الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمياء تمشط شعر مجنونة

خليل فاضل

2005 / 12 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


رؤية تحليلية نفسية لأحداث انتخابات برلمان مصر 2005
"انفض المولد بكثير من الحمص و الدماء"
(عمياء تمشط شعر مجنونة ) ... هكذا بدا المشهد بصرف النظر من هي العمياء و من هي المجنونة أو علّهما تبادلا الأدوار طوال الوقت ولم يزل المسرح مفتوحاً و مضاءا لهما يعبثان فيه و بنا.
لنا أن نتخيل المشهد سواء كنا مشاركين في مهزلة انتخابات مصر البرلمانية 2005 أم لا ، فالعمياء لا ترى شعر المجنونة، لكنها تمسك بالمشط ، ومن الممكن في لحظة خاطفة أن تلوي عنقها بل و تفصله عن جسدها كما يفصل الطفل العابث رأس العروس البلاستيك عن جسدها. وهى عمياء تدب المشط في أي مكان، في قفا المجنونة أو في حاجبيها أو داخل عينها لتعميها فتصبح مثلها أو تدبه دباً قوياً قاسياً مؤلماً في فروة رأسها، قد تكون حانية ناعمة في تمشيطها، لكنها ولأنها لا ترى (حتى و لو كانت حافظة لتضاريس رأس المجنونة) فهي غير مدربة، وغير عارفة، ومعدومة البصر و البصيرة و لا تتمكن من الإبداع.
المجنونة أسلمت شعرها للعمياء تسرحه بمشطها دون هوادة لأنها لا تعقل لا تتمكن و لا تدرك و لا تتخيل و لا تستطيع أن تمشط شعرها، ربما هي لا تريد ، و لا ترى أي ضرورة لذلك فالأمر لا يستدعي الزينة لأن العقل الذي هو الزينة قد رحل وتشوش الأمر. ومن ثم فهناك تهديد خطير و خطر كبير أن تقوم المجنونة فجأة و ترفض تسليم رأسها للعمياء، و تفضل شعرها منكوشاً (لَـَزْمة الجنون)، بل و تصرخ في وجه العمياء و تصارحها بكرهها العميق لها، ورفضها النهائي لعملية تمشيط شعرها؛ فينتهي الأمر بخناقة رهيبة لا ترى فيها العمياء وجه مهاجمتها، وإنما تتحسس و جودها و اتجاهاتها كما تلك الفارسة الإلكترونية في الفيديو جيم الشهير (توم رايدر) الذي قامت بدوره الحسناء (إنجيلينا جولي) ، تضرب بالسيوف في كل اتجاه ويؤدي كل هذا إلى مشهد عبثي جداً نعيشه الآن و سنعيشه غداً .
فهل فعلاً أصبحنا قطيع عميان يفتش في الفراغ عن بطولة ، أم صرنا مجانين لا نملك بوصلة تحديد الهدف والاتجاه . مشاهد العنف البدائية ، استخدام البلطجية، طلقات الرصاص، الكذب المفضوح والصريح، الإنكار المتعمد و الكذب المتواصل، مشاهد الشارع السياسي الذي كان الأكثر وضوحاً في دائرتي دمنهور (مصطفى الفقي) و الدقي (آمال عثمان) و الأكثر تراجيدية في انتفاضة (نهى الزيني ).
انفض المولد في انتخابات برلمان مصر 2005 بكثير من الحمص و الدماء، و جاءت الممارسة في أبشع صورها العنيفة، و كانت المؤثرات غاية في الخطورة ما بين نسبة هزيلة اشتركت، ومجموع متدني للغاية ، ساهم (سياسياً) في الانتخابات، فلقد حكم المال (في صورة رشوة نقدية أو عينية) ، حكمت الفوضى والفساد و قتل الناس في سعيهم للرزق، و جاءت نتائج الانتخابات انعكاساً لحالنا النفسي و السياسي و الاجتماعي ، صورة مشوهه حقيقية لنا، فالتحالفات المربكة بين أكبر طرفي نزاع (الوطني ـ الأخوان ) (تأكد ذلك بتصريح تليفزيوني لكرم جبر رئيس مجلس إدارة روزا ليوسف في برنامج القاهرة اليوم ـ الأوربت ـ 7/12/2005) و تحالفات أخرى ـ لا يعلمها إلاّ الله ـ بين الوطني و أي أحد ... (حتى الشيطان)، من أجل تحقيق نسبة الثلثين (وربما بمباركة السنيورة كونداليزا رايس) ، هنا تأكدت تلك الفجوة الرهيبة بين المثقف غير المُسيس و السياسي غير المثقف، و الموظف المثقف، والمثقف الموظف، وكل هؤلاء اليساريين والتقدميين الذين لم يستوعبوا المشهد فخرجوا من عباءة (العمياء و المجنونة ) خاسرين.
إن نموذج (عمّ صابر) صاحب عربية الفول المتشدق بالدين، و الذي تدور عيناه ما بين القِدرة و الزيت والملح و طبق الفول (المصري اليوم ـ 9/12/2005 ـ مهندس جمال على الدين) الذي يحكي تاريخ صابر المهني ما بين صبى محارة، إلى مدرب كرة بالمجان، حاول من خلالها تحقيق ذاته، لكنه و جد أن الأمور معقدة، يبتسم صابر ابتسامة تشبه البكاء و يقول الحلّ في عربية فول، عليها تنادي و تقول: قال الله و قال الرسول " ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ـ و جاء تعقيب محرر المصري اليوم الذي أصبح مانشيتا (فول "الوطني" ، وفلافل "الأخوان" ـ و المطعم أصلاً خربان ).
انتهى مولد ابن الدايرة بكثير من اللغط الذي لا ينتهي، بتصريح غريب من صفوت الشريف (لقد دخلنا الانتخابات بأبنائنا المستقلين حتى نفتت الأصوات !!) و الكثير من المتناقضات الرهيبة التي تعبر عن أزمة الدولة و جهازها الإداري و القمعي و الناس بكل ألآمهم و بساطتهم و كأنهم يصلحون جميعاً للالتقاء بحكاية (العمياء التي تمشط شعر مجنونة) و هكذا يكون الجنون الاجتماعي بمعنى فحص النفس العامة الجَمْعية، من (الجماعة)، في ضوء ما حدث ، بمعنى أن العمياء و المجنونة لهما نفس صفة (تركيب الشخصية الذهانية المفتقدة إلى ملامسة الواقع، التعرف به و التعامل معه) ، حمل بذرة العبث في ثلاثة مواقع ، أولاً أن مصر تحاول أن تضع نفسها الجنينية البدائية في (غرفة داخل غرفة) و يعكس هذا محاولتها لوضع بذرة الجنون تلك في كبسولة (مفيش حاجة ـ و الله العظيم إحنا ديمقراطيين قوي ـ ما حدث كان مجرد تجاوزات ـ الإخوان و حدهم مسئولون عن العنف ـ نحن نعيش أزهى عصور الديمقراطية ) .
إن الناس في برّ مصر ينشغلون في نشاطات غريبة محاولين التغير و التغيير، محاولين تغيير عالمهم الخارجي حسبما الظروف، وحسبما العالم من حولهم، حسب تناقضاتهم و إمكانياتهم اللامحدودة، وتطلعاتهم المحدودة، بظروف تخبطهم ، بمعنى آخر أنهم صاروا يولفون التغيير حسب مزاجهم الذي اقترب من اليأس والعجز والانسحاب و الإهمال و الإنكار و تفضيل الهروب بالجلد إلى أي مكان بعيداً عن مشهد (العمياء والمجنونة ).
إن المركز و الأنا المصرية في محاولاتها لكي تحبو أو تمشي، أو حتى تطلع السلم دون حضن أم أو يد أب، بكثير من الأعداء في الداخل و الخارج تحاول أن تعيد بناء أمور شتى ... لكنها ـ وللأسف ـ في فوضى من الأمور.
سعار شراء أسهم المصرية للاتصالات، انتشار الجريمة خاصة الأسرية و تنوعها، التعامل مع قشور الحضارة و العولمة بشكل فذ ، التفوق في القرصنة ( طالب طب مصري يخترق مواقع البنوك و يشترى ماكينة من الصين يزوّر بها بطاقات الائتمان و يستولى على مبالغ طائلة و الآن هو في حوزة العدالة بعد أن حاز لقب أفضل خامس قرصان انترنت في العالم ـ وكالات الأنباء ـ القاهرة ـ 8/12/2005 ) .
انتهى مولد ابن الدايرة ، فهل يسود الهدوء القرى و النجوع و المقابر ؟! هل ستتحقق برامج المرشحين الانتخابية، هل خُضنا تجربة الديمقراطية بنجاح ؟ ... هل مازلنا مستعدون للتضحية بكل هذا وأكثر؟؟ . ذكرني ذلك بالمراهق ابن السادسة عشر الذي صحا من نومه، نظر في المرآة ، فرأى الشيطان ، عندئذ تم (شحنه) إلى أقرب مستشفى أمراض عقلية و تمت (كهربته) ـ (أي إعطائه جلسات علاج بالصدمة الكهربية)، لكن أبداً ـ قط ـ لم يُسأل الولد عن شكل الشيطان؛ فمن قال أنه ـ بالفعل ـ مجنون، و أن صراع والديه على إرث مجهول لقريب مات في أمريكا هو السبب ، لكن ، و بعد انقضاء أشهر طويلة ، استلقى الولد على أريكة التحليل النفسي و قال في هدوء شديد :
ـ أنا لم أر وجهي في المرآة ، و أيضاً لم أر الشيطان ، لقد غامت الدنيا أمام عيني، و لم أشهد إلاّ بياضاً ، كأنه الموت ، الحلم ،الانتهاء ، الضياع ، الفراغ ، الخواء .
بين هذا و ذاك كلفتنا تلك الانتخابات 11 قتيلاً و مئات المصابين، لكنها و ذلك الأهم، كشفت الوجه القبيح جداً للممارسة السياسية في مصر الآن، كشفت عن ذلك العجز المكتسب الناتج من طول فترة الكبت والجهل السياسي العميق، كتم الحريات على مدى 53 سنة عانينا فيها و صرنا كالمريض النفسي المزمن، لم نتطور، لم نتحسن و لم نشف، لكننا و في خضم تلك التجربة المتوحشة درنا في حلقة مفرغة، تسيدت فيها المصالح الخاصة والفساد والرشوة العلنية. كنا نحلم بالحركة و الحراك، الانتقال و التغيير، لكننا حصدنا تدني الخطاب السياسي بكل فواحشه و ممارساته، وساد جو عفن من التحالفات المشبوهة، تعصب وعصبية بدون معتقد حقيقي، مجرد مصالح مشتركة و متشابكة، ووجدنا أنفسنا بعيدين كل البعد عن فعاليات المجتمع المدني الحرّ الذي يطالب بحرية إقامة المشاريع و حرية التبادل و التعبير عن الأفكار (المصدر ـ ما هي الديمقراطية ـ آلان نورين).
و أذا أردنا تشخيص الحالة التي أدت إلى موقف (العمياء التي تمشط شعر المجنونة )؛ لوجدنا أمرين أساسيين: أولهما نقصان مهارات الأنا الجمعية ـ (ما يمثل مجموع نفسية الناس) ؛ بمعنى أن مجموع الناس في مصر، خاصة تلك الكتلة الأساسية و الرئيسية يفتقرون إلى الروح النفسية الجماعية، يفتقرون إلى مهارات مثل تلك المتوفرة في الغرب مثلاً : الحق الانتخابي، مفهوم البرلمان، محاسبة الحاكم، حق دافعي الضرائب في كل الخدمات، حقوق الإنسان بمعناها الأرحب، حقه في الغذاء و الكساء والماء النقي والهواء غير الملوث، في إبداء الرأي و الصحة و العلاج ... و هكذا ، و على مستوى الفرد فإن (مهارات الأنا) تبدأ من تلك البسيطة كربط رباط الحذاء، إلى تلك المركبة المتعددة المستويات في التفاوض، الحوار ، المناظرة ، القدرة على الإقناع، إثراء الآخر، حسن الإنصات و كل ما يخص التفاعلات داخل الشخص و نفسه وتفاعلاته مع الآخرين كأفراد كمجتمع و كمؤسسات و نظام مرور.
إذا جازت لنا رؤية ما حدث على أنه مخاض، فإن الأمر يحتاج إلى تفاعل قوي بين (الأنا المستقلة غير الخائفة) و بين (السلطة الأبوية ) المتسلطة الممثلة لنموذج لا يحتذى في الكذب و الخداع و قهر الخصم والتستر وراء دعاوى لا تغني و لا تسمن من جوع. هنا يجب ألاّ ننسى طاقات النفس المعطلة في لهوها عمداً أو في انغماسها المقتول للبحث عن لقمة العيش أو تطوير الحياة العصرية بكافة أحلامها الاستهلاكية، صرف المال وبعثرة الزمن في (كلام الموبايل ـ الهواء المنشور على أسلاك و أطباق المدن و القرى). إن عملية التنوير التي يمكن أن يقوم بها المثقفون تجد نفسها في مواجهة عواصف لا تحتمل، توترات غربية الشأن، عشوائيات السلوك اليومي القبيح، الإحساس القاسي بالمرارة الذي قد ينتهي بكُره النفس ... هنا يتعلم الناس أولا يتعلموا مهارات الحياة كالسياسة كما الطفل قد يتعلم أولا يتعلم، قد يتربى و قد لا يتربى، وقد يشب صالحاً، أو كاذباً سارقاً فاشلاً مكتئباً مفتقداً والديه و المدرسة و المنظومة الحياتية المعرفية بكل أبعادها، إن شعوب مثل أمريكا و بريطانيا لا تتعلم من حكامها، لكنها تتعلم من مؤسساتها البحثية والعلمية، المجتمعية، من نهضتها و تطورها، من حريتها وانتظامها مع الناس في عقد معروف و متعارف عليه لا يسمح بالفوضى أو الخطأ و لا بالتشوه أو الفساد المطلق الذي يسري و يسير في دوائر مفرغة تعطل كل شيئ .
أما الجزء الثاني فهو (اضطرابات التفكير) Thought Disturbances و التي تتراوح ما بين عدوانية داخلية شديدة ، تصهر من ضراوتها قماشة التفكير مما يؤدى إلى تعطله، و لاحقاً إلى مرحلة عدم القدرة على استخدام العقل (أي مفهوم المجنونة ).
نحن غرقى في دوامة (الربط المزدوج) Double bind كالأم و كالطفل: تضربه بالكف ثم تأخذه في حضنها. الحكومة تؤجر البلطجية لضرب الناخبين بالسنج و السيوف و النار، ثم تبنى عمارات ليسكنها الشباب، الشيئ و نقيضه دائماً و أبداً، القبض على رموز الفساد و هو في نفس الوقت يستشري وينتشر بشكل لم يسبق له مثيل، يخلق كل ذلك حاله من البلبلة و ضعف الحقيقة و انهيار العالم الصحيح، ولا نقول المثالي، مما يؤدى إلى عملية فظيعة من تبادل الخطأ و الخطر و الاستمرار فيه دون هوادة بل و استعذابه إلى حدّ القتل و الانتحار.
عمياء تمشط شعر مجنونة ... لا يهم من هي العمياء ومن هي المجنونة ، المهم آثار ذلك التمشيط على العمياء والمجنونة وعلى الوالدين و الأزواج و الجيران ، على الرزق و التربية و الصحة و التعليم . نعم على كل ذلك
القاهرة 9/12/2005










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: القيادي اليميني المتطرف إريك زمور يتعرض للرشق بالبيض


.. وفد أمني إسرائيلي يزور واشنطن قريبا لبحث العملية العسكرية ال




.. شبكة الجزيرة تندد بقرار إسرائيل إغلاق مكاتبها وتصفه بأنه - ف


.. وزير الدفاع الإسرائيلي: حركة حماس لا تنوي التوصل إلى اتفاق م




.. حماس تعلن مسؤوليتها عن هجوم قرب معبر -كرم أبو سالم- وتقول إن