الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اكتشاف متأخر

قحطان جاسم

2016 / 9 / 28
الادب والفن


قصة قصيرة


فكر الصبي ذو عشر سنين بأمه كثيرا وهو يراقبها عن بعد احيانا ..يراقب صمتها وحزنها المكتوم ودموعها التي كانت تسيل كلما جلست لوحدها، وهي تحاول ان تخفف ضغط الالم الذي كان يحز في نفسها ويثقل روحها . كانت تظن ان بناتها واولادها لا يرون تلك الدموع . احيانا تلجأ الى حليّها ، رفيقها الوحيد ، تخرجها من صندوق صغير، تتمعن فيها فتجد راحة نفسية لا تعرف مصدرها، تمسح الدموع عن عينيها وتقترب من المرآة؛ تأخذ قلادة صغيرة تضعها على رقبتها، تدور دورتين في الغرفة وهي تنظر بصورة مائلة الى المرآة. يتدفق فيها شيء من سعادة خفية ، وينتابها استرخاء مفاجيء تنسى معه العالم كله، وما تتعرض له من صفعات وتبرم من زوجها.
كثيرا ما كان الصبي يتابع أمه في وحدتها وهي تبكي ، وقد شهد مرات عديدة توسلها الى ابيه وهو يوجه اليها الصفعة تلو الصفعة بلا رحمة وسيلا من الشتائم الغاضبة المهينة، بينما كان اخواته واخوته يهربون الى غرفة اخرى في محاولة لتجنب صفعات طارئة منه، تاركين امهم وهي تتوسل وحيدة مهجورة في عالم غير عادل، وتزداد توسلاتها العاجزة حدّة ، و تغدو اكثر مأساوية، كلما هددها ابوهم بانه سيأخذ كل حليّها ليبيعها في السوق، ويتزوج عليها. لم تكن امهم مشغولة بتهديداته حول الزواج من امرأة ثانية، لكن ما كان يرعبها هو ان ينتزع منها آخر ما تعتبره شيئا خاصا بها، وجزءا من هويتها ووجودها وتاريخها. فلتلك الحلى تاريخ وذكريات..وهي الذكريات الوحيدة الحميمة التي بقيت لها، بعضها تذّكرها بيوم زواجها ، بالموسيقى، والافراح التي اقيمت، بهلاهل الام، بثياب ليلة العرس البيض، وبعضها الآخر يذكرها بغمز البنات وتلميحات صديقاتها المواربة في الايام التالية عن ليلة العرس ولذتها .. كانت تلك الذكريات تمنحها بعضا من التعويض عمّا لاقته لاحقا من أذى زوجها وضرباته واهاناته.. كانت كطفلة تهرب الى عالمها الخاص ، الى حليّها، لعبتها الخاصة لكي تجد المواساة والحنين المفقود.. لم تشأ ان تلقي ظلال حزنها وبؤسها على صغارها، فسعت دائما ان تكتم ما يدور في نفسها كملاك قنوع مكتفية بهذا الهروب، معتقدة انها كانت تقوم بطقوسها دون معرفة احد من ابنائها.
الا ان الصبي كان يعرف ذلك، وبقي يراقبها عن بعد، كأنه لا يريد ان يعّمق شرخ خذلانها، في الوقت الذي كان يقاسمها آلامها ويذرف الدموع معها بصمت.
ذات مرة، بعد ان انسحقت روحه تحت مشاعر الذل والاندحار التي شعر بها في تلك اللحظات، صعد الصبي الى سطح البيت ونظر الى السماء وراح ينحب بحرقة متضرعا الى السماء مطلقا صرخته :يا الهي.. لماذا لا تحمي أمي ؟ يا الهي... اتوسل اليك.. متى تفعل ذلك؟ ارجوك؟ لماذا لا تفعل شيئا فيسود السلام بين أبي وأمي ويتصالحان ؟ صاح مرات ومرات والدموع تنهمر من عينيه وحشرجة تتكسر في صدره الصغير: يا الهي ..يا الهي .. لماذا كل هذا ؟
ذات مرة خرق الصبي عادةَ حيادهِ، اقترب من امه و سألها بتردد : لماذا لا تحتجين على ابي ؟ لماذا لا تتركينه؟ حدقت الام به مرعوبة واسرعت بالاجابة وهي تجفف دموعها و تضمه الى صدرها : لا تقل مثل هذا الكلام ياولدي ابدا !
بعد تلك المحادثة باشهر اصيبت الام بمرض عضال عجز الاطباء عن ايجاد علاج له . وتدهورت حالتها بسرعة كبيرة، ولم يكن امامها سوى انتظار الموت . كانت تجد في تلك الايام، وجسدها يذوي مثل زهرة يوما بعد يوم، في صندوق حليّها بعض المواساة ايضا، لكنها كانت تكتفي بالنظر اليه وتقوم بلمسه احيانا ثم تعيده الى مكانه وابتسامة شاحبة حزينة تطوف على وجهها.
في تلك الايام بالذات لاحظ الصغار أن هناك تغييرا طرأ على ابيهم .. فقد صار اكثر صمتا ولم يعد متبرما او غاضبا كما كان. وصار يقوم ،عندما يعود من عمله، بكل الواجبات البيتية من اعداد الطعام وتنظيف وغسل الملابس؛ وصار يغمرهم ببعض الحنان الذي لم يتعودوا عليه منه سابقا، تغييرا لا احد يستطيع تفسيره..!
بعد اشهر وفي صباح صيف مشرق نامت الام الى الابد. كان ثمت خيط دم بارد، الذي سال من زاوية فمها مارا على خدها الايسر، وقد استقر اخيرا على مخدتها كعلامة اعلان اخير عن مغادرتها الحياة. كانت تضطجع على جانبها و كأنها قد غطت في نوم عميق هاديء، بينما كانت احدى اصابع يديها مسترخية قريبا عند صندوق حليّها المغلق .
في احدى الليالي التي اعقبت الوفاة سمع الصبي نحيبا مكتوما في غرفة ابيه.. وقف عند الباب وهو يسترق السمع الى جهة النحيب ..سمع اباه وكأنه يعاتب احدا ما : لماذا يا الهي ؟ لماذا ؟ ما الذي فعلته لكي تعذبني كل هذا العذاب ؟ لماذا توفيتها ياربي ؟ كيف اعيش بعد اليوم؟ اندهش الصبي لما سمعه من كلمات .. كأنه يكتشف اباه لاول مرة .انه أب أخر، فقد بدا له هذا الجسد الضخم الضائع في الظلمة، الذي لم يكن احد يجرأ على مواجهته سابقا، وهو يجلس وحيدا على حافة السرير، باكيا بحرارة و أسى عميقين، منهوكا، متهالكا، صغيرا و عاجزا الآن. اندفع الصبي دون دراية ووعي نحو ابيه ..اخذ بيده التي كانت ترتعش ، وهي المرة الاولى التي يفعلها في كل حياته ، فوجدها دافئةً ودودةً ... في تلك الليلة اكتشف الصبي ان اباه كان يحب، رغم كل شيء، امه ، وربما اكتشف أية رابطة كانت تربطهما، رغم كل العذابات التي شاهدها بأم عينيه، والكراهية التي كانت تبدو ظاهريا بينهما ..اقترب الصبي من ابيه اكثر حتى احس بحرارة جسده .اعتصر بيده الصغيرة يده في محاولة لشد انتباهه، و قال له بعفوية وهو ينظر اليه بعطف محاولا اكتشاف ملامحه في الظلام: بابا، بابا، لا تبكي ..ماما ستعود قريبا ؟

2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي