الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القمع الوحشي - 2

جاسم الحلوائي

2005 / 12 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ذكريات
ربطت بي بضعة خطوط تنظيمية وبعض الكوادر شبه المكشوفة عزلت من تنظيمات بغداد كنت أتابعها خارج المقر. وإرتبط بي محسن عليوي ( أبو عليوي) عضو لجنة المنطقة الوسطى وكانت ترتبط به جمهرة من الكوادر والرفاق من البصرة والناصرية وديالى . وإرتبط بي كذلك الرفيق إدريس عبد الله ، العضو المرشح للجنة المنطقة الجنوبية ، وكان معه جمهرة من الكوادر والأعضاء وكان الجميع يدبرون أمر سكناهم بأنفسهم.

كانت عناوين الخارج محصورة عندي عندما كنا في المقر العام وكنت أزود المهاجرين برسالة لتلك العناوين ومن خلال ذلك تعرفت على إمكانية تهريب بعض المناضلين الي الكويت . وكنت أستخدمه للضرورات.

في تشرين الثاني 1978 ، أي في ذروة الحملة الوحشية كان لدى الرفيق مهدي الحافظ موعدا مع نعيم حداد. التقيته، قادما من اللقاء، في حديقة المقر. وقد أخبرني بأنه كان بصدد تقديم مناشدة لقيادة البعث لإيقاف الحملة ، الا إن نعيم أخبره أن لا فائدة من ذلك فكل شيء منتهي ومقرر . أي لا تراجع عن تصفية الحزب. منذ ذلك التاريخ إستحكمت هذه الحقيقة في تصرفاتي . فكنت مع خروج من يريد السفر خارج البلاد أو من هو غير ملائم لسبب من الأسباب للعمل السري ، ومع بقاء الرفاق المتحمسين للبقاء والملائمين للعمل السري بهدف تأسيس منظمات وبيوت سرية . وكانت هناك شكوى من الهجرة الجماعية ومحاولة إيقافها أو الحد منها ولكن دون جدوى ، لعدم توفر ما يسند تلك المحاولات. ولم يكن هناك خلاف على إخراج أكبر عدد من الصحفيين والأدباء والفنانين والكوادر العلمية، خاصة وإنهم لا يحتاجون الى مساعدة في سفرهم ، وبإمكان العديد منهم تدبير أموره المعاشية في الخارج.

في تلك الفترة الزمنية نهاية 1978، كانت إحدى الخطوط التى تتصل بي يقودها الرفيق الدكتور أبو نوال خبير بيئي وموظف في الدولة ومعه مجموعة بينهم كوادر علمية وفنانين على إتصال فردي معه . عرفت إن بإمكانه السفر موفدا بمهمة خارج البلاد . طلبت منه أن يسافر ولا يعود إن أمكنه ذلك ، سألني:

ـ وجماعتي إشلون، بيمن يرتبطون ؟

ـ إتركهم وأطلب منهم ما يتصلون بأحد . إندهش الرفيق من كلامي وإستفسر:

ـ زين وإذا تأخرت شنو مصيرهم؟

ـ شوف رفيق أبو نوال إذا توقفت الحملة ترجع وتتصل بيهم ، وإذا ما توقفت لابد وانهم سيتعرضون للإعتقال. فالأفضل أن نجنبهم هذا المصير، وبإمكانهم أن يتابعوا بهذا الشكل أو ذاك أخبار الحزب. وإذا أعيد بناء التنظيمات فسيجدون طريقهم اليها. لم يقتنع الرفيق تماما ولكنه نفذ التوجيه. التقيته بعد حوالي تسع سنوات في صوفيا، أخبرني بأنه على صلة بجماعته ويتراسل معهم. وثمن عاليا الإجراء الذي إتفقنا عليه والذي كان خرقا لتقاليد العمل الحزبى في كل الظروف والأحوال، الا في تلك الظروف الشاذة بالذات! وقد سلمهم في بداية التسعينيات الى قيادة الحزب..

في تلك الفنرة أعتقل المحامي حسيب الساقي (أبو حمدان)، الذي كان يتابع الأمورالتي تتطلب مراجعة الدوائر الرسمية والسفارات ... وأجبره المجرمون على إعطاء تعهد. ذات ليلة ، كنت جالسا مع عائلتي، كالعادة، في صالون البيت، سمعت نقرات خفيفة على زجاج النافذة ، فإستدرت ، وإذا بي أشاهد الرفيق أبو حمدان. إستقبلته ﺒ (فداك من راعك ) وإختليت به في غرفة الضيوف. إعتذرالرفيق لعدم تحمله التعذيب وأكد بأن التعذيب لا يمكن أن يغير أفكاره ومعتقداته الفلسفية والسياسية ، وكانت عيون الرجل مغرورقة بالدموع . كان أبو حمدان متوسط القامة ضئيل الحجم ، عمره يناهز الخمسين عاما. كان ينجز أعماله المتنوعة بدقة وهدوء وبدون أي تبجح . دمث الأخلاق ، نزيه ، الجميع يحترمونه . تأثرت بموقفه . كان بودي أن أقول له إننا لا زلنا نعتبرك عضوا في الحزب ولكن لم يكن من الصحيح قول ذلك ، لأننا كنا نعتبر من يعطي تعهدا مستقيلا من الحزب . فقلت له: " أبو حمدان نحن نعتبرك على ملاكنا ، وبأمكانك أن تتصرف من هذا المنطلق ، ولكن بشكل ملائم وبدون أن تعرض نفسك الى أية مضايقة . وأرجو أن لاتتصل بأحد . وشاع تطبيق عبارة "نعتبرك على ملاكنا" آنئذ على الحالات المماثلة.

سبق وأن جاءنا الفقيد معن جواد ، عضو منطقة الفرات الأوسط وممثلنا في لجنة الجبهة في محافظة بابل، الى المقر العام ، وأخبرني بأن مدير الأمن في المحافظة والذي هو في نفس الوقت ممثل البعث في لجنة الجبهة ، طلب منه التعاون معهم ، كمندس في حزبنا (خط مايل)، وفي هذه الحالة سيحافظ على وضعه الوظيفي ولا يمسه أحد بسوء، أو أن يوقع التعهد سيء الصيت . لقد طلبنا منه ترك المحافظة والإختفاء في بغداد . عاد في كانون الثاني 1979، ليخبرني بأنه القي القبض عليه ، فعصبوا عينيه ووضعوه في شِوال (كونية) وأخذوه الى مكان يجهله. وعندما أزالو العصابة من على عينيه وجد نفسه وجها لوجه أمام "زميله" عضو لجنة الجبهة مدير أمن محافظة بابل نفسه . فوضع الأخير الخيار السابق أمامه وطلب منه الإختيار فورا وسوف لن يعطيه فرصة أخرى للهرب . فطلب الرفيق معن منه مهلة لثلاثة أيام للتفكير بالأمر، ومنح ذلك بشرط أن لايخرج من البيت. ويكون بيته في المحاويل تحت المراقبة . فإستغفلهم وتسلل من البيت في جنح الظلام وجاء وعرض الأمر علي . فسالته:

ـ هل أنت مستعد للسفر غدا؟ إندهش وأجاب:

ـ طبعا ... طبعا .

ـ السفرة بيه مشي هوايه ، بيك حيل؟

ـ ولا يهمك شكد ماجان بس أخلص من هالورطة.

اخبرته بأن السفرة الي الكويت و لدينا هناك محطة تساعده للإنتقال الى بلد آخر. ولا يمكن أن يحمل معه أكثر من كيس نايلون لقليل من الملابس الداخلية و...الخ

ألحقته بوجبة كانت مهيأة للسفر. وقد وصل معن سالما الى الكويت ومنها الى لبنان. لم أعرف بأن عملي ذاك كان بمثابة ضربة موجعة للبعث ، لإخراجي لقمة دسمة من فمهم كانوا بصدد بلعها . حسب تصوراتهم الشريرة ، إلا بعد أن إطلعت في الشام عام 1980 على كتيب صادر من أجهزة البعث الأمنية يشير الى تهريبي معن جواد ، ويتهجم علي تهجما عنيفا ويلفق تهما دنيئة ضدي لاتليق إلا بكاتب الكتاب وحزبه ، حزب البعث الساقط . وعندما لاحظ الرفيق باقر إبراهيم إنزعاجي الشديد من ذلك ، لفت إنتباهي الى إن الهدف من كتابة مثل هذه التلفيقات هو تحديدا لإضعاف معنويات المناضلين، ولم يفتني ذلك ، ولكني تأثرت مؤقتا، لأنني أعرف، كأي مناضل واعي ، بأنهم يستهدفون إضعاف معنوياتي بتلك التهم الدنيئة ، لذلك دست عليها بحذائي وواصلت المسير بمعنويات أعلى.

عندما بقيت وحدي ، كرفيق مركزي في المقر بقي الرفيق أبو زكي معي وكانت إحدى المهمات الملقاة على عاتقنا هي إخراج بقايا إرشيف الحزب من المقر وإرساله الى خارج البلد . وقد تمكن أبو زكي إنجاز هذه المهمة بنجاح رغم الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالمقر . كان عليه أن يخرج المواد من المقر الخاضع للرقابة ويسلمها الى موظف يعمل في السفارة البلغارية . وبعد أن أنهى مهمته توادعنا وسافر ليلتحق بعائلته ويواصل دراسته . لقد كان أبو زكي باسلا كما هي عادته وخاصة في المحن والظروف الصعبة.

فى بداية شباط كنت خارجا من المقر متجها الى البيت بسيارة المقر ، وكان يسوقها الرفيق عقيل الذي لاحظ سيارة أمن تتابعنا . طلبت منه مراوغتها والتخلص من متابعتها، قبل إيصالي الى البيت، و ضيعناها فعلا . ولكن بعد أن ترجلت وإنطلق عقيل وسار مسافة لابأس بها تمكنت سيارة الأمن من العثور عليه ، وضاعت علينا أخباره وأخبار سيارة المقر أيضا! على أثر هذا الحادث قررت الإقامة في المقر لبضعة أيام لإنجاز بعض الأعمال قبل نقل مكان عملي الى مقر صحيفة "طريق الشعب" أبقيت في المقر الرفيق أبوسمرة (إستشهد في كردستان) ومعه رفيق آخر. وطلبت من الرفيق بوتان كريم أحمد ( إستشهد في كردستان أيضا ) للإنتقال معي الى مقر الجريدة.

أبواب المقر في أيامه الأخيرة كانت مغلقة ، وكان الرفيق الوحيد الذي يخرج لشراء بعض الحاجيات هو أبو سمرة الذي أبدى إستعداده للبقاء كآخر رفيق في المقر ، وكان له ذلك . كان محبوبا من قبل الجميع ينجز مهامه بهدوء . لقد كان أبو سمرة رفيقا باسلا بكل معنى الكلمة . بقي على إتصال بي في الجريدة لبضعة أيام لحين إستلام السلطات الأسلحة النارية الخفيفة المعارة لنا لحراسة المقر، وبحضور الرفيق عبد الرزاق الصافي . وأغلق أبو سمرة المقر وسافر مع رفيق له الى كردستان.

بوتان كريم أحمد إلتحق للعمل في المقر في الظروف الصعبة . وبالإرتباط مع خطة سحب العاملين المجربين في جهاز المقر للطباعة الى الإختفاء ، تعلم بوتان الضرب على آلة الطابعة وكذلك إستخدام الرونيو وبسرعة. وصمم على البقاء معنا الى آخر أيام المقر . ولم يكتف بذلك ، بل وأبدى إستعداده للإنتقال معي الى الجريدة لمساعدتي في أمور الطباعة ، وكان له ذلك . كان بوتان شجاعا ، و جديا ، يعمل بدون كلل وبلا ضجيج ، ودقيق في عمله. وقد بقي معي في الجريدة الى أن أوعزت له بالسفر الى كردستان.

لم ينقطع الرفيق الصافي عن المقر فقد كان يزورنا بوتيرة متقاربة . وذات يوم في بداية شباط خرجت معه الى مقر الجريدة وبعد الدوام أوصلتني سيارة الجريدة للبيت.

بعد خروجي من المقر أصبح دوامي في الجريدة . كنت مرجعا للشؤون التنظيمية وعضوا في هيئة تحرير الجريدة أساهم في مناقشة المقالات السياسية الهامة وأطلع على المقالات الإفتتاحية ، وقد شاركت الصافي مكتبه.

كانت لدي توصية حزبية منذ ان كنت في المقر بأن أختفي ، مجرد شعوري بخطورة مباشرة . وذات يوم ذهبنا ، ماجد عبد الرضا والصافي وأنا ، لحضور تعزية . بعد خروجنا تابعتنا سيارة أمن حتى وصولي الى البيت . في اليوم التالي قرأت في نشرة محدودة التوزيع ( توزع على الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة) خبرا يفيد بأن جاسم الحلوائي نشر مقالا في جريدة "الإتحاد" الإسرائيلية حول المسألة الزراعية والحركة الفلاحية . وحقيقة الأمر ، هو إن مجلة الحركة الشيوعية العالمية " قضايا السلم والإشتراكية" قد نشرت لي المقال المذكور ونشرته جريدة " الإتحاد " لسان حال الحزب الشيوعي الإسرائيلي ، دون الإشارة الى المصدر!! إعتبرت نشرالخبر إنذارا فقررت الإختفاء ، تحوطا.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصائل المقاومة تكثف عملياتها في قطاع غزة.. ما الدلالات العسك


.. غارة إسرائيلية تستهدف مدرسة تؤوي نازحين بمخيم النصيرات وسط ق




.. انتهاء تثبيت الرصيف العائم على شاطئ غزة


.. في موقف طريف.. بوتين يتحدث طويلاً وينسى أنّ المترجم الصينيّ




.. قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مخيم جباليا