الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة البطريق ـ الرؤية المشوهة

حمزة الحسن

2003 / 2 / 6
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



                خاص: الحوار المتمدن

   ( اللهم مهما عذبتني،
         فلا تعذبني بذل الحجاب)
                            البسطامي"
 والحجاب هو كل ما يمنع الرؤية ويقف حاجزا أو جدارا بين الإنسان وبين العالم. ولكن هل حقا يمكن أن يمارس الحجاب أو الرؤية أو النظرة المسبقة هذا الذل البشري الذي تمنى المتصوف الكبير البسطامي من ربه ألا يعذبه به؟

يرى الإنسان العالم من خلال بنية فكرية أو إطار معرفي أو اسطوري أو عبر ميثولوجيا أو من خلال أيديولوجيا أو قيم تقليدية أو شبكة معايير.

 وهذه البنية لا تخضع في الغالب لمبدأ الصواب والخطأ، بل تخضع لمبدأ العادة والتكرار ومنطق التقليد الذي يجعل من العادات وأنماط التفكير والعقائد بصرف النظر عن طبيعتها في مرتبة القيم المقدسة.

 إن البشر الذين يقدسون الفأر والبقر والنمر في جنوب شرق آسيا هم  يفعلون ذلك من مبدأ العادة والتكرار والتلقين. ليس الفأر مقدسا، بل المقدس هو النمط، والصورة المكرورة، والعادة، والخيال، والتقليد.

 في الدول البوليسية تتشوه البنية العقلية والنفسية والفكرية ولا تعود هذه الرؤية ترى شيئا. وأول تشوه يطرأ هو تشوه اللغة وانشطارها.  وهذا التشوه سيقلب كيان الإنسان ويمسخ آدميته.

وفي هذه الدول يضطر الكائن البشري أو ما تبقى منه  إلى حفر أنفاق داخلية وباطنية وسرية داخله لكي يحمي نفسه من الخطر والتهديد.وفي اللحظة التي يكون فيها الإنسان قد بدأ بحفر هذه الأنفاق السرية في أعماقه، يكون قد حدث تحول جوهري في الشخصية.

أول التحول: هو أن هذا الإنسان لم يعد واحدا، بل صار متعددا، أي انه ممكن أن يقوم بالدور ونقيضه في آن واحد وتبعا لقوى شرسة وضارية تهدد كيانه بالفناء.

 ثاني التحول: أن هذا الفرد لم يعد موجودا في مجتمع بالمعنى الوجودي، أي ككيان فاعل ومؤثر ومسؤول، بل نحن أمام مخلوق يعيش داخل أنقاضه وأنفاقه السرية، ويتعامل مع مجتمع خارجي بلغة رسمية ومقبولة وسائدة هي لغة القانون القائم.

وهذا الكائن مضطر من أجل التواصل أن يتكلم بكل لغات المجتمع السائدة، والمقصود باللغات هو تعدد خطابات الأفراد ورغباتهم وأفكارهم. أي انه يكون هو نفسه حين يكون معهم جسدا، لكنه غائب عنهم عقلا وفكرا وروحا لأنه يعيش في عالم نفقي سري ومأوى عميق وحفرة حفرها لكي يتخلص من كل ما يهدده في حال قرر أن يكون نفسه.

 وهذا أول الطريق إلى تشظي الشخصية أو ما يعرف بتصدع الشخصية وانهيارها الداخلي رغم بقاء بعض المظاهر الخارجية سليمة في الظاهر.

 وإذا عرفنا أن كل فرد في المجتمع قد حفر نفقا سريا وأقام فيه وبنى عالمه الباطني على طريقته الخاصة، وعاش في مخبأ سري يتجول فيه ويعمل فيه ويحارب فيه ويهتف فيه ويموت فيه أو يهرب، نكون قد عرفنا حجم الصورة المرعبة الداخلية التي يكون عليها مثل هذا المجتمع.   

 لم تعد اللغة لغة تفاهم، بل صارت وسيلة نفي، وهذا  هو المنفى الأول: منفى اللغة حتى في المكان الأصلي.

 صارت اللغة تراوغ وتحجب وتنافق وتهرب ولا تقول حين تقول شيئا.  على هذه الصورة يتم خلق " ألذات الثانية" وربما العاشرة، أو تعدد الشخصية، وليس وحدتها، وهذا التعدد ليس هو الغني بل هو التبعثر.

 ليس غريبا في مجتمع أو على إنسان من هذا النوع أن يكون داعيا ثوريا في لحظة، ويكون داعية شذوذ في لحظة أخرى. وليس غريبا أن يصلي في النهار ويسكر في الليل، أو يقيّم الآخرين بمعايير مثالية صارمة ويعفي نفسه من كل رقابة اجتماعية أو أخلاقية بل يدعو للتنكر "للمحرمات" التي قال احدهم بكل صفاقة وخسة  أن هذه المحرمات قد كلفتنا الكثير، وأننا بين الحلال والحرام ضيعنا الكثير وعلى الأجيال القادمة أن لا تقع في هذا الخطأ..!

خطأ الحلال والحرام!

 ومن معايشة خاصة أعرف أن ذكر الجاموس لا يضاجع أمه أبدا إلا إذا تم وضع عصابة على عينيه وطليت أمه بالطين لكي لا يشم رائحتها، وإذا عرف بعد ذلك نتيجة خطأ ما فإنه يصاب بهياج يصل مستوى  قتل وتحطيم كل ما يقع في طريقه.

فالحدود الطبيعية هي ليست حدودا اصطناعية أو مركبة، بل هي جزء عضوي من بنية الحياة .
 والحداثة ليست في ممارسة الزنا، بل تنظيم العائلة. لكن  من طبيعة المخلوق المشوه محاولة تعميم ثقافة العاهات وجعل قيمه الفردية المنحلة قيما عامة.


هذه المسوخية ـ وهذا هو الأخطر ـ تتقنع بقناع التقوى والإصلاح والمثل العليا، في حين أن حقيقة الوضع أنها دعوة تعكس تصدع جوهري في البنية الأساسية للكائن و تشوهه. 

لا يمكن للإنسان رؤية العالم وبنيته أو إطاره المعرفي أو بنيته العقلية أو النفسية وهو على هذه الدرجة من التشوه. والقول المعروف أن الفاشية تشوه حياة الإنسان ليس قولا فلسفيا فحسب، بل هو حقيقة علمية معاشة.

 التشوه حقيقة واقعة لكن المشكلة أنها لا ترى خاصة في تقاطع بصري، أو في تداخل رؤى يعيش كل واحد منها في نفق أو حفرة سرية أو مخبأ نفسي أو وكر أخلاقي ويترك غلافه الخارجي للتعامل المألوف.

 والخروج من هذه الأنفاق أو الأوكار السرية ليس سهلا بل قد يكون مستحيلا خاصة إذا كان قد مر زمن طويل على ممارسة من هذا النوع.

 يتحول المجتمع إلى كرنفال أقنعة.
ويصير الإنسان المقموع جيفة متجولة من كثرة الرغبات والأحلام والدوافع  والشهوات والغرائز المكبوتة . وتشتد الأزمة حين يطول الأمل. لذلك كان الإمام علي بن أبي طالب يردد( إياكم وطول الأمل).

 الأمل الطويل يعفن الجسد والرغبة ويهشم اللغة ويخلق الكائن الحطام والمهرج صاحب الأدوار الكثيرة المتناقضة في آن واحد.

 لا يشوه الخوف اللغة فحسب، بل المكان أيضا. يتحول المكان الأصلي إلى شبح ومكان للنفي والموت والقتل والسجن والى ثكنة ومشرحة ومركز اعتقال أو تعذيب...الخ...

 وهذا هو المنفى الثاني.

 أما المنفى الثالث فهو منفى الجسد.

 القمع والخوف والتهديد لا ينفي الإنسان عن لغته ومكانه، بل عن جسده  ورغباته وطبيعته وفطرته. لذلك يتعرف هذا المخلوق على جسده ورغباته في مكان جديد، منفى مثلا، كما لو كان يتعرف على جورب أو قميص قديم أو حذاء منسي أو صورة ضائعة .

 من منفى اللغة  إلى منفى المكان إلى منفى الجسد.

 وعلي  هذا الإنسان أن يتصالح مع لغته ومع مكانه ومع جسده لكي يعيش لحظة سرور واحدة.
وعليه  أيضا أن يتصالح مع ثلاثة أزمنة عامة وجماعية وفردية لكي يعيش لحظة هناءة واحدة!.
 
أي أن عليه أن يغير الحاضر، ويفسر الماضي، ويخطط للمستقبل، لكي يعيش لحظة صفاء واحدة!

 في حين لا يجد الأوروبي مثلا نفسه أمام هذه المهام الكونية التي تحتاج إلى قرون لأن حاضره واضح وماضيه واضح ومستقبله يتم الانتقال إليه بناء على معايير واضحة وهناك هامش حتى لغير المتوقع والمفاجئ .

 أما نحن فأمامنا مهمة تبديل الحياة كلها والأزمنة كلها لكي نعيش لحظة صفاء واحدة!

 هذا وحده تعذيب لأن السرور والمتعة والسعادة تنبع من الداخل في صفاء وصحو مشرق يشبه وجه طفل ولد توا، دونما حاجة لبذل أي جهد إرادي، لأن السعادة البشرية هادئة وأنيقة وخفية ومشعة.

ـــــــــــــــــــ
الحلقة الرابعة: محنة البطريق ـ الحريق، الحريق.


 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد لهجة خطاب القادة الأوروبيين حيال إسرائيل في قمة بروكسل


.. شاهد كيف ستختلف المناظرة الرئاسية بين بايدن وترامب عن 2020




.. تدريبات إسرائيلية تحاكي حربا على أرض لبنان.. وأميركا تحذر مو


.. رغم تهديد بايدن.. شحنات سلاح أميركية في الطريق لإسرائيل




.. في ظل شبح ترامب.. صناديق الاقتراع في إيران تستعد لتقول كلمته