الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الشوق الاجتماعي للمسرح .... ومخاطر خيانته!

عبد الناصر حنفي

2016 / 8 / 6
الادب والفن


ثمة ما يشير إلى أن المسرح المصري يمر حاليا بما يبدو وكأنه دفقة من الحميمية الجماهيرية الغامضة وغير معروفة المصدر، أو الكثافة، ولكن الواضح أنها ذات طبيعة مختلفة تماما في منبعها وتوجهاتها ومتطلباتها، وهذا هو ما يكمن وراء ذلك الدفء وروح استعادة الأمل التي تتسرب الآن تجاه بعض المسرحيين وهم يرصدون هذا الاشتعال الخفيف –حتى الآن- لما يمكن تسميته بظاهرة الشوق الاجتماعي للمسرح، والتي سنحاول هنا رصدها، وتفسيرها، وتحديد شروط حضورها ورهاناتها.
لقد مر الوعي الاجتماعي المصري بالكثير من التقلبات العنيفة والصادمة والمنهكة انطلاقا من يناير 2011، وحتى الآن، بداية من الانفتاح الذاتي المتفائل، والمبتهج، نحو العالم والمستقبل، مرورا بالعديد من الصراعات التي جلبت الكثير من الاندفاعات والتصدعات الاجتماعية والروحية على نحو غير مسبوق في حدته وتواليه، بل ودمويته أحيانا، وصولا إلى انسحاب شبه كامل ولكنه مفاجئ وغير منظم تجاه معاودة اجترار ما هو يومي بوصفه الأفق المغلق للعالم.
وعبر هذه المراحل التي شهدت تباينا شديد القسوة والفظاظة بين انفتاح المجال العام ثم انغلاقه، تطورت حالة من الوعي الشقي والمتعب أو البائس، والذي يصفه "هيجل" بأنه ذلك الوعي الذي لا يجد نفسه إلا فيما ينفيه لا ما يؤكده، بحيث أن ثقة الذات بعالمها ستعود بالأساس إلى ما لم يتم نفيه بعد من مكوناته، وبطبيعة الحال فهذه الثقة تغرس نفسها في بحر من الرمال، لأن ما لم يتم نفيه حتى الآن يظل بطبيعته قابلا للنفي، وهو ما يجعله دائما عرضة للترنح والتلاشي والذوبان أمام أي تحدي يطرحه "الحدث المباشر" في الواقع المعاش، فما يتأسس عبر ما هو "حدثي" أو "خبري" وسطحي سيظل اسيرا –دون ضمانات- لتقلبات ما هو عارض ويومي، وربما كان هذا الوضع القلق وغير المستقر هو ما يكمن وراء صعود وهيمنة ما يمكننا تسميته بحالة "الهوس الإخباري"، التي بدأت انتشارها عبر لحظة ما في عام 2012، واستمرت حتى "لحظة ما" تقع قبل نهاية عام 2015، قبل أن تنمحي على نحو فاجع، وعبر هذه الحالة كان الوعي "النافي" الذي يتأسس بطبيعته على الانغماس –إلى أبعد حد ممكن- فيما هو مباشر، يحاول حماية نفسه وعالمه من "المباشرة" عبر التحلق والاندفاع الجمعي وراء خبر بعينه يؤشر لفضاء تلاقي فيه الذات نفسها، وتجتمع بالآخر الذي يناظرها، وهكذا، فمن خبر إلى آخر، كان يعاد تشكيل العالم بصورة شبه يومية، ويعاد تصنيف هوياتنا، وعلاقاتنا بالآخر، ومواقفنا من بعضنا البعض، مثلما يتم باستمرار إعادة رسم أو محو ذلك الخط المندفع تجاه مستقبل بعينه، و تدوير قراءات الماضي، عبر استقطاعات تحجب أو تبرز ما يفترض أنه تاريخي، حينا، أو تعيد زركشته بألوان أكثر حدة واستقطابا في هذا الاتجاه أو ذاك، حينا آخر.
ومع توالي صدمات تقليب عالم ما هو معاش على هذا النحو الهادر والمتوالي، فقد هذا الوعي الشقي "النافي" صلته بما هو مباشر، وأصبح بلا علاقة تخصه بالعالم، وبالتالي بات ينشر، ويستحضر، قلقا مستمرا ومتناميا يحايث علاقة الذات بنفسها وبعالمها وبالآخر، بحيث وهنت قدرته على إعادة إنتاج ما يلزمه من تأكيد، حتى ضمر نشاطه وتقلص حضوره إلى حد كبير، ولكنه خلف وراءه وعيا أكثر فجاجة وانغلاقا على ذاته وما يخصها، ولا يكاد يرى لحظة الثقة المؤكدة فيما هو "خارج" وعام إلا بوصفها ما ينتمي لماض لم يعد يستطيع استرجاعه إلا ممتزجا بشيء من الألم، وربما الغضب!، بحيث اصبح "ما كان مؤكدا" يتبدى له في أغلبه بوصفه إما انزلاق ساذج، أو تسليم يائس، أو حتى خطأ مذنب لا ينبغي السماح بتكراره.
وبغض النظر عما إذا كان هذا الوصف الفينومينولوجي ينطبق بالفعل على التيار العام للوعي الاجتماعي المصري، أم يرصد بعض هوامشه فحسب، فمن ينضوون تحت نمط الوعي هذا يحاولون حاليا رأب التصدع في ثقتهم بالعالم، وبعض هذه المحاولات تجد ما يخصها في المسرح.
وهذه الموجة من التشوق الاجتماعي لما هو مسرحي تأتي في مرحلة يعاني فيها المسرح المصري من أزمة جمالية حادة، فالحالات التي مر بها هذا المسرح منذ يناير قد أدت إلى تفكيك جزء كبير من مصكوكاته الجمالية، وتبديد أغلب مخزون رأسماله الرمزي المتعلق بمقاربة الشأن العام* ولكن لحسن الحظ، ربما، فهذه الموجة لم تأت مدفوعة بالبحث عن العطاء الجمالي لما هو مسرحي، بقدر ما تتشوق لعطاءه الاجتماعي**، بمعنى أن نمط الحضور في "الصالة" لا يقل في أهميته وتأثيره وتطلبه عن ما يحضر فوق الخشبة، وهذا الانخفاض في السقف الجمالي يجعلنا أمام ما يشبه جمهور "الترسو" القديم، بغض النظر عن تفاوت المستوى التعليمي والثقافي، وهو ما يمكن تلمسه بوضوح عبر رصد بعض اللحظات التي شهدتها عروض المهرجان القومي للمسرح، فمثلا في عرض "الزومبي" اصطف الممثلون عند مقدمة الخشبة وبدأوا في الصراخ على نحو مؤلم، وغاضب، مجرد صراخ لم يستمر سوى لثوان معدودة، ولكنه انتزع تصفيقا حارا من الجميع تقريبا!، وقد كتبت الناقدة "ليليت فهمي" في نشرة المهرجان عن لحظة مماثلة شهدها عرض "البصاصين" حيث انفجر الجميع في تصفيق حماسي بعدما تدخل صوت ما لإيقاف اعتداء عنيف كانت تتعرض له فتاة، وهذه اللحظات، ومثلها كثير، تشير بوضوح إلى أننا أمام تفاعل لا يتوقف على الإجادة الجمالية، أو الاستمتاع الجمالي بما يجري فوق الخشبة بقدر ما نحن أمام وعي جمعي لجمهور يحاول فرض حضوره الملموس على العرض بحيث يعيد صياغة تراتبياته، ويخضعه لمسار "تثمين" من خارجه تماما، إنه وعي بائس لم يعد يخجل من سذاجته بقدر ما يتعثر في تطابقه معها عبر استجابته لإلحاح نوستالجيا الاندماج في "كتلة" مع الآخر المجهول، وعبر التعاطي مع فعل مباشر و"عيني" (وليس خبرا) يمكن التفاعل معه والتأثير فيه على نحو فوري وبلا توسطات أو وسائط، أو حتى فواصل، مستعيدا ما ترسب في الذاكرة من أساطير الديمقراطية المباشرة، أو ديمقراطية الميادين، وممتصا حتى الثمالة ما تبثه الخشبة من عبير ذلك السواء الطوعي والتناغم الجماعي بين الممثلين. وبمعنى آخر فهذا جمهور قد جاء على المسرح من أجل تعزيز أو بعث قدرا ما من الاطمئنان الاجتماعي عبر خوض حالة من العيانية والمباشرة التي تمنحه ثقتها فيما هو حادث دون أن تسائله أو تطالبه بثقته غير المشروطة "المفتقدة".
إن مثل تلك اللحظات البكماء عادة ما تمر وكأنها مجرد اهتزاز غير ملحوظ في فضاء مصمت ومتبلد، وأن نستطيع التقاطها وإجبارها على الكلام فهذه محض بداية لمسار آخر ينتظرنا، ولا يزال، وذلك لأننا أمام لحظة فريدة للغاية يلتقي فيها مسرح مأزوم جماليا، ويمر بمرحلة إعادة بناء، واختبار، نماذجه، وإعادة تكوين أرصدته الرمزية، بجمهور متعاطف مسبقا ومتشوق إلى هالة الحضور الاجتماعي -العاري جماليا- لما هو مسرحي، وهذا اللقاء الذي يتم بين طرفين كلاهما في أمس الحاجة للآخر، يجري عبر ما يمكن النظر إليه بوصفه "المستوى صفر" فيما يتطلبه من شروط للتواصل، وهو ما يشكل فرصة ثمينة تتيح لكل طرف منهما أن يدفع الآخر ويمنحه الطاقة التي يحتاجها، سواء من أجل استعادة العلاقة المتوازنة بالعالم، أو من أجل تعبيد الطريق أمام اكتشاف مقاربات جمالية جديدة وصالحة ومستقرة، وباختصار فنحن أمام ما قد يفضي بنا إلى تأسيس عصر جديد للظاهرة المسرحية في مصر.
ولكن على قدر عظم الفرصة، تأتي تكلفتها، ويجري حساب مخاطرها، لأنه برغم أن حالة التشوق الاجتماعي لما هو مسرحي قد أعطت المسرح بكافة أشكاله ومستوياته وأوعيته دفعة ملموسة إلى هذا الحد أو ذاك، والتي كانت –مثلا- يمثابة قبلة الحياة لبعض ظواهر المسرح التجاري الرخيص، إلا أن استمرارية هذه الحالة مع الحفاظ على نفس مستوى مطلبها المتواضع والبسيط هو أمر غير ممكن، ولا متوقع، حتى وإن دام لفترة قادمة، فما أن يحظى هذا "الوعي القلق" ببعض الاطمئنان الاجتماعي الذي ينشده إلا وسيبدأ في مساءلة ما هو مسرحي عن علاقته بعالمه، وحينها فإن لم يكن هناك ما يكفي لتدشين حوار جمالي على هذه الأرضية، فإن هذا الجمهور سيشعر بأنه قد تعرض لخيانة قاسية من قبل المسرح، مما قد يدفع بظاهرة المسرح، مرة أخرى، إلى الانزلاق تجاه هامش الاهتمام الاجتماعي، ولكن على نحو اشد وطأة بحيث قد يطال مشروعية وجودها.
------
- حالة الهوس الإخباري كانت لها آثار هائلة في مجمل حقول الوعي المصري، ولكننا سنقتصر هنا على التعرض لتأثيراتها المسرحية.
* للتوسع في هذه النقطة يمكن مراجعة مقالي: "حالات مسرح ما بعد يناير: من الاندفاع إلى التبدد" العدد الثاني من نشرة المهرجان القومي الدورة الثامنة، 2015، أو موقع الحوار المتمدن.
** انظر: "ظاهرة المسرح: بين العطاء الجمالي، والعطاء الاجتماعي" جريدة القاهرة، 21-10-2015، أو موقع الحوار المتمدن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا