الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائما ما نعود !

طلال ابو شاويش

2016 / 9 / 3
الادب والفن


دائماً ما نعود !

أخيراً ... انتهت إجراءات السفر ... فلسطينيون وأشقاء عرب ومتضامنون بريطانيون تمكنوا من جمع المبلغ اللازم لتغطية نفقات العودة ... إحداهن أجلت دراستها وتبرعت بالمبلغ الذي ادخرته كرسوم جامعية ... اصطفوا في إحدى صالات المطار ... بدوا وكأنهم في صلاة جماعية ... بعد أقل من ساعتين ستقله الطائرة لتبدأ رحلة العودة ... المسافرون الآخرون يمرون بهم ... يختلسون النظر إليهم ، فيدفعهم بكاؤهم الجماعي إلى البكاء أيضاً دون معرفة السبب ...
تحركت الطائرة ... رفع الجميع يده الثقيلة مودعا ... سقطت إحدى السيدات مغشياً عليها ... كان قد أقام في منزلها عدة أشهر ... أسرّت لإحدى صديقتها أنها لم تكن تشعر به في المنزل ... لا تعرف متى يصحو أو متى ينام ... متى يدخل المنزل أو متى يغادر ... متى يأكل ... متى يستخدم الحمام ... لم نشعر بأن أحداً يشاركنا منزلنا أبداً !
المرة الأخيرة التي رأيناه فيها ... أبلغني بأنه تلقى استدعاءً من وزارة الداخلية ... وبأن لديه مقابلة مهمة ... ولم نعرف بعد هل تمت المقابلة أم لا ... احترمنا صمته ولم نسأله عن شيء ...
أقلعت الطائرة ... تمدد بين حقائب المسافرين ... كم مرة فكر سابقاً في هذه الحقائب ... تحمل داخلها أحزان وأشواق وآلام وأحلام أصحابها دائماً...
حقيبته إلى جانبه ... ألصقوا عليها ورقة صغيرة أحصوا فيها جميع محتوياتها ... ملابسه القليلة التي لم يسعفه الوقت لغسيلها ... أكثر من عشرة كتب ... سبعة روايات مختلفة وثلاث كتب عن اللاهوت والكهنوت ... ثلاث كراريس سوّدها جميعاً ... الأول نزف فيه بعض الأشعار والقصص القصيرة وبعض الأفكار واليوميات والعناوين التي كان يسجلها سريعاً على أمل أن يكتب فيها لاحقاً ... أما الكراسين الآخرين فقد سود أوراقهما بروايته التي قضى معظم الأشهر الأخيرة في كتابتها ... تحتاج فقط لبعض المراجعات ليتمكن من طباعتها لاحقاً ... كان واثقاً بأنها ستحدث صخباً كبيراً في الأوساط الثقافية ... دمر فيها حدوده الوطنية وناقش علة النرجسية الفلسطينية وتحدث عن شخصيات وأحداث وآلام وآمال أناس من شتى بقاع الأرض ...
هدايا بسيطة بعثرت كيفما اتفق بين محتويات الحقيبة ... ملابس خفيفة وألعاب وتحف رخيصة الثمن كان يشتريها من المجلات الخيرية المنتشرة هنا ... كان للابنة الوحيدة النصيب الأكبر بين هذه الهدايا ...
هبطت الطائرة في مطار القاهرة بعد أقل من خمس ساعات ... حضر بعض الأقارب والأصدقاء لاستقباله ... ومرة أخرى تاهوا وسط دوامة كبيرة من الإجراءات المعقدة ... وكان لابد أن يمضي ثلاثة ليالٍ في غرفة باردة ذات رائحة نفاذة حتى تكتمل إجراءات وزارتي الصحة والداخلية وليحصل على تصريح المرور !
توجهت العربة مباشرة نحو معبر رفح ... المنفذ الوحيد الذي يزود رئتي قطاع غزة بالأوكسجين موسمياً ...
احتاج الطريق أكثر من عشرة ساعات من مطار ا لقاهرة الدولي إلى معبر رفح ... التوتر في سيناء على أشده ... فبين السياسة والدين واختلاط الأحلام وانفجار الإقليم بأكمله قبعت حياة الناس في قبضة الخوف والموت القاسيين ...
مر بعشرات الحواجز الأمنية ... ورغم قصر المسافات بينها ... فقد كانوا يوقفون العربة عند كل حاجز ... يدققون الأوراق ويتفرسون في صورة جواز السفر وفي وجهه ثم يشيرون للسائق لمواصلة السفر ...
عبرت العربة البوابة المصرية ... ومن جديد تم فحص الأوراق التقارير كما تم تفتيش الحقيبة ، والتدقيق في جواز السفر وفي وجهه ... ختموا جواز السفر مرة أخرى وسمحوا للعربة بالمرور ... قطعت المسافة القصيرة بين الصالة المصرية والصالة الفلسطينية في أقل من دقيقتين ...
هناك ... كان الحزن كثيفاً ... متخثراً ... تكاد تمسكه بقبضة اليد ... مدير المعبر ... موظفوه ... ضباط أمن ورجال شرطة ... إلى جانب عدد كبير من الأهل والأصدقاء الذين سمح لهم بدخول المعبر ...
هبط من العربة بهدوء شديد ... تقدم عدد من رجال الشرطة وسط حالة من البكاء ... حملوا التابوت البني الداكن بقداسة وخشوع كبيرين ... ساروا ببطء وبخطوات منتظمة وسط الحشد الصامت نحو البوابة الأخرى ...
زين مدير المعبر جواز سفره بختم الدخول إلى الوطن ... وسار الجميع خلف الموكب في ابتهالٍ صامت !!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال