الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبرا ابراهيم جبرا : المثقف رساما ً

خالد السلطاني

2005 / 12 / 23
الادب والفن


لا يشك احد بان انجازات العقد الخمسيني في الثقافة العراقية كانت انجازات مهمة ومتشعبة وتجديديةً ، وربما ساهمت انجازات ذلك العقد " البطولي " : الفريد وشديد الثراء في خلق مبدعيه المعبرين عن منجزه المتشعب والمتنوع بصدق وجلاء واضحين ؛ وقد يكون حدث " مصادفة " تواجد العدد الكبير من المبدعين ابان تلك الفترة ، هو الذي اكسب تلك المرحلة الزمنية من تاريخ العراق الثقافي تلك الاهمية الفائقة ؛ الاهمية التى ما برحت تأثيراتها تبدو واضحة وقوية على مسار تطوّر مجمل الاجناس الابداعية العراقية . وايا ً يكن الامر ، فان العقد الخمسيني سيظل يمثل اهمية استثنائية في سجل المعطي الثقافي العراقي ، نظرا لتشعب ذلك المعطى وشموليته ونَفسَه التجديدي ، .. وأحد الذين عبروا وساهموا وابدعوا في تلك الفترة هو " جبرا ابراهبم جبرا " ( 1920- 1994 ) – " الكاتب الشمولي الموسوعي " ، بحسب وصف " فخري صالح " له ، والذي تحل ذكرى رحيله الحادية عشر في هذه الايام .
يتعين التأكيد بادئ ذي بدء ، بان جبرا ابراهيم جبرا ، وبحكم مرجعياته الثقافية الرصينة والمتنورة قد وعى بصورة جيدة اهمية الاحداث الدراماتيكية والتجديدية التى كان يمور بها المشهد الثقافي العراقي وقتذاك ، تلك الاحداث التى افضت في النتيجة الى تكريس مفاهيم جديدة وحداثية في مجالات ثقافية عديدة ساهمت ، بالاخير، في تغيير الذائقة الفنية وبدلت من اساليب التعاطي للمنجز الثقافي بتجلياته المتنوعة . كما ان ذلك الوعي اقترن ايضا لدى " جبرا " بممارسة نشطة وجادة ومتنوعة في مجمل المنجز الثقافي العراقي ، فهو بالاضافة الى كونه روائيا وناقدا فنيا ، ومترجما وصحفيا ، فانه ايضا .. رسام ، ساهم بابداعه الفني في ترسيخ مبادئ التجديد والحداثة في الفن العراقي ، جنبا الى جنب اصدقاءه وزملاءه في " جماعة بغداد للفن الحديث " .
قد يجادل المرء في اساليب ونوعية اصطفاءات " جبرا " الثقافية ، ومسعاه في تركيز الانتباه باتجاه جانب محدد ومنتقى من الثقافة العراقية ، ولا سيما في تجلياتها الفنية ، وعدم اكتراثه وحتى تغاضيه عن تناول الجوانب الابداعية الاخرى من تنوعيات الفن العراقي التى اكسبت ذلك الفن ثراء اسلوبيا واسست لاصالته المتميزّة . بيد ان الامر الاكيد بان مسعى " جبرا " التنويري والتجديدي كان امرا واضحا ومعترفا به . فقد ظل ، بفضل معرفته الواسعة لاساليب النقد الحديث وتنوع نشاطه الثقافي مرجعا ً رصينا ً ومعتمدا ً لانجازات الفن العراقي الحديث وخصوصا في سنينه التأسيسة ، ولم تقتصر متابعته في الشأن الفني فقط ، وانما شملت جميع اجناس الثقافة الاخرى ، بضمنها العمارة العراقية الحديثة ، التى كان " جبرا " احد المعجبين والمتابعين والمروجيّن لانجازاتها على مدى اكثر من اربعة عقود ، وهي الفترة التى وصل بها الى العراق لاول مرة عام 1948 ، قادما من بلده فلسطين ، ولحين وفاته عام 1994 . واعد شخصيا روايته " صيادون في شارع ضيق ") التى ظهرت ترجمتها الى العربية سنة 1974 ) بمثابة ايماءة اعجاب الى بيئة بغداد المبنية ومناخها " المتروبوليتاني " من خلال الحضور المميّز لشارعها المهم في الرواية : شارع الرشيد – الجادة الاكثر شهرة وفخامة في فضاء العاصمة العراقية . كما اذكر زيارتي له بالتسعينات في دارته بالمنصور في شارع الاميرات ، الشارع الذي خلده بكتابه "شارع الاميرات " الصادر عام ( 1994) ، للاستفسار منه عن نشاط المصور الفوتوغرافي " جاك برسفيل Jack Persival " ، الذي عمل معه في مجلة " اهل النفط " في الخمسينات ، والذي سجل بعدسته الرائعة منجز العمارة العراقية الحديثة بشكل خاص ، والبيئة المبنية والاجتماعية العراقية بشكل عام ؛ وقدمّ لي ، في حينها ، جميع المعلومات التى اكتنفت حياة ونشاط هذا الفنان الانكليزي ، الذي يعود له الفضل في تأسيس فن " الفوتوغراف " العراقي الحديث .

... امتلك في ارشيفي الخاص مجموعة صور لاربع لوحات مرسومة من قبل " جبرا ابراهيم جبرا " ، تعود الى فترة الخمسينات وتحديدا الى 1951- 1957 . لا اعرف بالتحديد مصير هذه اللوحات ، واين الان مستقرها ؛ وازعم بان الكثيرين من محبي نتاج " جبرا " لا يعرفوا عنها الكثير ، كما انها لم تظهر في غالبية المطبوعات التى تناولت ارث " جبرا " الفني . اقدم هذه اللوحات الى القارئ ، داعيا النقاد المختصين لابداء الرأي فيها ، محاولا هنا ، ابداء تعليقات شخصية وسريعة عنها .
تنتمي جميع اللوحات الاربع الى خصوصية " المناخ " الطليعي والتجديدي الذي كان سائدا في الخطاب الفني العراقي بالخمسينات ، المناخ المتـّطلع نحو المقاربات الفنية الحداثية ، والتائق الى مجاراتها وتبني اساليبها الفنية بذائقة محلية متشكلة من اجتهادات ذاتية لتفسير تلك المقاربات ومحاولات محض شخصية لفهمها .
ولئن كان اكثر الفنانين العراقين المجايلين له في تلك الفترة ، سعوا وراء ترسيخ " ثيمات " الحياة اليومية ، لابطال " قرويين (!!) يمارسون فعالياتهم في المشهد المديني ، كلوحة فائق حسن " في المطعم " و " الشجرة " لجواد سليم ، و " الرحيل " لاسماعيل الشيخلي ، ومنحوتة " الشرقاوية في ليلة الدخلة " لخالد الرحال ، و " الملايـّات " لمحمود صبري و " سوق في كربلاء " لحميد العطار و " جاء الرزق " لارداش كاكافيان ، و " سوق الدهانة " لحميد العطار ، و" ام اللبن " للورنا سليم ، و" البناؤون " لكاظم حيدر ،و " الفارس وحصانه " لزيد محمد صالح ، و " الكوفة " لطارق مظلوم ، و " سوق الميدان " لرسول علوان وغيرهم من الفنانين الذين اشتغلوا كثيرا على تكريس موضوعة " النقيضة " المتمثلة بحضور القروي في المشهد الحضري ؛ فان " جبرا " الرسام الذي لم يك بعد " هاضما " بشكل جيد مغزى ذلك الصراع الاجتماعي الذي طبع المجتمع العراقي بطابع خاص ومميز ّ ، انتقى " ثيمة " مخالفة تماما لموضوعة اقرانه ، وهي " ثيمة " - كناية ، كما ارى ، في تشبث الرسام في " اميج " الانتماءات الحميمية ؛ التى احسّ ، برهافة الفنان ، بانها معرضة للتلاشي سريعا من الذاكرة ، اثر النكـبة التى حلت ببلده مؤخرا وقتذاك ! .
في لوحات " العائلة - 1955 " ، و " امرأة وطفلها – 1957 " و " النافذة " ( 1951 ) ، يحرص " جبرا " الى جعل موضوعة لوحاته بمثابة مادة قابلة لاستيلاد افكار واستدعاء ذكريات متنوعة ، يمارسها المتلقي الناظر الى شخوص اللوحة والناظرة هي اليه . ومما يسهم في تعزيز هذا الشعور اختيار الفنان للاسلوب التعبيري < بمدرسته الالمانية > ، الاسلوب المثقل بفيض الاحاسيس والمترع بالترميز ! . في لوحة " النافذة " ثمة وجه بورتريتي لامرأة نصفها الايمن يدلل على مرحلة شبابها والنصف الاخر وهي في خريف العمر ، انها تتمعن بالمشاهد بعين مفتوحة وكبيرة في نصفها الايمن ، وبعين متعبة وصغيرة في نصفها الايسر، لكن نظراتها ما فتأت تحمل سمات جمال غابر يؤكد حقيقته النصف الاخر من اللوحة . ثمة نافذة مفتوحة بدون اطارات ( او بالاحرى حفرة معمولة بالجدار ) تطل على فضاء مغلق ، يغمر شعاعها النصف المسن من الوجه الانثوي المحاط بحيّز نصفه معتم والاخر مضئ ، يتحدد فضاءه بقسوة من خلال خطوط المنظور الحادة التى تتلاشى نهاياتها في عتمة خلفية اللوحة .
لا يبدو " جبرا " الرسام ، قادرا على النأي بعيدا عن تأثيرات مجايليه حتى النهاية ؛ ففي لوحة " الصفـّار – 1955 " ، نشعر بنزوع الفنان نحو السعي الى تناغم " ثيموي " مع موضوعة فناني البيئة البغدادية اليومية ، الموضوعة العزيزة على قلب الفنان العراقي الخمسيني. اذ تمثل اللوحة دكانا لبيع ادوات منزلية مصنوعة من النحاس / الصفر . تمور اللوحة بكثافة عارمة من اقواس لخطوط منحنية ، ترسم تقاطعاتها اشكال تلك الادوات المنزلية البسيطة من اوان ٍ وقدور و " تنك " لحفظ المياه ، مرصوفة على شكل خطوط شاقولية متوازية تقسم سطح اللوحة الى تقسيمات عمودية متوازية في جزءها الوسطي ، وتنتهي ، كما بدأت بخطوط افقية في اعلاها وفي اسفلها . وتلوح هيئة الشخص البائع الجالس بين تلك الاواني ، وكأنها جزءا من خضم الاشكال المنحية الحافلة بها اللوحة ؛ انها تعبير عن ما يريد الرسام ايصاله لنا عن تماهٍ شديد وتآلف حميمي بين " الصانع " و " المصنوع " ! .
قد تمنح اللوحات المشار اليها في هذا المقال مع بقية نظيراتها التى انجزها " جبرا ابراهيم جبرا " ، صورة واضحة عن ثراء وغنى المنجز الثقافي " للكاتب الشمولي الموسوعي " . وليس المهم ، في اعتقادي ، هنا البحث عن مهارة تكوين اللوحات المرسومة وحذاقة الخطوط فيها ، بقدر ما تفصح تلك اللوحات الفنية مقدار عمق واتساع شخصية المثقف " الرسولي " واهتماماته الجمالية ، وتبين في الوقت ذاته ، فداحة الخسارة التى فقدتها الثقافة العربية .. بوفاته . □□








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-