الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طفولة وقصر

ستار جبار سيبان

2016 / 10 / 1
الادب والفن


كانوا يسمونه القصر ..
على طول الشارع الترابي الممتد مابين مستشفى العام والسوق الكبير انتصبت البيوت ذات النسق بارتفاعها الخجول عن الارض ، لاتكاد تميز بينها لكثرة الشبه في واجهاتها الامامية المبنية من الطابوق ، واجهات البيوت عبارة عن شباك بدرفتين في كل طرف من البيت ، يتوسطهم باب يفضي الى ( هول ) الى اليمين او اليسار ، تعاكسه غرفة استقبال الضيوف ( الخطار ) ، ماعدا بيت واحد يقع في بداية البلوك الثالث يتوسط هذه البيوت المطلة على شارع ( 60 ) , كنا نسميّه ( القصر ) ، كنا نراه شاهاقاً يلامس السماء ، بغرفه العلوية في الطابق الثاني التي لاتقل شبهاً بمثيلاتها في الطابق الأرضي ، من حيث التصميم ، وتبييضه بالاسمنت الملون ، وتزيينه بزخارف ملونة اخترعها والدي بفطرته الفنية ، حين عمل ( لبّاخاً ) فيه قبل ان يكتمل بنائه ، وبعد اكتماله غُطيت نوافذه العلوية والارضية فضلاً عن الابواب التي تتوسطها بمشبكات سيميه مؤطرة بالخشب ، للحد من تسلل الحشرات والبعوض ، اللذان لاتنفع بالقضاء عليهم سيارة ( ام الدخان ) التي تجوب أزقة المدينة وساحاتها ، البعوض الذي كان يتكون ككرة فوق رؤوسنا قبيل ساعات الغروب ، حين كانت الساحات واركان الأزقة الترابية ملاذنا الوحيد لنشوء الصداقات الاولى .
انه قصر بيت ابو خليل الجبوري ، او كما كنا نسمّيهم ( المٓدٓن ) ، لانعرف اول من اطلق هذه التسمية ، وكل الذي نعرف بأنها تطلق على كل من يرتدي ملابس لاتشيه ملابسنا ، ونطق حروف كلامه لايشبه لهجتنا ونطقها ، مختلفين عنا حتى باسمائهم ، ابنهم الكبير خليل ، وبناتهم سهاد ونهاد والصغيرة الشقراء صاحبة العيون الزرقاء والشعر الذهبي كان أسمها ميعاد ، قيل كانوا من سكنة الاعظمية يسكنون بيتا صغيراً هناك ، هذا القصر الكبير هو الوحيد الذي كان يترك بابه مفتوحاً لصغار المنطقة الفقراء الحفاة يتجمعون داخل ( الهول ) الذي ينتصب فيه جهاز تلفاز على طاولة صغيرة ذات قوائم رفيعة اربعة ، متكئة على جدار مطلي باللون السمائي ، ينقل مباراة بالابيض والاسود بين المصارع العراقي عدنان القيسي وخصمه اعتقد كان اسمه فيريري ، لم تثر اهتمامي عكسيات القيسي على خصمه بقدر ما كنت امتع نظري بألوان الجدران وطقم القنفات ورائحة الطعام الشهية ، وثياب الكيمون ذات الالوان الفاتحة وهي تكشف عن زنود الفتيات الثلاث وهن يضعن اقدامهن الناصعة البياض على بلاط الارضية البارد بلونيه الأبيض والأسود ، الذي بدا لي كأنه رقعة شطرنج اتخذتُ فيها مكان جندي بائس منتظراً لحظة موته في معركة لاناقة له فيها ولا جمل ، يعج الهول بتصفيق الحفاة كلما لاحت لهم قفزة من قفزات القيسي وهو ينزل عٍكسيته على ظهر خصمه ، وهكذا الى ان نخرج من بيت ابو خليل فرحين ضاحكين تودعنا عيونهم بالرحمة والشفقة ، يتسرّب الاولاد داخل الازقة الترابية حتى يتواوروا عن الانظار ، اذهب انا الى بيتنا الذي لايفصله عن القصر سوى بيت واحد ومدخل زقاق . فضولي الدائم للتبصبص ومشاهدة برامج الاطفال بعد السادسة عصراً في بيت ابو خليل كل يوم في ذلك الصيف الحار لم ينقطع ، حتى جاء ذلك اليوم الذي جاء فيه ابي متأخراً الى البيت وقد هبط الظلام وغابت الشمس قبل ساعتين او اكثر ، ولم يجدني ، حينها سأل امي عني ، سمعته يناديني بغضب حين رآني متخذاً من الارض مجلساً خارج بيت ابو خليل ، اشاهد التلفزيون من خلف الباب المشبك المؤطر بالخشب ، كان هول البيت بالنسبة لي هو التلفزيون ، ليست تلك الشاشة المربعة الصغيرة المنتصبة على الطاولة ، اراقب حركاتهم ، جلوسهم ، اثاثهم ، كل شئ مرتب ، الصور المزججة ذات الأُطر البنية المعلقة على الجدران ، كل شئ جميل وله عطره ، تركت مجلسي وانا انفض بكلتا يدي ماعلق ببيجامتي من تراب ، ملبياً نداء ابي الذي قابلني بوجه متجهم وعينين غاضبتين قائلاً ( مو عيب گاعد بباب الناس ) قال ذلك وهو يجتاز الباب خلفي محذراً اياي بالذهاب مرة اخرى ، حزنت وتألمت كثيراً تلك الليلة ، تركت عادة الذهاب هناك ، بعد ان عاد ابي عصر اليوم التالي مستقلاً سيارة تاكسي ، ركنت بمحاذاة بابنا ، انزل من صندوقها الخلفي كارتوناً كبيراً تبين فيما بعد أنه جهاز تلفاز بحجم كبير بأطار خشبي بلون غامق ، لم يدم بقاء بيت ابو خليل اكثر من سنة ونصف او سنتين في القطاع ، توالت العوائل الغنية والتي لم تكن من ذات اصول جنوبية على هذا القصر وكان آخرهم عائلة لاتقل شبهاً بنظام معيشتهم عن بيت ابو خليل ، يطلقون عليهم اسم بيت ( الجِدّه ) التي كانت تعمل قابلة لتوليد النساء الحوامل ، تركتُ القطاع والقصر وبيت الجِدّه وظل اثر جلوسي على التراب هناك عالقاً في ذاكرتي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا