يتابع خطوه الرتيب دون أن يبالي بشيء. من جديد حثثت خطاي في الشارع المملوء بالناس وبالسيارات وبالأصوات والهتافات التي تقطّعت محاولات إدراكي لكنهها، ولم أهتم بعدم قدرتي على الفهم.
تابعت خطاي نحو ما يقيني حيرة وجودي الذاهل. قلت: فور وصولي، سأسبح في البحر الهادئ المطمئن، عساها تطمئن روحي، ويتلاشى شططي وينهار عقوقي. وربما أقبل أن أعيد زوجتي رغم كراهيتي الشديدة للطريقة المفروضة، ولكنني اطمأننت إليها لأنني السبب في إطلاق اليمين البائن.
كنت بحاجة إلى تمرد جديد يفضّ أركان تمردي السابق. فماذا يعني أن أنسف الحياة بنسف حياتي؟ وماذا يعني أن زوجتي لا تدرك أبعد من أنفها. وربما لا يعني هذا أكثر من غشاوة سدّت من أمامي منظر الغسق الجميل، فما يكون الغروب جميلاً إلا ليهيئ صباحاً أجمل وشفقاً أروع. إن تطليق زوجتي كان الأنشوطة التي حزّت خلاياي الرأسية، وإقدامي على الموت بإماتة نوازعي إلى الحياة مبعثه موات النفس وتقيؤها الحياة، ولعل الحياة تقيأتني لما أحمل من أفكار مهلكة.
بدا الغسق جميلاً، فالهالة الحمراء في الأفق الغربي أثارت مشاعري وقد أقول شعراً في شفافية الغروب. إذ ذاك بزغت فيّ الحاجة إلى القراءة، قال اقرأ، قلت سأقرأ. سيكون الغروب محطة انطلاق لا انتهاء. سألبي نداء القراءة الأول، وقد انسحبت إلى رحم الفطرة الأولى مرتاحاً من حزّ أنشوطة الذهول التي تلفّ رقبتي وعقلي. ومتمنياً هبوط الكلمات المستقرة في الأعلى حيث جوفي المفرغ إلا من ذبابة ترجّه فيصلّ ويصلصل، وبهبوطها سأرتاح أنا الإنسان الذي التقى فيه البحران، وامتزجا في خلايا استوعبت الحياة، وأعادت إنتاجها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو