الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درجة انصهار الحمير

محسن حنيص
(Mohsin Shawkat)

2016 / 8 / 29
الادب والفن


درجة انصهار الحمير
( مقارنة بين العتبة العباسية وشارع المتنبي )
بقلم : محسن حنيص
....................................
ايهما اكثر سخونة في شهر تموز : العتبة العباسية ام شارع المتنبي ؟
الجواب يرتبط بالسنة المفصلية 2003 , و يقودنا الى قيمة الثقافة (الحياة المدنية ) في العراق .
قبل 2003 كانت البنى التحية للثقافة وللحياة المدنية عموما اكثر برودة من الاضرحة المقدسة والجوامع والمدارس الدينية . كان المسرح الوطني ومسرح الرشيد وصالات السينما وحانات ابي نؤاس والاندية الرسمية في بغداد اماكن باردة جدا قياسا الى العتبة العباسية مثلا . وبينما كان الفرق في درجة الحرارة بين رأس العباس والمسرح الوطني يمثل لقطاع واسع من المثقفين انحيازا للعلمانية , فقد كان يمثل للشيعة دليلا على طائفية صدام . كان الشيعة يراقبون رأس امامهم وهو يتعبأ بالحرارة , ويعدون حبات العرق في جباه الزوار ليحولوها لاحقا الى احتقان طائفي باهض التكاليف .
كان رأس العباس حارا لا بسبب المزاج والروح الحربية فقط بل بسبب عدم وجود نظام تبريد كفوء .
ما حصل بعد 2003 هو العكس . يمكن اعتبارها سنة انقلاب في درجة الحرارة في البنى التحتية للدين مقابل العلمانية .
اكتشفت العتبة العباسية واحدا من اهم قوانين القداسة في العصر الحديث . فلكي تؤمن القداسة لمكان ما فما عليك سوى ان تخفض درجة حرارته الى ادنى حد مع ابقاء ما حوله يتلظى مثل الجحيم . وكلما ازداد الفرق في درجة الحرارة كلما تعاظمت القداسة وازداد عدد الزوار .
تم خفض درجة حرارة العباس (ع) بشكل غير مسبوق . هذه هي الصفعة الاولى التي يوجها لك الامام حالما تدخل حضرته .
في كربلاء تضربك برودة العباس قبل ان تدخل اليه . التبريد هو الذي يسحب الناس من ياقاتهم ويدخلهم صاغرين . ولكي تتحقق هذه المعادلة يتوجب وضع الجنة والنار في مكان واحد . وان يكونا متجاورين جدا . هنا تكمن عبقرية مؤسسة العتبة .
رافق هذا الاجراء تبدل دراماتيكي في طبائع الامام . لم يعد مصدر رهبة بالنسبة للصوص الذين يتكلمون ويسرقون ويحلفون باسمه . فقد تم التوصل الى آلية لامتصاص الغضب . فلكي تسحب من العباس قدرته على توجيه الصفعات ( شارة العباس ) لجأت العتبة الى التبريد الفائق ( Super Cooling ) بواسطة ميتسوبيشي .
بفضل التكنولوجيا الحديثة في التبريد ( Chillers) اصبح رأس العباس قطعة من الثلج . لم يعد قمر بني هاشم قادرا على الغضب (يشور) حتى لو حلفنا به زورا . ولقد شملت البرودة جميع اعضائه بما في ذلك كفيه المقطوعين . فاضيف سبب جديد يمنعه من توجيه الصفعات (سطرة ) حتى لو تجرأ نشال على مد يده في جيبه .
غير ان التبريد الفائق هو سلاح ذو حدين . فهو من جهة يستقطب المزيد من الزوار . ومن جهة اخرى يربط القداسة كليا بالتيار الكهربائي . فاذا انقطع التيار فسوف تسقط القداسة معه .
هذا هو التهديد الذي يواجه مشروعات القداسة المعاصرة . ولذلك يتوجب فصل الامام كليا عن الشبكة الوطنية لتوزيع الطاقة . وخلق منظومة توليد وتوزيع مستقلة . ان خطر سقوط القداسة سوف يظل قائما لحين اكتمال البنى التحية للعتبة . لنتخيل ان هناك سبعة مليون زائر للعتبة , و في ذروة الزيارة ينقطع التيار الكهربائي . سوف تطالب هذه الملايين الامام بمعجزة . تدوير اجهزة التكييف المركزي مثلا . لكني اشك انه سيكون قادرا حتى على تدوير المراوح الصغيرة المعلقة في السقف . لايستطيع العباس ان يصمد لحظة واحدة بدون ميتسوبيشي اليابانية . ليس العباس وحده سيكون محرجا في هذه الحالة بل الله نفسه . فبدون اليابان لا يستطيع ان يبرد بيته في مكة .
من جهة اخرى . وبغية ضمان القداسة وتحول الزيارة الى طقس يومي , فان من مصلحة العتبة بقاء ازمة الكهرباء الى الابد . الافضل بقاء المواطن متناوبا بين (المولدة ) و (الوطنية ) . والمقصود هنا (الشبكة الوطنية ) وبرمجة القطع الكهربائي التي لاتسمح بالتبريد الحقيقي , بل فقط بالمراوح التي تحرك الهواء فقط ولا تتدخل في حرارته .
وفي تموز العراق فان جهنم موجودة في كل مكان تقريبا . لا يبقى سوى اقامة مكعبات مغلقة وسحب الحرارة منها لتكون بمثابة الجنة المجاورة التي يهرع اليها هربا من الجحيم .
على هذا الاساس فان بامكان اي قبر مبرد بشكل جيد ان يتحول الى قبر مقدس . وينطبق ذات الشرط على اي مكان , بل و اية عقيدة . ويحدث العكس للامكنة و القيم والشخصيات السامية , حيث تنحدر الى الحضيض , ويتخلى الناس عنها , اذا وضعت في درجة حرارة خمسين مئوية . وهذا ما يحدث لشارع المتنبي .
درجة الحرارة هي دالة للقداسة . ادركت مؤسسة العتبة هذه الحقيقة فراحت تعمل بموجبها , وهي تتقدم لتوسيع رقعتها والخروج من النطاق التقليدي , مادامت تملك معدات التبريد الكافية . حيث بامكانها تحويل اي مكان الى ضريح مقدس وضمه الى امبراطوريتها بمجرد وضع قبة وتفريغها من الحرارة . وستتراجع كافة المشاريع والمؤسسات الثقافية اذا بقيت تدار من قبل عديمي الاحساس .
وفي ظل صعود الاسلاميين لم يعد هناك ضرورة لوجود مسارح ولا دور سينما ولا حانات مبردة . ولم يبق للثثقافة سوى شارع واحد هو المتنبي . الذي يقابل الجحيم في سخونته . , مقابل مئات الالوف من الجوامع والحسينيات المبردة .

................
يمكن القول ان اشهر الصيف الاربع في العراق هي اسوا ماموجود في هذا البلد .وهي اسوأ من الحكام الفاسدين فيه , ففي هذه الشهور يصل العراقيون الى حالة الاعياء . ويفشل الله في وضع حكمة لهذا الجحيم . وتتصاعد اسئلة بلا جواب . في هذه الشهور تنصهر الحمير وتسيح في الشوارع , وتتحول المعتقدات الى رغوة صابون . فلا تبقى للجنة سوى صورة واحدة هي عبارة عن مكعب مغلق يتم فيه سحب جهنم بواسطة مكيفات يا بانية وطردها الى الخارج .
في الصيف تتعرى الدولة تماما ويشرق غباؤها الناصع . لايفهم القائمون ان درجة الحرارة مسؤولة جزئيا عن حدة الطباع , وصعوبة احترام القوانين , والمعارضة الفوضوية , والتمرد , وحوار الطرشان ومعظم الامراض النفسية .
نحن امة نحتاج الى تبريد مركزي فائق , وطويل الامد , لكي نستعيد قوانا الروحية . نعاني من توتر ( Stress) جماعي , وانطفاء ( Burnout) جماعي .
وبما اننا نريد الوصول الى الشرط الحراري للثقافة , فلابد ان نسلم باستحالة الثقافة دون تدخل ياباني وتحديدا تكنولوجيا التبريد الفائق . وان الحديث عن الثقافة في خمسين مئوي لا يقل غرابة عن نتف شعر العانة اثناء ركوب قطار الموت (مدينة الألعاب ) .
للثقافة في العراق معبدها المركزي وهو شارع المتنبي . وهو يقابل ضريح العباس (ع ) من حيث الدلالة . ومثلما ان للعباس زوارا دائميين فان للمتنبي زواره . في هذا الشارع تصل درجة الحرارة الى مستوى منحط وبذيء وغير لائق بتاتا .
لايمكن للثقافة (الحياة المدنية ) ان تعيش في درجة انصهار الحمير . وفي ابنية متداعية نتقاسم فيها الجلوس مع القوارض . هناك جرذان اكثر من البشر واكثر من الكتب تعيش في الخرائب المحيطة بالمتنبي . شارع الرشيد نفسه اصبح عبارة عن مزبلة محترمة جدا وتدعو الى البكاء .
وبينما لاتزيد درجة حرارة العباس عن 15 مئوي في دائرة قطرها مئة متر تقريبا . فان درجة الحرارة في شارع المتنبي تتجاوز الخمسين احيانا . و في (الشابندر ) فان جو المقهى اكثر سخونة من الشاي الذي نشربه . وهناك ( القيصرية) وهو فضاء يجمع بين القذارة والحرارة . ويمثل مكانا صالحا لاحتقار الثقافة , اذ لايوجد اي سقف يمنع الشمس من صب حممها على ال(مثقفين ) وهم يواصلون ثرثرتهم . ولتوزيع الجحيم على الجميع فقد وضعت مراوح من زمن مدحت باشا .
وحين تقترب الساعة من الواحدة ظهرا , في منتصف تموز , يتقدم الجحيم ليحتل المتنبي . يترك الباعة كتبهم ليهربوا الى اقرب ظل . تبقى الكتب لوحدها تواجه هذا المارد اللعين . لا تجد من يقلبها او يحملها بعيدا . يذوب الحبر ويسيح على الرصيف .تفقد الكلمة مدلولها .
لايمكن مقارنة تفاهة الامكنة الثقافية في العراق مع اي بلد يملك نفس الثروة . انها عار على الاجيال كلها . وعار علينا نحن الذين نتأبط الكتب . ففي احد الايام من شهر تموز المنصرم اتفقت على موعد مع صديق قديم جدا في شارع المتنبي . كان بيننا اكثر من ثلاثين عاما من الفراق . وبسبب فضاعة الحرارة لم اذهب الى الموعد . وحين اتصل بي لاحقا لم اقدم له اي اعتذار . و علمت منه انه هو الآخر لم يحضر , ولنفس السبب , واخيرا اتفقنا ان نبقى مفترقين او نلتقي في العتبة العباسية في كربلاء .
سوف نكمل قصة الثقافة العراقية بالحديث عن المعبد الذليل . الا وهو المقر العام لأتحاد الادباء , في ساحة الاندلس . وهو المقر الرسمي للمثقفين العراقيين . كل شيء يمكن تصوره الا ان تكون هذه البناية رمزا للادب . المبنى بائس وكئيب مثل ارملة الضمان الاجتماعي . يخلط الكثيرون بين مبنى الاتحاد ومركز الصم والبكم في ساحة الاندلس , فكلا المبنيين يفتقران الى الحد الادنى من المهابة والكبرياء العمراني .
ويضيف الحارس قائلا انه لايستطيع ان يمنع احدا من احتلال المبنى او المبيت فيه . هناك موظفون حكوميون يتخذون من الاتحاد مقرا لتمشية معاملات المواطنين .وهناك مراجعون يسألونه عن لجنة فحص النظر للسواق , او اموال القاصرين , او دائرة انحصار التبغ . وهناك كاتب عدل يأتي يومين في الاسبوع . وقد خزنت دائرة كهرباء الرصافة محولاتها الاحتياطية في حديقة النادي . وان الكثير من المارة يقضون (حاجتهم) في اتحاد الادباء .
وقد اوجد التيار الصدري حلا مؤقتا لاشكالية ( الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) . وتحديدا مشكلة الخمرة التي تقدم في الاتحاد . حيث بالامكان توجيه لكمة الى وجه ( الفريد سمعان) الامين العام للاتحاد , كل ثلاثة اشهر . وهو اضعف الايمان .
اننا فئة مندحرة . في وطن لا مكان لنا فيه . لا ننتصر الا في مساحة ضيقة في دواخلنا , او في الورقة البيضاء , او كأس الخمر . اضيف لنا عبء جديد . هو اننا محرومون على الدوام من التبريد .
يفكر الاسلاميون التخلص منا دون ضجيج . هناك مقترح لوضعنا في ثلاث حافلات (باصات خشب ) ورمينا خارج الحدود . بعد ذلك سيتم غلق شارع المتنبي وانهاء هذه السخافة المسماة الثقافة. المقترح جيد وعملي . سوف لن تشطب الدولة العراقية من الامم المتحدة . الثقافة ليست شرطا من شروط الاعتراف بالدول .
ولكي لا يموت المثقفون من القهر عليهم ان يتعلموا كيف يبيعوا اوطانهم للاجنبي . فبعد قرون من السيادة اثبتت الوقائع ان الحاكم المحلي هو العدو الاول للثقافة والحياة المدنية . وان فكرة السيادة تصب في مصلحة الفئة الاكثر انحطاطا في المجتمع . لقد آن لنا ان نغير اتجاه الثقافة نحو كشف مساويء الاستقلال , والسيادة , وحق تقرير المصير , وكل هذا الزبل (الوطني) الضار .
لايمكن النظر الى الثقافة بشكل جدي في مثل هذه الاجواء . الثقافة تبدأ عندما تتوفر للجسد متطلباته الاساسية من الحرارة والشبع والشعور بالامان ..
.ليس الهدف من هذا المقال هو حرمان العباس (ابو راس الحار) من حقه في التبريد , سوف اكون انانيا اذا فكرت بهذه الطريقة . على الاقل ان هناك مكان في البلاد يلجا اليه الناس عند هبوط الجحيم . فباسم الزيارة اصبح الضريح ملجأ لكثير من العمال والكسبة والمعدمين والذين لا يجدون التبريد في بيوتهم .
احتقار الثقافة موضوع يتعاون فيه الجميع . الدولة ورجال الدين الافاضل والمثقف نفسه . وهو يعود اصلا الى علم الجمال المحلي (المزاج العام ) الذي يرى الجمال في الجهل التام والقوة الفجة وليس العقل .
....................
محسن حنيص
[email protected]



.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل