الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أي مجتمع مدني بعد الربيع العربي؟

نعيم حيماد

2016 / 8 / 29
مواضيع وابحاث سياسية





إذا سألت أحدا من الناس بعد تجربة الربيع العربي، عن صفة للمجتمع الذي يحلم بأن يكون ثمرة لثورته المظفرة، لوجدته يقول إنه مجتمع مدني. و لا يهمه إذاك أن يستحضر النضال التاريخي العريق الذي شهدته العديد من المجتمعات، لأجل إرساء أركان المجتمع المدني، لأنه مجرد فكرة المدنية، تخلق لديه الاطمئنان على نظام الحكم السياسي في دولته، و ما يتْبعه من ضمان لحقوقه و حريته. و بالمقابل، فإن فكرة الدولة الدينية، و لأنها – واقعيا - تنظر إلى كل شيء من وجهة نظر دينية نصية، دون اعتبار للمتغيرات، فإنها تخلق النفور لدى الناس، لأن ما نعيشه في مثل هذا النمط من الدول، ما هو إلا تستر وراء الدين و استغلال لقوته في إخضاع العوام. و بالمثل، ينفرُ الناس من الدولة العسكرية، لأن العسكر من شروط بقائها و تسلطها، حتى إذا أراد الشعب إسقاطها، لو توفرت له الفرصة لذلك، حكم على أفراده بالموت الجماعي.

إن المجتمع المدني ليس وليد ميدان التحرير، و لم يُوحِ به احتراق البوعزيزي، و إنما هو وليد فكرة الحرية. لكننا لن نتوقف عند هذه النقطة، فالسؤال حول معنى المجتمع المدني و أصوله و مظاهره، صار ملحا، خصوصا، و أن مجتمعات الربيع العربي لم ترسُ بعد على أرض صلبة سياسيا و حقوقيا و اقتصاديا. فما جدوى المجتمع المدني؟

لا يثور شعب من الشعوب بلا مبررات، و لا تكون له الرغبة في إسقاط النظام السياسي الذي يحكمه، دون أن يكون هذا النظام قد انتهك كل الحقوق التي بها يكون الشعب شعبا. هكذا نفهم أن ما يسمى بالربيع العربي، هو فرصة نادرة لإعادة صياغة أنظمة الحكم، وفق مبدأ الحرية الإنسانية، و ما تقتضيه من حرية سياسية و اقتصادية و دينية. لقد كانت الدعوة إلى ما يسمى بالدولة المدنية، رفضا صارخا لكل النزعات التحكمية، العسكرية و الدينية، التي تنزع إلى تنميط سلوك الأفراد. و قد كان نموذج المجتمع المدني في أوروبا أساسا للمدينة الفاضلة، المبنية على العقل و أخلاقياته، فهو ضرورة مرحلية أخرجت الناس من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، المؤسَّسَة على التعاقد الاجتماعي بين الأفراد، الذين كان هاجسهم الوحيد، ضمان حقوقهم و حريتهم. فالمجتمع كما تصورته الكنيسة في المجتمع الديني الأوروبي – في القرون الوسطى - هو مخطط إلهي يديره رجل الدين، ممثل الإله على الأرض، و لرجل الدين هذا، فيزياؤه و رياضياته و فنه ...، و مَن أنكر التعاليم الدينية مهما بلغ علمه، يكون في عداد الأموات. لكن المجتمع المدني كما تأصل مع جون جاك روسو - على سبيل المثال- الحكم فيه للشعب، و هو من يمنح السلطة السيادية للهيئة السياسية، بموجب التعاقد الاجتماعي. و ما على الحكومة سوى تطبيق القوانين التي صادق عليها الشعب. لقد تحولت قوة الأفراد إلى قوة القانون، كما تحولت حريتهم من طبيعية إلى مدنية، و صارت الأفعال محكومة بالقوانين التي اتفق عليها المجموع.

إن تطبيق القانون و ضمان الحريات من أهم ركائز المجتمع المدني، ينضاف إليهما مبدأ التسامح الذي يجب أن يضعه الناس نصب أعينهم، فلا أحد يرغب في أن تصادَر حريته، أو أن يوَجَّه في أسلوب حياته، فالمسؤولية كفيلة بأن تجعل الناس يختارون حياتهم و يقررون وجودهم، و ينتقون مصادر معرفتهم، و سبل حل مشاكلهم. و ما دام الأمر على هذا النحو، فالاتفاق على القوانين، يجب أن يأخذ بالاعتبار أولا و أخيرا، اختلاف الناس و تعدديتهم الفكرية، و يسمح لهم، ببسط وجودهم.


يحتاج تجسيد المجتمع المدني على أرض الواقع في دول الربيع العربي، إلى مراجعة البنى السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و تهييئها لتلائم التصور العام للمجتمع المدني، الذي لا يمكن تشييده دون تحقيق الديمقراطية و النهضة الاقتصادية و العدالة الاجتماعية و حقوق المواطنين و استقلال القضاء و حرية التعبير و تمكين المرأة. و أي خلل في تفعيل هذه الأركان، يولَِّد الاستبداد و يؤبده، لأنه يعمل تحت غطاء مدني. لذلك، تشهد الدول العربية أزمة تفعيل شروط المجتمع المدني. و يزداد الأمر سوءا، في غياب التوزيع المتكافئ للثروة بين الأفراد، و التأهيل الثقافي لهم، و هما عنصران، ما لم يتم الاعتناء بهما و بمقتضياتهما، فستظل الرغبة بالعيش في المجتمع المدني رغبة فئوية، ما يحول دون التحقق الفعلي لهذا النوع من المجتمع.

لقد أبانت الثورات الشعبية في دول الربيع العربي، أن إرادة الشعب لا تُقهَر، و أن عمر الديكتاتوريات قصير جدا، و أن الناس هم الذين يصنعون نمط الحكم السياسي لبلدهم. بقي أن مجتمع الحريات، لا يولد من إسقاط النظام فحسب، بل هو بناء مستمر، تشارك فيه كل مكونات المجتمع و أطيافه، على أن يُؤهَّل كل الأفراد للمساهمة في تدبير الشأن العام، عبر مؤسسات و منظمات مدنية. و كل إقصاء تحت الذريعة الطائفية أو العرقية أو اللغوية أو الجنسية، يجب أن يُقابَل بقوة القوانين، تلك التي نتجت عن تصويت الشعب في انتخابات حرة و مسؤولة.

و أخيرا، فبالرغم من اختلاف العوامل التي أنتجت المجتمع المدني في أوروبا، عن واقع دول العالم العربي، إلا أنه في القرن الواحد و العشرين، و في ظل العولمة، صار ممكنا تهييئ المجتمعات بنيويا. فحتى أوروبا ذاتها لم تشهد الديمقراطية إلا في العصر الحديث، و لم تكن في بدايتها إلا استلهاما للتجربة اليونانية، التي أنهت عصر حكم الآلهة المتعددة، و شيدت مؤسسات سياسية تبث في قضايا الشأن العام بشكل عقلاني. حصل هذا الأمر في القرن الخامس قبل الميلاد، ما يدل على أن نجاح الحوار الحضاري و الثقافي أهم سبل تجاوز الأزمات التي تعيق اكتمال المجتمعات المدنية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب