الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من لندن إلى باريس لقضاء العيد وقصة الجاسوسة القديمة على الحدود

سندس القيسي

2016 / 9 / 13
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


من لندن إلى باريس لقضاء العيد وقصة الجاسوسة القديمة على الحدود

أنا في طريقي إلى باريس لقضاء العيد هناك، لقد كادت مشاويري من لندن إلى باريس، ومن باريس إلى لندن تصبح مثل رحلات عمان-الزرقاء. وهي بلا شك تذكرني برحلات العائلة القديمة من عمان إلى حلب مباشرة، في سحبة وحده دون التوقف في الشام. فأمي وبعدها نحن أصبحنا تواقين لحلب وأهالي حلب. وهذه الرحلة بين لندن وباريس حسبما يتصورها ذهني تشبه رحلة عمان- حلب، من حيث المبدأ والمسافة. فعندما نكون متضايقين، مخنوقين وزهقانين، كنّا نقول هيا إلى حلب ونعد العدة للسفر. وها هي عشر ساعات، بعدها نجد أنفسنا في حلب. في البداية، كنّا ننزل في بيت جدو ونانا أو بيت خالي الموظف، أستاذ اللغة العربية، الذي يسكن في رووف ولا أجمل من هيك في سيف الدولة. ثم عندما توفي جدي وجدتي، وخالي الأستاذ، صرنا ننزل ببيت خالي الكبير. وأحيانًا، كنّا نزور الرقة وغيرها من المدن السورية نحن وجمع من الأقرباء، إذ أن الحلبيين يحبون اللمة، وكل سهرة قد تضم فوق المائة شخص. وعلى الأغلب، هناك سهرة كل ليلة حتى أولى ساعات الصباح وهكذا دواليك. في صغري، لم أكن أقدر كل هذا، لكن شيئًا فشيئًا دخلت في الجو.

وحاليًّا، لجأ جمع لا بأس به من أقاربي السوريين إلى أوروبا، وها هم يعيشون قاب قوسين أوأدنى مني، مما يتيح لي زيارتهم بشكلٍ دوري، فلعل وعسى نستعيد أيام وليالي حلب هنا في أوروبا. لكن للأسف، لا تخلو شوارع أوروبا القاسية من متسولين ومتسولات سوريين يختطفون الطعام من الأيادي التي تتبرع لهم به. هؤلاء، لا أعرف حكايتهم بعد ولا أدري ما الذي رمى بهم إلى هذا المصير البشع، رغم وفرة الملاجئ وكوبونات الطعام التي تمنحها الدول الأوروبية.
والذي فهمته، أن هؤلاء المتسولين يحاولون جمع شيئًا من المال لكي يجدوا أماكن تأويهم ليلة بليلة هم وأطفالهم.

وبالتأكيد، فإن لندن وباريس، أنماطهما مختلفة تمامًا، لكن الرحلة بالباص مدة تسع-عشر ساعات تشبه الرحلة من عمان إلى حلب. الهرب من لندن إلى باريس يعطيني دفعة جديدة كل مرة. فكرة أن تذهب إلى مكان آخر غير المكان الذي تعيش فيه، كل فترة للقاء أصدقاء أو أقرباء، تجعلك تشعر بأنك لست وحيدًا في أوروبا. عدا عن أنك تفهم أوروبا أكثر لأنك تصبح ترى كلا الثقافتين بشكلٍ جديد. وبالطبع، الحركة بركة. وصحيح نحن في أوروبا، إلا أن كل مجتمع أوروبي له ثقافته وخصوصيته ومفرداته وإشكالاته. الثقافة الأوروبية العامة بخطوطها العريضة واضحة من خلال آليات التفكير الأوروبي. كيف يتجاوب الأوروبيون مع حدث بشكل مشابه؟ كيف تكون ردة فعلهم؟ هناك حالات يمكن التعميم فيها. ومثال على ذلك، الشاب الإسكتلندي الذي كان معنا في الباص والذي أخرج قيثاره عندما تأخرنا ساعة على الحدود بين لندن وباريس منتظرين القطار، الذي يشق طريقه تحت مياه القناة الإنجليزية، ليأخذنا إلى كالييه الفرنسية.

إن فكرة قضاء نصف ساعة في نفق تحت الماء مخيفة بالنسبة لي. وكثيرًا ما أفضل قطع القناة بالعبارة، فهي ولا أجمل حيث تقضي حوالي الساعتين في العبارة الضخمة، التي قد تبلغ عشرة أدوار وربما أكثر. تارةً تستمتع بالماء والهواء على سطح العبارة، وتارةً أخرى تتجول في الأسواق والمطاعم والمقاهي في داخل العبارة الجميلة. وفي الغالب، أفضل السفر بالباص لأَنِّي أحجز آخر لحظة، ومؤخرًا أصبحت أحجز مع شركة فرنسية لا تسافر عبر العبارة، بل في قطار تحت الماء. أما الشركة الإنجليزية التي كنت من أوفى زبائنها، فتسافر عبر العبارة معظم الوقت. والقطار السريع، القريب من بيتي، يستغرق ساعتين وربع تقريبًا من وسط لندن إلى قلب باريس، وهو رائع أيضًا لكن أسعاره غالية أحيانًا إلا إذا حجزت قبل وقت، شهر أو شهرين مثلاً. ولذلك أجد نفسي أحجز فيه ولا أستخدم التذاكر لأَن السفر عندي لا يتأكد إلا آخر لحظة. السفر بالباص هو الخيار الأفضل لي. وهناك موقع بلابلا Blabla الذي يعلن فيه أي سائق مسافر عن رحلته بين ألف وياء، وقد يكون أغلى قليلاً من الباص، لكن الرحلة تكون أقصر. وقد استعملت وسيلة النقل هذه المشهورة في أوروبا مرة واحدة فقط وكان لا بأس بها، لكنها لا تستهويني كفكرة كثيرًا، لأَنِّي لست متأكدة ممن سيرافقني في هذه الرحلة، وفيما إذا كانت ستصادفني فيها مفاجأت، عدا عن أن مواقع التجمع تكون بحسب مقر إقامة السائق والتي قد تكون بعيدة.

وعودة إلى السلوك الأوروبي وعازف الجيتار الإسكتلندي، الذي ما كان منه إلا أن جلس أمام الباص آخذًا في العزف والغناء وسط تجمعات المسافرين، الذين التفوا حوله. طبعًا أنا لم ألحظ أو أسمع أي شيء لأَنِّي كنت في الباص أكتب هذه المقالة. وحين انتبهت، انطلقت إلى الخارج لأسمع الموسيقى أدندن وأتحرك معها في رقصٍ خفيف، دون وعيٍ مني. ثم انطلقت إلى الرقص الحماسي، إمرأة لتسرق الأضواء، و قد تكون غجرية حسبما أعتقد، فمن كثرة مروري على هذه الحدود، تعلمت أن هذه الباصات تجوب أوروبا بشرقها وغربها. وقد قابلت أشخاصًا قضوا أيامًا في رحلة الباص. وشاهدت الشرطة وهي تنزل أشخاصًا من الباص وتمنعهم الإستمرار في رحلتهم إلى لندن. كما شهدت أيضًا على توترات الحدود حينما يكون حرس الحدود على أهبة الإستعداد. وأحيانًا السفر في الليل يكون أصعب من السفر في وضح النهار، لأنه عكس ما نعتقد بأن ليس الكثيرين يرغبون سفر الليل وقد لا يكون التفتيش حثيثًا، إلا أن العكس صحيح. فأحيانًا تكون باصات الليل ممتلئة والتحريات البوليسية جارية على قدمٍ وساق. وقد توقف الشرطة أي شخص لأقل اشتباهٍ فيه. وعلى ما أعتقد، هناك "جواسيس" (يعملون مع الدول الأوروبية) يطلعون معنا أحيانًا من أجل ضبط الأمن والتهريب والتسلل للمهاجرين غير الشرعيين.

فقبل عدة سنوات كثيرة، جلست إلى جانبي إمرأة إنجليزية كبيرة في السن، كنّا ننتظر السائق وبقية الركاب للإنطلاق. لكن حديثًا صغيرًا جرى بيني وبينها، وبسبب طول لساني، فقد أوقعت نفسي والركاب والسائق في ورطة. المرأة كانت تتجاذب أطراف الحديث حول الهجرة غير الشرعية، ربما لتجر لساني، فما وجدت نفسي إلا وأنا أقول لها بأني سمعت أن التهريب بين فرنسا وبريطانيا سهل للغاية، ولهذا فهو يحصل بكثرة. ثم أعادت هي نفس الجملة التي قلتها أنا. وما وجدنا أنفسنا إلا والشرطة البريطانية تدعونا لإخلاء الباص فورًا ووقفنا في طابور كالمساجين، ونحن مرتبكون مرتعدون. وأخذ أعضاء الشرطة يتمحصون هوياتنا وجوازاتنا للمرة الثانية وبدقة متناهية وإحكامٍ شديد. وفي الحقيقة، الكل كان خائفًا إلا هذه العجوز التي كانت جالسة بجانبي، فهي لم تقف معنا في الطابور، بل انضمت إلى الشرطة. وقد أمضينا الليل في التفتيش الممل الطويل، التفصيلي والدقيق. ولم نسلم من التحقيقات العميقة ولم نعد نعرف إن كنّا سندخل الجنة الموعودة بريطانيا، بعد كل هذا!

وكما ترون، فأنا لم أبالغ حين قلت أن خط لندن-باريس البري/ البحري يشبه خط عمان حلب. فمشاكل السفر بالبر قد تكون أكثر من السفر بالطائرة أو القطار لأن التهريب أصعب بكثير من التهريب البري. وكون المستهدفون عربًا ومسلمين يعني أننا أكثر عرضة للتفتيش والتمحيص الدقيقين. فنحن نشكل غالبية المهاجرين غير الشرعيين، بسبب المشاكل في بلادنا، التي نتسبب نحن فيها لأنفسنا تمامًا كما قد تكون الدول الأوروبية طرفًا فيها. ولهذا "البهدلة" على الحدود هي نفسها للعربي والمسلم سواءً كان ذلك في بلد قمعي عربي أو دولة أوروبية ديمقراطية. فهل هذا لأن مشاكلنا كعرب كثيرة أم لأننا كأفراد نحب أن نتجاوز ونتشاطر على القانون؟ على كل الأحوال، الرحلة من لندن إلى باريس والعكس هي تجربة بلا شك تستحق الخوض لأنها تفتح الآفاق وتجعلنا نرى حقائق جديدة، جميلة وبشعة في آن. ولا ننسى بالطبع جمال الطبيعة والأشجار المرصوصة على جانبي الطريق، والتي تجعل الرحلة تمر سريعًا جدًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي