الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية الأمريكية

خالد عبدالله

2003 / 2 / 4
العولمة وتطورات العالم المعاصر


 


كاتب عربي يقيم في وارسو

كثير من كره العالم لأمريكا ينساب من قولها ومن فعلها أنها ترى مستقبل العالم صورتها. وإحدى لعبها التي تفتتن بها ديمقراطيتها. فليس هناك إنزال للمارينز على شواطئ بلد في أمريكا اللاتينية، أو قصف من أعالي السماء لمدن وأرض فيتنام وكمبوديا وأفغانستان أو العراق، أو حصار اقتصادي لبلد، أو حملة إعلامية على أخر إلا وشعار غرس شتلات الديمقراطية يتصدر دعاواها. ولا نريد أن ندخل في محاجة لا طائل منها هنا حول أن الحكم الديمقراطي غير موجود حاضرا، وما نراه هو الحكم التمثيلي، يأتي بأشخاص إلى مواقع التنفيذ والتشريع والقضاء  يزعمون أنهم يمثلون الناس. وبعض الزعم صحيح لكنه ليس كليا إطلاقا ويختلف من بلد في العالم إلى أخر. لكن دعنا نقبل بالإطلاق المجازي عليه ونسميه ديمقراطية. فما هي الديمقراطية التي تريد أن تغني حياتنا بها أمريكا؟ ولا ريب، أن هذه الديمقراطية لن تكون في نقلها إلينا أحسن صورة مما يجري في أمريكا.

وقد حاول البعض لدينا اقتفاء آثار الديمقراطية الأمريكية، فاختلف الحكم على تجاربهم من لدن الحكومة الأمريكية تبعا لارتباطهم بسياساتها الخارجية، فإيران التي وسعت خيارات الاختيار أكثر من أية حكومة أخرى في الوطن العربي لا زالت مستبدة، ومن فتح أبوابه لإسرائيل أو عانق حكامها فهو يغترف من معينها. ومع ذلك فكثير من النخبة الأمريكية الحاكمة لا ترى في هذه المحاولات جدارة  في أن تكون ديمقراطية. وليس رفضهم عبثيا بل ينبع من أسباب لا يخفونها. فهم يقولون أن الأحزاب أو الفئات الحاكمة في هذه البلدان تتدخل بطرق شتى لإنجاح مرشحيها وإفشال الآخرين. كما أن الحكومة أو الحزب الحاكم يسيطر على وسائل الإعلام فلا يرشح للناس إلا رأي واحد. ثم إن الانتخابات كثيرا ما تزور. وهذه مزاعم لا يخيل لي أن عاقلا لا يراها. فالمشكلة إذن ليست في تحديد مواطن الخلل في مسار تمثيل الناس. فأين المشكلة إذن؟ فلنبحث عنها في البديل، أي الأمريكي. لأن هذا هو المثال الذي يقدم إلينا حتى تصبح ديمقراطيتنا كاملة الأوصاف.

إن قاعدة النخبة الحاكمة في البلدان العربية ضيقة عموما وهي تختلف في ضيقها من بلد إلى أخر، فمن حكم أسرة إلى مجلس قيادة ثورة إلى حزب حاكم. ومع ذلك وبالرغم من ضيق قاعدتها في القمة لكنها لا يمكن أن تدير شؤون رعاياها بدون أصحاب المصالح الضالعة من رجال الأعمال والمثقفين وأجهزة الأمن. فما البديل الأمريكي؟ حينما ننظر في الشأن الأمريكي نجد أن النخبة هناك أوسع قاعدة وهي متنوعة المصالح الداخلية والخارجية، وتحتاج باستمرار لأمرين ضمان مصالحها كنخبة، وإقامة التوازن بين مصالح أطرافها. ولذلك فحريات التعبير والانتخاب ضرورة لتحقيق الأمرين. لكن ماذا تفعل حتى لا تؤدي هذه الحريات إلى خروج اللعبة من يديها. في البلدان العربية تتبع طرق تتنوع قسوة ورهافة أساليبها لكنها تضمن نجاح معظم مرشحيها أو كلهم. أما النخبة الأمريكية فلأسباب موضوعية تتعلق بالتطور التاريخي للنظام الرأسمالي، فقد وجدت أن الطرق التقليدية مفضوحة في نهاية الأمر، ولا بد من طرق تؤدي إلى نفس النتيجة لكن بدون الفضيحة الساطعة. ومن إحدى الوسائل أنهم جعلوا مهر الفوز في الانتخابات غاليا جدا لا يقدم عليها إلا من تملك أسبابها المالية. فإن لم يتملكها فإن اسمه لن يصل إلا إلى مسامع جيرانه. ولكن الرأسمالية الأمريكية سخية، فقررت أن الذي يريد أن يرشح للانتخابات لا يحتاج إلى ماله الخاص بل يمكنه أن يحصل على التبرعات ممن يسانده. فأصبح المرشح معروضا في سوق المزايدة يذهب برنامجه الانتخابي لمن يصرخ بالرقم الأعلى للتبرع. ومن طبيعة الأمور أن التبرع على قدر الثروة. فكيف يجري هذا في واقع الحال الأمريكي. تقول منظمة حملة الانتخابات العامة، وهي منظمة تتابع تمويل الانتخابات الأمريكية، بالدلالة البينة والإحصائية الموثقة أن أقل من عشر من واحد بالمائة من المتبرعين في الولايات المتحدة تبرعوا بثلاثة وثمانين بالمائة
( 83% ) من مجموع التبرعات في أمريكا في انتخابات عام 2000. وبالطبع إن معظم هؤلاء هم الشركات الضخمة. فخلال الفترة 1991 -2001 تبرعت أكبر الشركات الضخمة التي تشمل إنرون ذات الفضائح المالية بمبلغ 151,1 مليون دولار. ولم تكن هذه التبرعات إلا استثمارا أنتج عائدات مالية ضخمة عشرات المرات أكثر من مبلغ الاستثمار الأولي. فقد حصلت هذه الشركات على ما يعادل 55 بليون دولار على شكل إعفاءات من الضرائب. كما أن من أكرمتهم بتبرعاتها ردوا الجميل بتشريع لوائح وقوانين تحمي مصالحها وتعظم أرباحها بشكل يصعب تقويمه كميا.

والنخبة الرأسمالية ليست غبية، بل هي في منتهى الدهاء. فهي تعرف أن تبرعاتها قد لا تقنع الناخبين بالتصويت لمن تؤيدهم إذا ما تيسر لهم مصادر متنوعة للمعرفة عن قضاياهم وكيفية مواجهتها. فكان لا بد من الهيمنة على الإعلام حتى يكون موحد الصوت في القضايا الجوهرية متعدد المشارب في القضايا الثانوية مثل تشديد التقبيح لشخص مرشح دون أخر ممن تتبرع لهم و الفضائح وكرة القدم والسينما وغيرها كثير. إلا أن النخبة ترى في الطريقة العربية في امتلاك الدولة لأجهزة الإعلام طريقة غبية لأنها مكشوفة. فوجدت أن هناك طريقتين الثانية تقوي الأولى في عملها. فالأولى، أن أجهزة الإعلام لا يمكنها أن تستمر في العمل يوما واحدا من عوائد مبيعاتها، فالدعايات هي مصدر دخلها. والدعاية ليست عمل الفقراء أو متوسطي الحال بل وظيفة الأغنياء. فكيف لوسيلة إعلام أن تعارض في آرائها جوهر مصالح الشركات الكبرى وطبقة الأغنياء. ومع ذلك فقد رأت النخبة أنه لا بد من تقوية هذه بأخرى. فهي تعمل بحجة تعزيز حرية السوق على تركيز ملكية وسائل الإعلام في أيدي قليلة، بل من الممكن أن تؤدي هذه الجهود إن تصبح أجهزة الإعلام ملكية شركة واحدة أو شركتين. فحاليا تسيطر عشر شركات ضخمة على ملكية 90% من أجهزة ووسائل الإعلام  في الولايات المتحدة. وينبغي أن لا يفوتنا هنا قانون أورويل، الحرب هي السلام، أي التضاد في دلالة اللفظ الواحد بين دلالته النظرية ومعناه التطبيقي. فقد انتقل شعار حرية الأسواق الذي شرطه النظري الجوهري وجود العدد الكبير من المتنافسين إلى معناه العملي في سيادة الاحتكار. نعم أصبحت المنافسة تعني الاحتكار، كما أن الاستعمار يعني التحرير، وكما أن تدمير البلدان بالصواريخ تنمية اقتصادية لها.

لكن على ما يبدو بدأت تضيق الدنيا بالطبقة الرأسمالية أن برنامجها يسير ببطء فأصبحت تستعجل بالإتيان بأناس متطرفين في حماية مصالحها. وقد جعلها هذا تغض الطرف عن ممارسات شبيهة بما يجري في بلداننا. فكان نجاح الرئيس بوش في التلاعب بعد الأصوات، ومن ثم بعدم الاحتكام إليها وإنما إلى المحاكم للتعيين. غير أن الظاهرة بدأت تزيد حدة فقد ارتفعت أصوات بعض المرشحين للكونغرس الأمريكي تقول أن هناك تزويرا للانتخابات. وأوضح حالة ما اشتكت منه مرشحة الديمقراطيين لمجلس الشيوخ في ولاية نبراسكا في أن شركة خصمها هي التي نصبت الحواسب الآلية الخاصة بعد الأصوات في الولاية ووضع برامجها للعد. بل أنها وصفت عملية التزوير هذه  بأنها " قضية كبيرة، أكبر من قضية ووترغت" وفضيحة ووترت غيت كما نعلم أدت إلى استقالة نيكسون من رئاسة الجهورية. ولا تقتصر هذه الدعاوى على ولاية نبراسكا بل تمس ولايات أخرى.

ولكن كيف تريد أمريكا أن تطبق نموذجها وشروطه غير موجودة في المنطقة العربية، إذ ليس هناك طبقة رأسمالية منتجة حقيقية في معظم البلدان العربية. هذه معضلة كبيرة، في بعض أوجهها أو في بعض مناطق تنفيذها، لكنها ليست مشكلة في كل الأوجه. فمثلا نزع الملكية العامة لأجهزة الإعلام وتحويلها إلى القطاع الخاص لا يحتاج إلى وجود قطاع خاص وطني يستطيع أن يدير معظم أجهزة الإعلام الرئيسية. فقد عولجت هذه المشكلة في بعض بلدان وسط أوروبا حينما أقدمت الشركات المتعددة الجنسية على شراء الكثير من وسائل الإعلام فيها أو تمويلها بطرق غير مباشرة. وأظن أن أمريكا تسعى إلى التقارب بين الديمقراطية العربية الناشئة والديمقراطية الأمريكية الراسخة من خلال التلاقح الإيجابي فيما بينهما، كل ديمقراطية تستفيد من أشكال القوة في الأخرى. وحينما يصبح القطاع الخاص العربي معظمه مملوكا من الشركات المتعددة الجنسية سيسهل إدارة الحكم في بلداننا على النحو الديمقراطي. حينذاك ستكون فرعا، كفرع أية شركة مثل كوكا كولا، تأتيه السلعة مجملة ليقوم بتعبئتها وكتابة صنعت في الوطن العربي على علبها.

********

كنعان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيناريو الحرب.. تصعيد غير مسبوق بين إسرائيل وحزب الله


.. البابا فرنسيس يشارك في قمة السبع لأول مرة.. ويدعو إلى توجيه




.. هل يُرجح الحرس الثوري الإيراني كفةَ قاليباف على حساب جليلي؟


.. التصعيد الإقليمي.. جبهة لبنان على وشك الانفجار | #رادار




.. حماس: إسرائيل قتلت 2 من المحتجزين بقصف على رفح | #رادار