الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بين الرياضيات السنغافورية و العربية

عبدالله المدني

2005 / 12 / 21
الطب , والعلوم


من بعد نجاحاتها المشهودة في العديد من الحقول، وبما صارت معه مضربا للأمثال و نموذجا للإقتداء، هاهي سنغافورة تحقق إنجازا عالميا آخر. ففي آخر منافسة للمسابقة العالمية في الرياضيات و العلوم و التي تجرى كل بضع سنوات، تقدم طلابها على أقرانهم من ممثلي 49 دولة (أو نحو 230 ألف تلميذ و تلميذة) و حازوا على المركز الأول في الرياضيات، فيما ذهبت المراكز الأربعة التالية إلى كوريا الجنوبية و هونغ كونغ وتايوان و اليابان على التوالي، و ذلك في دليل واضح على تفوق الآسيويين على زملائهم في الغرب المتقدم.

أما العرب ( كان اللبنانيون و الأردنيون أفضلهم بتحقيقهم المرتبتين 31 و 32 على التوالي) فنفضل عدم الحديث عن مراكزهم من باب "ستر الفضيحة". ففي مثل هذه الحالات يستحسن الصمت كي لا يتسبب أي تعليق في إصابة الأمة بالمزيد من الإحباط . غير أن هناك من لا يجيد الصمت، و بدلا من البحث في أسباب هذا الإنجاز السنغافوري على الأقل، راح تحت عقدة عدائه المزمن للغرب، يغمز شامتا من قناة فشل طلبة الغرب في مجاراة أقرانهم الآسيويين فحسب.

إن هذا الإنجاز السنغافوري ليس جديدا إلا لمن لم يسمع بمثل هذه المنافسة الدولية من قبل. فطلبة هذه الجزيرة، الصغيرة، سبق لهم تحقيق نفس الإنجاز في الدورة الأولى في عام 1995 و في الدورة الثانية في عام 1999 . وفي مسابقة مماثلة أخرى ذات قواعد مختلفة و تعقد سنويا في استراليا، تكررت إنجازات السنغافوريين بالمستوى المبهر ذاته. ففي عام 1999 كان أربع من ضمن ثمانية فقط ممن وفقوا في الحصول على علامات كاملة في امتحان الرياضيات من سنغافورة. وفي العام التالي كان ستة سنغافوريين ضمن التسعة الذين نالوا درجات كاملة في المادة، وذلك من بين نصف مليون متسابق.

كل هذا لم يأت مصادفة أو من فراغ وإنما كحصيلة لجهود مضنية و مناهج متكاملة و متطورة وهيئات تدريس عالية الكفاءة و سياسات تربوية حكيمة، الأمر الذي جعل الناس حول العالم مشدودين ومهتمين بمعرفة أسرار تفوق السنغافوريين في الرياضيات. و حينما أدركوا أن بعض السر هو في المنهج تحديدا، ذاعت شهرة هذا المنهج و صار يعرف باسم "الرياضيات السنغافورية". و هذا أدى بدوره إلى نشؤ رغبة في معرفة كنه و أسرار المناهج التعليمية الأخرى في تلك البلاد على افتراض أنها هي الأخرى متقدمة و متميزة (وهي كذلك). وهكذا ظهرت مصطلحات مثل الفيزياء وفق الطريقة السنغافورية و الإنجليزية وفق الطريقة السنغافورية و ما شابهها.

أحد الأمور التي تميز منهج الرياضيات في سنغافورة انه يحدث و يطور من وقت إلى آخر كي يتلاءم من جهة مع آخر المبتكرات و الأساليب و الفنون التعليمية، و من جهة أخرى مع حاجات البلاد المتغيرة و ما يفرضه الحراك الاقتصادي العالمي من حولها من تبدل الاولويات والخطط والبرامج الهادفة إلى الارتقاء. و بمعنى آخر فان المنهج لا يترك جامدا لفترة زمنية طويلة كيلا يجد الطلبة أنفسهم يدرسون المادة بمضامين أو أساليب هجرها سواهم أو صارت من الماضي. والدليل على هذا أن وزارة التربية السنغافورية التي تتخذ من عبارة " نصيغ مستقبل أمتنا" شعارا لها قامت منذ عام 1981 الذي شهد إطلاق أول مقرر متطور للرياضيات الحديثة في البلاد، بإجراء تعديلات و تحسينات على المقرر المذكور في السنوات 1991 و 1994 و 1999 و 2001 . وقد شملت هذه التحسينات الإضافة و الحذف و النقل من مستوى تعليمي إلى آخر و إدخال التقنيات الجديدة كالكمبيوتر و الانترنت، إضافة إلى زيادة الساعات المخصصة لمادة الرياضيات و التركيز على مهارات السرعة في حل التمارين و إجراء العمليات الحسابية.

الأمر الآخر هو أن منهج الرياضيات السنغافوري ليس من إعداد حفنة من البيروقراطيين في وزارة التربية، و إنما نتاج مسابقات و مساهمات تشترك فيها المؤسسات العلمية والاقتصادية الخاصة، و التي ستحتضن يوما ما خريجي المدارس و الكليات وتوفر لهم الوظائف القيادية. وهذه بطبيعة الحال معنية بأن تقدم تصورات و مناهج تستوعب الأحدث ابتكارا و الأكثر قدرة على سبر أغوار العقول و تنشيطها من اجل خلق كوادر علمية تنافس بها الآخرين. ومن هنا فان الفضل في إدخال البرنامج المسمى "هاي ماث" في تدريس الرياضيات في سنغافورة مثلا يعزى لهذه المؤسسات التي اقتبسته من فكرة للمصرفية الهندية "نيرمالا سانكاران" و زميلها المصرفي "هارش راجان".

وعلى حين أن مناهج الرياضيات للمرحلة الابتدائية في بعض الأقطار العربية لا تزال حافلة بتمارين تبدأ بصيغة "باع تاجر كذا صندوق من .." و تنتهي بسؤال في صيغة " فكم كان ربحه؟"، فان مقرر الرياضيات في سنغافورة لنفس المرحلة تعتمد تمارين مضامينها و أرقامها مستوحاة من بيانات و إحصائيات قطاعات الاقتصاد القومي و من المعلومات الرقمية الخاصة بالبلاد، و ذلك بغية تحقيق هدف إضافي فوق تعليم مباديء الرياضيات هو تعريف الطلاب بإنجازات وطنهم و تحديث معلوماتهم الرقمية عنه و بالتالي تعزيز انتمائهم له و افتخارهم به.

ويقودنا الحديث عما حققته سنغافورة في حقل تعليم الرياضيات إلى الحديث عن نظامها التعليمي الذي يعتبر احد أفضل النظم التعليمية في العالم. و يعود الفضل في هذا إلى عاملين أساسيين هما: التطوير المستمر في السياسات و الأبحاث الخاصة بصياغة المناهج وتطبيقها وإدارة البيئة التعليمية ، و الالتزام الصارم لعشرات الآلاف من المدرسين المدربين تدريبا عاليا و المجبولين على عشق مهنتهم كواجب وطني و ليس كمجرد وظيفة مدرة للدخل. و قد اختصر وزير التربية السنغافوري ذات مرة أهداف وزارته في : التواصل مع العالم، و التركيز على مادتي الرياضيات والعلوم، و خلق المعرفة، وتأسيس بيئة تعليمية تشجع على الإبداع. و هذا بطبيعة الحال عكس أهداف نظم التعليم العربية الجامدة التي تنطلق في بناء الطلبة من رؤى "الموروث" القديم أو من هدف حصولهم على الشهادة فالوظيفة، و تركز على ثقافة التلقين و الحفظ و الانصياع ولا تسمح بمساحة لإعمال العقل و الجدل باعتبار أن هذه الأمور تشجع على التمرد و قلة الأدب.

و نختتم الحديث بمقارنة ما سبق بما أفصحت عنه دراسة تربوية أجريت مؤخرا في الكويت. حيث تبين أن أكثر من 35 بالمئة من المعلمين غير مؤهلين للتدريس رغم حصولهم على شهادات جامعية. غير أن الأغرب من ذلك كان اكتشاف أن أكثر من 50 بالمئة من الطلبة يكنون كراهية شديدة لمادتي الرياضيات (التي هي أس و قاعدة كل العلوم و منطلق أية نهضة علمية أو اقتصادية) و اللغة الإنجليزية (التي هي لغة العصر و مفتاح معرفة العلوم الحديثة و جواز المرور إلى الاقتصاد العالمي)، مقابل تفضيلهم لمادة التربية الإسلامية بحجة أن امتحاناتها عادة ما تكون سهلة!

وصف طه حسين يوم كان وزيرا للمعارف في مصر العلم بأنه كالماء و الهواء لا غنى للإنسان عنه. و تعليقنا هو أن العلم في بلادنا العربية هو بالفعل كذلك لأنه لا طعم له أو رائحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوليد عثمان : وزارة الصحة المصرية أكبر مؤسسة عالمية تسجل أر


.. خبيرة التغذية لبنى الرفاعي تحذر من شرب المياه على الطائرة




.. غوغل تزيد صلاحية تحديثات هواتفها إلى 7 سنوات


.. ابتداءً 1 يوليو | أمومة الحيوانات | ناشونال جيوغرافيك أبوظبي




.. د. أحمد المرسي: الهدف الرئيسي من المبادرة هو التوعية بأهمية