الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأبوة المزيفة

حفيظ بورحيم

2016 / 8 / 8
الادب والفن


بعدما مات أبوها تغيرت كثيرا . لم تعد ترفرف الابتسامة على شفتيها وما عاد البهاء والحسن يراود مقلتيها، وحتى وزنها انخفض بسبب الإضراب عن الطعام، أما الكلية فقد هجرتها لمدة شهر بأكمله، تخلت فيه عن كل ما يربطها بمدينة أكادير، لتنخرط في كآبة صماء لا نهاية لها .
تذكرت وهي تنظر إلى دفتر مذكراتها أحداثا عاشتها تحت كنفه ووقائع شهدت على تفاصيلها في حضرته، فكان قلبها يتشظى من فرط اﻷلم وعيناها ترسلان بقية الدمع على وجنتيها الذابلتين بلا انقطاع .
ومع كل دمعة مرسلة كانت تتبدى ذكرى ذلك الرجل في صورة من صوره المعهودة، فصورة للرأفة وصورة أخرى للشجاعة وصور للتضحية والقوة والتواضع، كلها كانت تدون سطور النهاية لرواية سعادتها مع أبيها .
وكم تمنت أن تحضنه، ولو لمرة واحدة فقط، حتى تعوض صدمة المفاجأة التي انتابتها على حين غفلة منها لما كانت في بيتها بالحي الجامعي ذات يوم، فقيل لها عبر الهاتف :
- أبوك مات و الجنازة غدا !
لم تصدق هذا الكلام في البداية، ثم امتزجت السخرية والخوف في بوتقة قلبها ليسفران عن غلبة الحقيقة على أوهام الخلود في اللحظة التالية من عمر الصدمة، ولما رأتها صديقتها في ذلك الوضع المحنط سألتها بتردد :
- ما الذي أسكتك يا مريم ؟ أجيبي ؟
لكنها اكتفت بالصمت، ولم تعد تسمع بعد ذلك شيئا، لأن ظلام المفاجأة أطبق من حولها وتملك روحها للحظات، فلما أفاقت تحت تأثير رائحة البصل، سألت أسئلة وجودية ساذجة لتتحقق من هويتها، ثم استطاعت أن تتغلب على كل ذلك لتعود إلى مدينة تزنيت مسقط رأسها .
وبعدما وصلت إلى الحي القديم حيث تقطن عائلتها، اعترض طريقها سكان ذلك المكان وعزوها في فقدانه وأوصوها خيرا بأمها، فلم تجبهم بشيء واخترقت جمعهم كسهم متوثب إلى هدفه لتدخل إلى منزلها في النهاية .
كانت اﻷصوات تتمازج وتتلاقى عند مدرك السمع، وأغلبها للنوح والشكوى وأقلها للاستغفار والدعاء، فلما رأوها انكبوا عليها متناوبين في معانقتها وتوصيتها بالصبر الذي لم يفلحوا هم بأنفسهم في العثور عليه .
دخلت غرفتها واكتفت بالصمت ولم تفتح لأحد منذ ذلك اليوم، وأقنعت نفسها بأنها قد فقدت أبا مثاليا لا تأتي الدنيا بأمثاله إلا لماما، وباﻷحرى إنها لم تكن تأتي بأمثاله حتى يسلم يهودي حسبما يقوله العوام وأشباههم .
فتحت صفحات أخرى من دفتر مذكراتها الذي تركته هنا قبل موسم الدخول المدرسي، وتنهدت بعمق وهي تقرأ تدوينة مضمونها أن أباها لم ينس الاحتفال بعيد ميلادها الثامن عشر ..
ثم فتحت الصفحة الأخيرة صدفة لتعثر على نص بخطه، وكان هذا محتواه :
ابنتي العزيزة مريم
أنت تعلمين يا بنيتي أنني أحبك وأخاك عمر حبا ليس له حدود، ولأجل ذلك اخترت أن أبوح لك بحقيقة أثقلت كاهلي وجرعتني اﻵلام خلال أعوام عدة .
لطالما ظننت، يا ابنتي، أنني أب وفي لأبنائه، مخلص أشد اﻹخلاص لرغباتهم واحتياجاتهم، لكنني لست كذلك لسوء الحظ، فلقد تزوجت امرأة قبل أمك وكافأني الله بأن رزقني ابنا جميلا تخليت عنه وحرمته من رؤيتي، وحرمته من أدنى مطالب الطفولة .
أرجوك سامحيني يا ابنتي لأني أخفيت هذه الحقيقة، فلم أستطع قولها لك حتى لا أرى نظرة حقد وكراهية منك، واخترت أن أنطق الورق عوضا عن لساني حتى ينوب في إيصال الرسالة .
أبوك العربي .
لما قرأت هذه الرسالة سكتت لمدة طويلة كانت كفيلة بأن تتهافت فيها عظمة اﻷب المثالي، ثم حملت حقيبتها لتبحث عن أخيها المنسي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي