الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشكلة الإنسان في الثقافة الشرق-أوسطية

حسن محسن رمضان

2016 / 8 / 27
مواضيع وابحاث سياسية



تعاني الثقافة الشرق-أوسطية، بشكل عام، من قصور في فهم "الإنسان" كقيمة أخلاقية مجردة في ذاته. هذا ينعكس واضحاً جلياً في تصرفات ومواقف وكتابات أفراد هذه الشعوب وجماعاتها، وينعكس أيضاً في آرائها وقضاياها بل وحتى في ثوراتها كما نلاحظ ذلك جلياً في مصر وسوريا ولبنان والعراق وليبيا والبحرين واليمن وفلسطين المحتلة والمواقف المتناقضة حيالهم. فلا يوجد وعي حقيقي، فردي أو جماعي، ديني أو مذهبي، بالحصانة الأخلاقية التي تمنحها الحياة ذاتها للإنسان كحق طبيعي له بمجرد ولادته. ولا يوجد فهم واضح وواعي في تلك الذهنية للحقوق الطبيعية للإنسان الذي يُولد وهو يحملها معه بداهة بغضّ النظر عن جنسيته أو دينه أو اعتقاده أو لونه، مثل حق الحياة والحرية والكرامة والاعتقاد. هذه الإشكالية الأخلاقية في الموقف المبدئي تعكس الحالة الحقيقية للذهنية الشرق-أوسطية والشمال الأفريقي المعاصرة بوجه عام، وهي أن الأفراد والجماعات لا يمكن أن يكونوا إلا نتاج أصيل لثقافتهم وعقائدهم المنتجة لهم حتى وإنْ ادعوا عكس ذلك. والثقافة الشرق-أوسطية العامة، المتأثرة بالدين والطائفة والمذهب بشكل رئيس، هي ثقافة بحاجة إلى "إصلاح" نقدي وجذري شامل وعميق. فلا يمكننا أن نغض النظر عن التعصب الشديد المتطرف إلى حدود العدوانية اللفظية، وأحياناً الجسدية إذا أُتيحت الفرصة، لدى كل أتباع الديانات في الشرق الأوسط والشمال الأفريقي ومن دون استثناء [الحرب الأهلية اللبنانية والسورية كمثالين صارخين، وما يحدث للفلسطينيين تحت الاحتلال كمثال آخر]، وهذا في ذاته ينفي أن يكون ديناً واحداً هو المسؤول عن هذه الذهنية الأخلاقية الكارثية، وإنما هو سياق عام متشابه للدين، كل "دين"، في تلك الدول. فاليهودية، كديانة شرق-أوسطية النشأة، تمتلئ نصوصها المقدسة بقصص التوحش من كل نوع وشكل ولون وترسخها فتاوى دينية يهودية معاصرة [على سبيل المثال: فتاوى حرب يوليو - تموز 2006 على لبنان]، وتاريخ المسيحية، كديانة تعتقد ألوهية رجل يهودي شرق-أوسطي النشأة والممات، هو أسوأ تاريخ من الممكن أن تقرأه في أعمال التوحش وفنونه في كل محيط قارات العالم الخمس والتي وقعت باسم رمز ديني هو في ذاته أداة للتعذيب والقتل المتوحش [الصليب]، أما النصوص التاريخية الإسلامية ووقائع الأحداث الراهنة المتطرفة فهي تُعبر أيضاً عن نزعة واضحة جداً للعداء الشديد لكل مختلف أياً كان والذي يخرج أيضاً إلى حدود التوحش الشاذ في سياقه السلفي المتطرف بالذات. امتداد تلك الثقافات الشرق-أوسطية واضح جداً في الممارسات الرسمية والشعبية التي نراها في دول ما يسمى بـ "الربيع العربي" على الخصوص في طريقة التعامل مع المعارضين السياسيين أو المختلفين عقائدياً أو فكرياً، وهي طريقة يغلب عليها طابع العنف السادي والتشفي إلى حدود القتل والتعذيب والتشريد والاضطهاد، بل والتحريض عليهم بكل أشكال الاستعداء المتاحة، مع ما يصاحبها من الاعتقالات العشوائية وتلفيق الاتهامات من جهة، والتبرير غير الأخلاقي لهذه الممارسات عند المجموع العام من جهة أخرى. هي ممارسات تتم تحت تشجيع واضح من كل الأطياف الدينية الشرق-أوسطية (يهودية – مسيحية - إسلامية) مع ما يتفرع عنها من مذاهب أو أعراق أو أصول [لاحظ الموقف الأمازيغي والكردي على سبيل المثال وتتبع آراؤهما، وأيضاً تتبع المواقف المضادة لهما]. إلا أن الملاحظة الصادمة في تلك الثورات الربيعية هي أن تلك الشعوب، بكل أطيافها، التي تقول بأنها ثارت ضد "الاستبداد" أصبحت اليوم تحرض عليه علناً ضد خصومها السياسيين أو المختلفين عنها دينياً أو عقائدياً إلى حدود التصفية والقتل كما يحدث الآن، علناً وبدون وازع، في مصر وسوريا والعراق واليمن والبحرين وليبيا، مع ملاحظة التحريض الطائفي الذي يستمد قوته أساساً من القوى الدينية، الرسمية وغير الرسمية، في السعودية ومصر والعراق ثم لينتشر في الوطن العربي وخارجه.

هناك مشكلة معيارية أخلاقية حقيقية تساهم في تأجيج الصراع في الشرق الأوسط والشمال الأفريقي ويتم إغفالها لسبب أو لآخر. هناك خطاب عدائي، ضمن الفضاء الشرق-أوسطي والشمال الأفريقي، متعدد المستويات ومتعدد المحاور ومتباين الوضوح والعلنية. فبينما هناك خطاب عدائي علني وواضح ضد الأقليات وضد المختلفين عقائدياً كما هو في الخطاب الإسلامي السلفي على وجه الخصوص وعند الجماعات اليهودية المتطرفة في فلسطين المحتلة، إلا أنه حتى الأديان التي تدّعي التسامح مثل المسيحية لا يُمكن لها أن تُنكر بأنها تمارس ازدواجية في الخطاب. بمعنى أن هناك خطاب مسيحي علني دعائي متسامح، ولكن هناك أيضاً، وفي نفس الوقت، خطاب من نوع آخر يجنح نحو التطرف ورفض الآخر المختلف يدور خلف الأبواب المغلقة بين أتباعها ورجال دينها ويتميز بالعدوانية والتشفي وربما التحريض، وهذا دلائله واضحة جداً على صفحات الإنترنت وفي المقالات وفي المواقف السياسية والاجتماعية والفكرية وتحت الأسماء الحقيقية أو الوهمية لأتباع هذه الديانة. هذا كله ذو أثر عميق في تشكيل الشخصية الفردية والجماعية في الشرق الأوسط ويمكن التدليل عليها من أحداث متعددة في دول متعددة.

عندما كتب ابن تيمية في وصف أهل الحديث، أي السلفيين بلغتنا اليوم، تحت فصل يعقده في مجموع فتاويه تحت عنوان: (كونهم [يقصد السلفيين] أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو)، يقول في وصف السلفيين أصحاب الحديث: "هم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدّهم نظراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقـاً"، ثم بعد ذلك يرتفع بهم درجة أخرى وليقول عن السلفيين: "لأهل الحديث من المزية أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمه بعضهم هو كلام في نفسه حق"، أي أن كلام السلفيين هو "حق" بغض النظر تماماً عن إمكانية فهمه من عدمه، فهو، أي ابن تيمية، عندما كتب هذا الكلام عن طائفته التي يعتقد فيها أنها الـ "منصورة" لم يكن يعي على الحقيقة أنه كان يلخص موقف المشكلة الأخلاقية التي تعاني منها كل ثقافات الوطن العربي وكل ما نشأ منها أو عنها من أديان ومذاهب. فـ "كلام" كل دين شرق-أوسطي بلا استثناء عند أهله، وكل مذهب شرق-أوسطي بلا استثناء، وكل فرد شرق-أوسطي تابع لهم أو غير تابع هو "حق" لا يقبل الجدال عنده وعند أهله، وهو، أي هذا "الكلام"، يعتقدون فيه أنه نتاج (أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدّهم نظراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقـاً) عند أتباعهم. إلى هنا والمشكلة تبدو بديهية ويمكن ملاحظتها عند شعوب العالم أجمع، إلا أن المشكلة الأخلاقية الشرق-أوسطية تتبدى جلياً عندما يتصرف الجميع تجاه "كل" مخالف لهذا "الكلام" على أنه (أقل في القيمة الإنسانية منهم)، ويجوز عليه، على الأقل، درجة من درجات التوحش غير الإنسانية وغير الأخلاقية. هذا مشاهد عند السلفيين المتطرفين، وأيضاً مشاهد عن المسلمين والمسيحيين واليهود بدرجة أو بأخرى، وكل ما عليك فعله لتدلل على هذه الحقيقة هو أن ترجع لمواقفهم وكتاباتهم وأفعالهم وتاريخهم الحديث. إلا أن الأسوأ من هذا كله هو أن الغالبية العظمى من شعوب الشرق-الأوسط، حتى وإن هاجروا أوطانهم ليعيشوا في الغرب، يتصرفون كنتاج أصيل لهذه الثقافات المتوحشة، وليكون "كلام" قناعاتهم الدينية أو الأيديولوجية متعالياً بالضرورة، في أذهانهم، على انتقاد المنتقدين أو تفنيدهم له أو إستفهامهم عن معناه لأنه، في قناعاتهم وثقافتهم وبكل ببساطة، هو "في نفسه حق" ويجب الإيمان بذلك، وإلا فإن "المخالف" لهم سوف تنحط قيمته الإنسانية، وكرامته، بل وحياته ذاتها إلى حدود المباح تماماً. وكمثال صارخ: الصراع الشعبي الإسلامي – المسيحي الشرق-أوسطي والذي يساهم فيه بصورة كارثية المهاجرون وأبناء الداخل والمتعلمون [أغلبيتهم العظمى لا يستحق وصف "المثقفون" بكل تأكيد، راجع فقط ما يسمونه "مقالات"] وغيرهم، وأحداث مصر وسوريا واليمن والبحرين.

لا يوجد أمل حقيقي في الخروج من حالة هدم الذات التي تعانيها كل أوطان الشرق الأوسط والشمال الأفريقي بدون استثناء إلا من خلال مواجهة القيمة الأخلاقية الكارثية المتجذرة لديهم التي تبيح انتهاك إنسانية المخالف لهم. ولا يوجد خلاص حقيقي إلا من خلال تلك المواجهة لإفناء تلك النزعة المتوحشة وإحلال قيم أخلاقية أكثر تسامحاً وقبولاً للآخر المختلف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حكمة التواضع
عبد القادر أنيس ( 2016 / 8 / 27 - 20:43 )
أتبنى تشخيصك الحصيف بدون تحفظ. بودي فقط أن أقف عند قولك في آخر المقالة: (ولا يوجد خلاص حقيقي إلا من خلال تلك المواجهة لإفناء تلك النزعة المتوحشة وإحلال قيم أخلاقية أكثر تسامحاً وقبولاً للآخر المختلف.)
لماذا لا يجب أن نكون أكثر صراحة وتواضعا، ونقول بوضوح للناس بأننا، ونحن نبحث عن طريق الخلاص من التخلف، لا نشق طريقا جديدا وأن هناك شعوبا سبقتنا وعانت ما عانت من نفس المشاكل وأنها تمكنت من تجاوز مشاكلها العويصة عبر تبنى قيم جديدة هي في صلب معنى الحداثة؟ لماذا لا نتحلى بالتواضع شأن شعوب الشرق الأقصى، ونقف تلاميذ نجباء أمام من عنده الخبرة والعلم، وهو الغرب تحديدا تماما مثلما دعا إلى ذلك طه حسين منذ عشرات السنين: (يجب أن نأخذ من الغرب خيره وشره إذا أردنا مجاراته)؟ لا شك أننا لو فعلنا هذا فسوف نضطر إلى إحداث قطيعات كثيرة ومؤلمة مع هوياتنا التقليدية وعلى رأسها الأديان، ذلك أنه يستحيل أن نسير في طريق التطور بالسرعة المطلوبة ما لم نتخلَّ عن الأثقال المشدودة إلى أرجلنا شأن سجناء الأشغال الشاقة.
تحياتي


2 - الثقافات والعقائد لا أثر لها في الحياة
عمر ولد الشيخ ( 2016 / 8 / 28 - 06:26 )
طالما أن أسلوب النتاج أسباب الحياة هو الذي يشكل الثقافات والعقائد فذلك يعني أن الثقافات والعقائد إنما هي انعكاس لوسائل الانتاج وهي لذلك لا تؤثر شيئا في حياة الانسان


3 - الثقافات والعقائد لا أثر لها في الحياة
عمر ولد الشيخ ( 2016 / 8 / 28 - 06:26 )
طالما أن أسلوب النتاج أسباب الحياة هو الذي يشكل الثقافات والعقائد فذلك يعني أن الثقافات والعقائد إنما هي انعكاس لوسائل الانتاج وهي لذلك لا تؤثر شيئا في حياة الانسان


4 - عمر ولد الشيخ
عبد القادر أنيس ( 2016 / 8 / 28 - 13:29 )
حتى ماركس، يا أخي عمر ولد الشيخ، تراجع عن هذه الحماقة، ولو جزئيا، عندما اعترف بالاستقلال النسبي للبنية الفوقية. يعني أن الناس يمكن أن يفكروا ويتصرفوا، بوعي أو وخاصة بدون وعي، على الضد من مصالحهم المادية. ألا ترى كيف ينساق الناس في مسيرات مليونية عندنا وراء شعارات الأحزاب الدينية رغم أنها لا تخدم مصالحهم من حيث معاداتها للمساواة والحرية والديمقراطية. كيف تفسر لنا التحام جماهير النساء بهم بينما أيديولوجيتهم معادية لهن؟
الثقافات بما فيها الأديان لها قوة جبارة قد تجعل الناس يرتبكون أبشع حماقات والجرائم: بهذا نفسر احتقار الرجال للنساء عندنا وسجنهن وقتلهن، واحتقار أتباع الأديان لبعضهم البعض حتى الإبادة، ونفسر قوة الطائفية والجهوية والقبلية والعرقية وغيرها من الأمراض الناجمة عن اقتناع الناس بأفكار لا علاقة لها بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وهي سبب في تدهور حياتهن المادية.
تحياتي

اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس