الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سانتا لوسيا والشعر الأسود الفاحم

سعد الشديدي

2005 / 12 / 19
الادب والفن


نهارات الشتاء الأسكندنافي معتمةٌ تتخللها الوحشة القاسية. تبحث فيها عن حزمة ضوء دافئةٍ فيضنيك البحث. ولكن الثلج الذي يتساقط في نهاية نوفمبر يكلل اغصان اشجار الأكاسيا العارية ويتجمعُ يماماً ابيض على اسطح المنازل المسقوفة بالقرميد النبيذي، فيضئ الدنيا بعد ان اظلمت.
هذا العام تأخر الثلج جداً. انتظرناه مرغمين. مارسنا طقوس الديانات الوثنية، تلك التي مارسها قبلنا سحرة الفايكنغ ليتحدوا مع الطبيعة الأم ويقنعوها بأن ترسل لنا ملائكة الثلج البيضاء النيّرة تصفق بأجنحتها على عالمٍ أظلمت طرقاته وغاباته. فأستجابت لنا الطبيعة أخيراً، ونزل الثلج من عليائه. بوقارٍ وبساطة لا متناهبة. فأشرقت لوجههِ شوارع مدن الشمال وطفقنا نسمع أصوات ضحكات الأطفال وضوضاءهم وهم يمارسون لعبتهم المفضلة: حرب كرات الثلج.
كل عام يتساقط التلج. وكل عام يلعب الأطفال في الشوارع وطرق الغابات الضيقة. وكلّ عام تدقّ سانت لوسيا الأبواب. حاملةً شموعها في بحرٍ من النور الغامر الذي يكلل شعرها الأسود، فيتصاعد وهجاً رغم ظلمات الشتاء ونهاراته القصيرة، ويكشفُ عن وجهٍ المرأة.. الأم... الآلهة... العاشقة... الشهيدة.
الظلمةُ وسانتا لوسيا ثنائيُ لا يفترق، ولا يمكن ان يفعل ذلك، في التقويم السويدي. فما ان يدخل الفصل البارد حتى تصحو القديسة من موتها الأزلي. تجمع الصبايا والفتيان حولها وتحمل شموعها وطبقاً من الكعك البني اللذيذ وكؤوساً من شرابٍ ساخنٍ معطرٍ بقطع القرنفل الزكيّ ممزوجاً بالزبيبِ واللوز. تدقّ الباب، ولا تنصرفَ حتى يُفتح. يتقدم من في البيت اليها واحداً بعد الآخر يأخذون بصمت قطعة الكعك ويشربون الكأس الساخن بينما تتصاعد أناشيد عيد الميلاد وأغاني السويديين الذين توارثوها عبر القرون. أهيَّ اغانيَّ أمْ تمائم تطرد شرور الأرواح القلقة العالقةِ بين الأرضِ والسماء؟
انها سانتا لوسيا، المرأة القادمة من الجنوب، المرتدية البياض. المتبوعة ابداً بجوقة المغنيين من الصبايا والفتيان.
الصبايا يرتدين الفساتين البيضاء الطويلة وعلى الخصور الفتّية تتدلى اشرطةٌ حمراء قانية معقودةٌ بعناية لتتدلى الى اليمين. واكاليل لامعة من الورق الأحمر والأبيض تزين الرؤوس والشعر الذي تجمعت عليه نتف الثلج فصار مثل عرفِ حصان سماوي جامح. أما الفتيان الذين لا يكادُ احدٌ يراهم رغم وجودهم في الجوقة فيحملون نجوماً فضية اللون ويقفون في مؤخرة السرب. ربما لأن سانتا لوسيا ترفضُ ان تقاسم يومها مع أحدٍ سوى بنات جنسها. المرأة.. الدفأ، تريد من الرجلَ ان يتنحى جانباً في هذا الفجر الرماديّ. أن يغني دون أن يسمعه أحد. أن يكون نجماً صغيراً في مجرتها المكتنزنة بالصوت واللون والرائحة.
هذا العام فاتني ان اقف خلف الباب منتظراً قدوم القديسة. كنت غارقاً في بغداد. في أخبارها وتفاصيل شوارعها وحملاتها الأنتخابية. ربما قرعت بابي وبقيت متسمرة مننظرةً ان افتح لها واتناول بصمت قطعة الكعك وأرشف قدح الشراب الساخن. هذا العام كانت بغداد ممتدةً في ظلالِ العوسجِ الذي أَنساني أن أمرأة الدفأ ستجئ فجراً وأن عليّ ان اصحو ككل عام لألوح لها مستعيداً حرارة الأنسان في المسام والشرايين. هل نسيتُ أم تناسيت؟؟
هل كنت منتظراً مجئ سانتا لوسيا الى شوارع بغداد الخالية من البشر والحياة بدل شوارع ستوكهولم التي تكدّس الثلج على أرصفتها؟ أعرف انها لن تجرأ على النزول بموكبها المقدّس الى ضفة دجلة. فقد يختبأ قنّاصٌ في غابة النخيل التي بدأ الموت الأصفر بغزوها شيئاً فشيئاً. وقد تقف سيارة مفخخة خلف احد الأبواب وتنفجر لتبعثر الشموع وتغتال الشعر الأسود الفاحم الذي يرتخي على كتفين أضاءهما الكبرياء.
هذا العام تبدلت الدنيا بعض الشئ... ككلّ عام. شئ واحد بقيّ على حاله: نظرة سانتا لوسيا الحالمة التي تذيب الثلج وتبعثُ الدفأ في اوصال العالم. عفواً... وشئ آخر: سماء بغداد.. التي ما زالت سوداء، كما كانت، حتى هذه اللحظة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري