الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رطوبة بيروت وأخواتها الضبابيات

ابراهيم محمود

2005 / 12 / 21
الادب والفن


في الثلث الأخير من آب 2005، أمضيت في بيروت أياماً عدة، عشت رطوبة بيروت الفالقة، وهي ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة طبعاً، إنها رطوبة لا زالت تتراكم مدىً حسياً وشعورياً وامتداداً وجدانياً آلماً مؤلماً، وتتبدى إشعاعية لاذعة، مثلما عشت بيروت الرطبة المحلقة، بيروت التي تعيش غالباً ازدواجيتها: أن تكون مدينة بحرية، تعيش آلاء البحر، مثلما تعيش أدواءه/ أنواءه، وأن تتوسد الجبل، مثلما تعيش انحداره/ انتحاره في أوديته/ أوعيته السحيقة، وأن تكون برمائية، وما في ثنائية التجنيس من هجانة لافتة وخوف التعبير عن الذات، ومآلات الجسد وانخطاف المعنى، مثلما تعيش حالة حصار كل منهما، وكأنها، وهي تتطرف بهما، تتأفف بينهما ومنهما، وأن تكون المحلقة في التاريخ رغم بؤسه المتعدد العلامات الفارقة، مثلما تكون المفلَّقة داخل جغرافيا تتبدى أكبر منها، وهي تعاني أسر المكان، وأن تكون وجوهها الثقافية، وفي هذه تتجلى حكمتها المعرفية، مثلما تتجلى المحارَبة بوجوهها والاحترابية داخلها، حيث دفعتني راهناً للبوح بها وثقل أعطافها ومتحولاتها النازفة.
تبرز الرطوبة متضمنة اسطقسين: عنصرين، ومتشكلة منهما معاً: إنها تلوح بمائيتها، وتصرح بهوائيتها، ولكن التركيب الغريب هذا، يكون فارقياً، حيث لا يمكن للمرء أن يقيم علاقة معها باعتبارها شراباً أو هواء، كل عنصر يخالط الآخر بنوع من النكد، ليكون التركيب الفيميائي( الفيزيائي الكيميائي) العجائبي والمركَّز الخصم اللدود للمتنفّس، للانسان بصورة خاصة، وفي الخليط اللازوردي هنا، في البرزخ الطائر الطائف، يحضر البحر والجبل، كما لو أنهما شبحان، زيف الهش والصلب معاً، فالرطوبة من جهة الماء تحيل إلى البحر أو عليه، إلى لاتناهي العليل عاليه، ولكن النَفَس الجانبي للبحر يثقل الهواء، ويفقد خاصية السلاسة، أي النقاء، والرطوبة من جهة الهواء تحيل إلى الجبل أو عليه كذلك، إلى لاتناهي المنعش عاليه بدوره، ولكن النفس الجانبي للجبل يعكر صفو الماء، مثلما يفقد خفة انتقالاته.
جنسانية الرطوبة( الرطوبة التي فقدت أصالتها المناخية، لتستحيل مناحية خارج دورتها المفهومية المتداولة، كمنطقة تشهد تعاصفات داخلية ومحيطية، لتكون الشاهدة والشهيدة، وصاحبة الشهادة المثلي على الجاري، مهدّدة هنا للنوع المحيط أوذي الصلة، لأنها تعقد قراناً بين بحر مترامي الأطراف يتثاءب أو يزفر باستمرار، وجبل يصعد أو يخفق بأطرافه، يتطاول باستمرار، بيروت هنا كمكان لا يخطئه البصر ولا البصيرة، تعيش على هامش كل منهما، وخلاصته المركَّبة: الرطوبة.
يمكن الحديث تالياً عن مفارقات الإنسي في بيروت، عبر الرطوبة الآنفة الذكر:
في بيروت الآبِية، بوسع المرء أن يتنفس ملء رئتيه، ملء متخيله، حيث يسنده الجبل، ويزنده البحر، وفي غفلة هادرة سافرة قد يركله الجبل خارج تخومه الشديدة الوعورة، وقد يغله البحر داخل تثاؤباته الخانقة.
في الحالتين، تبقى أنت طوع أمر الحالتين، مأخوذاً بحكمة العلاقة، تداعياتها، بألفة المرئي، وصلف المرئي، بخفة انتروبولوجيا بيروتية لا تُحتمل ظاهراً، لكنها خفة لا يبدو عليها نزق التاريخ الذي يتدون في متنها، إنما فرق التعامل الخاص بحدود تخترقها من جهات عدة، لتنزع عنها وقدتها المكانية، ذات البهاء المعلوم، لتكون بيروت سواها، لا بيروت بيروتها، لتستحيل بيروت المولَّفة عبر مِرانات، كما لو أنها بيروت الخرافة الفارطة، وأن أهلها كائنات الخرافة، وأن معابرها متاهات كائناتها، وأن لغتها/ لغاتها أصداء بلبلات خلائق خرافية، وأنها تاريخ خرافات جهاتية، مثلما تكون جغرافيا، يثبتها لجياً أكثر من قرن لثور عملاق كوني خرافي، مثلما تكون مأخوذاً بحكمة المتشكل داخلك: تكون بيروتك، حتى لو كنت نزيلها لليلة واحدة أو أقل من ذلك، أو حتى عابرها، المهم أنك تنغمر بها بمعان ٍ عدة، كما هي بيروت الآخرين، فكم بيروت تتشكل هنا في الظل أوفي الجوار، وثمة نزلاء كثر، وعابرون كثر، وذوو مهام( مهمات) كثيرة، وثمة مقيمون كثر بالمقابل؟
ليست هي المرة الأولى التي أتحدث فيها عن بيروت، حيث لم أكن نزيلها أياماً عدة فقط، لأقول كلمتي هذه، إنما هي رطوبة بيروت الزائدة عن حد غير مستقر ألهمتني وآلمتني، لكأن بيروت تنتظر نزلاءها اكتشافاً لها عبر وجع دفين، أو معاش كليانياً، كما هي كليانية التفتت والتفتيت المعمول بها داخلها هنا وهناك، كما هي كليانية الذين يسعون إلى سينرة أو بنرمة المكان بمجمله بيروتياً، بوصف بيروت أول المكان وطليعة الرؤيا.
تبدو العلاقة قوية جداً، بين الرطوبة التي لا تطاق، وما لا يطاق في بيروت، وليس لبيروت دخل في كل ذلك، رغم أنها تدفع فاتورة هذا الـ( ما لايطاق)، فحقيقة بيروت ليست في ظل الجبل الرطب والمشتت، ولا في رحاب البحر حيث المدى الأزرق يتكروى بعيداً، إنما هي حيث تكون طوع أمر رطوبتها الشديدة الوطء، وهي تمارس تنفسها التاريخي، تمارس هواياتها/ غواياتها المتصادمة، ليس بالتناظر فقط، وإنما عبر تداخلات وتراكمات داخل البناية الواحدة نفسها أحياناً، فهي تظهر أصغر من كل هذا الانهمام اللافت والمخيف بالتاريخ والثقافة والسياسة والمؤامرات بصور شتى، مثلما هي تبرز أكبر من كل التدقيق فيما يجري خارجها داخلها.
فأن تكون في بيروت، يعني أن تكون في أي مكان في العالم، مثلما أن لا تكون في أي مكان!
ليست بيروت بالتأكيد نفس البحر المائي ولا نفس الجبل الهوائي، ليست حصيلتهما الآلمة المؤلمة، لقد شاءت الجغرافيا لها ذلك، لكنه التاريخ الذي يحيل الرطوبة تلك إلى واقع متأسّس بيروتياً، بفعل أكثر من فاعل بيروتي، أو بترخيص من الخارج، لتكون الرطوبة ذات أمضاءة أو ماركة بيروتية مسجلة، وليعتقد كل نزيل أو مقيم أن الرطوبة المتعددة الدلالات شأن بيروتي وابتكار بيروتي، ولكنه الاعتقاد الذي يظل قيد المساءلة باستمرار: لماذا الرطوبة في بيروت مكثفة، ويُشعَر بها أكثر من غيرها؟ لماذا تتحول باستمرار من حالتها الطبيعية إلى حالة المجاز والامتياز المكانيين، لتكون الثقافة وأضرابها ذات نسب رطوبي؟
إنه تأثير الرطوبة بالمقابل، تلك التي تتفعل في المعتقد، وليس الرطوبة التي تخص بحر وجبل بيروت. فما بين هاذين تكون بيروت، بيروت المتن، وهذه مفارقة، حيث المتن متَّهم بالضلوع في تنمية الاستبداد المركزي العلامة، خلاف الهامش المعرَّف بكبح الجماح، أو بالإقصاء وتبديد القيمة الذاتية، أي تكون بيروت هنا الهامش الذي يُعتَّم عليه، ولكنه ( أي الهامش) يظل محج مجمل الباحثين عن ثقافة مغايرة من متون محيطية قريبة وبعيدة، وداخل بيروت وخارجها، لهذا بقدر ما تكون بيروت الرطوبة، تكون الحاملة بجناحين: مائي هو البحر، وهوائي يحلّق صوب الجبل.
لهذا أعيش بيروت بوصفها الهامش المثير لي، أعني مجال تنفسي الثقافي الملهم رغم كل ما يقال فيها.
ولهذا أيضاً بقدر ما أستعجل الخروج من بيروت طريد رطوبتها الفالقة، أستعجل الرجوع إليها، وفي الحالتين يكون البحر والجبل وليس الرطوبة المشار إليها!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب