الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من وحي الحافلة الصّفراء

محرز راشدي

2016 / 8 / 8
الادب والفن


على عادة كلّ مواطن كسول استيقظت، عركت عينيّ مليّا، نظرت إلى السّقف، كالباحث عن كنز طائر، ثمّ سوّقت فكرة أنّني مرهق، وهضمتها، وتململت، ويمّمت الجدار وجهةً، واعتزمت على مواصلة النّوم. ولكن يحدث ما لم يكن في الحسبان، ويتّفق أن يبارحني الشّيطان، وأفجأ الصّباحات بنشاط وحيويّة، أنا نفسي لا أعهدهما إلّا في معاجم اللّغويين القدامى.
فبادرت بالرّحيل، واعتزمت المسير، تيمّنا بمقولات الأوّلين، وطلبا للعلم وسواء السّبيل. كنت أشقّ طريقي، أبادر هذا بتحيّة، وأمعن في الابتسام لذاك، وربّما استوقفني أحدهم ونبش في السّياسة، فتعلو الأصوات منذ الصّباح، ويرغى أحدنا ويزبد الآخر قبل أن نترشّف قهوة الصّباح.
ولا تسل عن المواصلات، فالحافلة عروس، "وهات آش اخرّج العروس من دار باباها!!"...ننتظر طويلا، وأنا لست من هوّاة الانتظار، ولا من عاشقي الازدحام، فأشرع على عادة أشقّائنا في اليابان باختراع بعض الأشياء المفيدة للأمّة، كأن أجري اتّصالا مطوّلا مع إحداهنّ، أو أبادر أحد الحضور بالحديث، وأستدرجه إلى ساحاتي وأصرعه، وربّما بقيت في صمت القبور، متبرّما، عابسا، حانقا على هذي الأوضاع، شاتما بكلّ القواميس وزير النّقل والمواصلات، وهذا يُذكّرني ببقيّة الماريونات (مسرح الدّمى)، وبحكومة النّفايات، وحوْكمة اليافطات...ولعلّي في خضمّ الانتظار أرمق أحد المارّة بنظرة يتكهرب لها جسده، أو أحدّق في الأرض كمن يبحث عن حكمة الأجداد المدفونة منذ أحقاب..
ولكن في العادة، تُخيّب الحافلة انتظاراتي، وفي ظرف وجيز لا يتخطّى السّاعتيْن تأتي زاحفة، تنهب الأرض نهبا، صفراء يكره المسافرون ساحتها وساحة من يحبّها، لونها يُذكّرني بسموم الشّهيلي، وربوع الخلاء، وسنوات الجراد.
للألوان رمزيّة، وحافلتنا منتدى كلّ الرّموز...بلّور دارس، أكله الغبار، وسكنته الخدوش والكسور. أبواب تسمع لفتحها وغلقها جعجعة، تنخلع لها الأفئدة، وتذهل كلّ مُرضعة عمّا أرضعت. وأنت صاعد، يُخالجك شعور من يُمتحن في جسده وفي نفسه، تشعر بالرّعب، وبأنّ شخير المُحرّك عفاريت من الجنّ المتلبّسة بهذا المستطيل "الأصفراني"، وهي تتربّص بالكلّ دون تمييز هوويّ..ثمّ يعاجلك المسؤول عن التّذاكر بالسّؤال العقدة، "وين قاصد ربيّ؟" فتجيب حسب دراهمك، وتختزل الجغرافيا لتكتنز بعض الملّيمات، علّها تكون لك سندا في إحدى الجلسات أو النّدوات.
والعجب أنّ من الراكبين، راكبا لابسا جبّة بيضاء بلون البيْض تماما، وفي الحقيقة كلّ لباسه أبيض لغاية هو أدرى بها، ويحمل معه قفّة من السّعف، لا أريد أن أذكر لونها لغاية في نفسي، ومشحونة ببعض الحاجيات اليوميّة..
شيخنا هذا، مهذار، حاطب ليلٍ، يتكلّم، يلغو، ويتنقّل بين المواضيع دون حسيب أو رقيب، يحدّثنا عن القناعة، عن الصّبر، عن أوّلية الرّجال بالعمل، ويستعرض الآيات..ويضحك. يحاول أن يقنع الحضور بتفاهة الدّنيا، وبالعمل من أجل الآخرة. من القوم من انساق معه، ومنهم من ناوشه، وناهضه، فتعالت الأصوات، وتدخّلت فتاة فيها من "لبيب" بعض الشّبه، كانت مغبرّة، ذات وجه مخروطيّ، وقوام حديديّ مسنون، وصوت أشبه بصفارات الإنذار...ولكنّها اجترأت على الشّيخ، فغضب، وألحّ على مسألة الإذن، ورفع الإصبع، مستحضرا سلطة المعلّم فيه، مذكّرا بها الحاضرين، منعطفا على خصاله، وخصال مُجايليه، منبّها إلى بعض القيم المحمودة.
ولقد انتابني مزيج من الشّعور، يصعب فرز غثّه من سمينه، فالحافلة صفراء، وحالها رثّ، والركّاب أنواع: المشئزّ، المتبرّم، العابس، المكفهرّ، الضّاحك، الباسم، المتنطّع، المتحاذق، الغليظ، الرّقيق، الصّامت، الغوغائيّ...أمّا اليوم فقد اكتشفت خصلة أخرى، وهي أن تصير الحافلة منبر خطابة، وساحة تخاطب، وهي تسير.
وبعد فترة من الزّمن المتخثّر، وصلت حيث أعتزم الوصول، وضربت في الأرض متثاقلا، ورفعت رأسي فشاهدت المكتبة هاجعة، شامخة، فتنفّست الصّعداء بعد أن اجتزت البرحاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل