الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة حب

فارس حميد أمانة

2016 / 10 / 3
الادب والفن


قصة حب

(1)

ماذا لو أنك أخرجت من خزانة قديمة دفاترك العتيقة تتصفح فيها لحظات مرت بك بكل فرحها أو ألمها ؟ ماذا لو أنك كنت شاهدا على قصة حب رائعة كانت نهايتها على غير ما توقعت على الإطلاق ؟ ماذا لو أنك بين الآونة والأخرى تصفحت صورك القديمة تنظر في عيون أبطال تلك القصة وتغيب لحظات مسترجعا تلك الذكريات بكل إرهاصاتها ليتنبه وجدانك على حقيقة مرة .. إن أربعين عاما قد انقضت منذ أن كنت جزءا من كل ذلك ؟ لكن .. هل انتهى كل شيء ؟ أم أن كل لحظة مرت من تلك اللحظات تجعل حوادث تلك السنوات أكثر التصاقا بوجدانك وبروحك وبالتالي تكون أكثر ألما ؟

حدثت بطل قصتي هذه يوما إنني راغب بنشر قصتهما معا .. ارتبك بسنواته الستين وأجابني بتوتر : " لا .. أرجوك لا تفعل " .. كررت عليه طلبي بعد بضعة أشهر ليجيبني بنفس الإجابة : " فارس .. دع كل شيء راقدا في محفظة الذكريات " فرددت عليه بعصبية : "هل انتهى كل شيء ؟ " رد بسرعة : " كلا .. لكنني فقط لا أريد " رددت بحزم كان واضحا في نبرة صوتي وفي نظرتي : " ليست قصتك وحدك يا خالد .. إنها قصة كل شاب وشابة من أمثالكما .. أحب كل منهما الآخر وبكل هذه المشاعر لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفنهما .. سأنشرها " سكت صديقي متألما .. ثم ردد : " إن كنت مصرا فلا تنشر الأسماء الحقيقية " .. وافقته على ذلك .. لم يكن اسم صديقي خالد .. ولم يكن اسم بطلة القصة فوزية .. لكن .. لنعد للبداية ..

(2)

لم يكن ربيع عام 1976 ربيعا عاديا رغم تفتح البراعم التي نفضت عن نفسها برد الموصل القارص حينها ورغم كل تلك الورود والأزهار الخجولة التي كانت تكافح برد كل صباح منتظرة دفء شمس بداية النهارات الجميلة .. كلا .. لم يكن ربيعا عاديا لنا نحن الثلاثة على الأقل .. أنا .. وخالد .. وفوزية .. ضمتنا نحن الثلاثة ومعنا العديد من زملاءنا ونحن نلج بداية عشرينيات شبابنا وتفتحنا أروقة أبنية كلية الهندسة في جامعة الموصل وشوارعها المنسقة الجميلة .. وتلك الحدائق رائعة الترتيب .. لم تكن براعم الربيع البارد تلك السنة قد تفتحت لوحدها .. كانت براعم حب جديد وود عميق تتفتح أيضا .. كان الحب والتعلق والوداد واتصال روحي منقطع النظير قد نشأ بين خالد وفوزية .. خالد الشاب النحيل القادم من بغداد بكل حركاته الحلوة التي تطوح بجسده بين الفينة والفينة وبكل بساطته وضحكاته المجلجلة .. وبقلبه الأبيض النقي كبياض صباح أشرقت فيه الشمس توا .. وبتكتمه الشديد على الكثير من ماضي حياته .. إلا أنا .. فقد كنا الأقرب لبعضنا .. والأخلص .. وفوزية .. تلك الشابة المتحدرة من عائلة غنية ومتحفظة من عوائل الموصل الراقية .. شابة جميلة .. بيضاء البشرة كبلورة ثلج نقي .. هادئة .. رقيقة جدا .. وأتذكر كثيرا أنها عندما كانت تتحدث بعفوية بلهجتها الموصلية كان خالد يهتز طربا ويحدثني عندما تبتعد " إن اللغة الفرنسية لا تليق إلا بفوزية .. وبرقتها الفائقة " .. هكذا كان يصف لهجتها الموصلية وطريقة حديثها الناعم ..

كبرت البراعم في حدائق الكلية .. وكبر معها هذا الحب الأبيض ..

كانت فوزية ككل شابة شرقية خجولة ومربوطة بالتقاليد تنتظر من خالد أن يبوح لها بحبه .. أما خالد العنيد فقد لف التردد قلبه وعقل لسانه " الطويل " .. هكذا كنت أصفه دائما .. تردد لم أفهم سببه حينها رغم النقاشات الحادة التي كنا نخوض فيها بهذه النقطة .. كثيرا ما اجتمعنا نحن الثلاثة سويا .. نخطو فوق إسفلت الشوارع النظيف .. وكثيرا ما جلسنا بين أشجار الحدائق .. وكثيرا أيضا ما كنت أتعلل بعمل ما لأتركهما وحيدين لعل أحدهما سيكون أكثر شجاعة من الثاني .. لكن دفء شمس منتصف الصيف لم تستطع إذابة ثلج تردد خالد أو خجل فوزية .. لم يفعل دفؤها إلا شيئا واحدا فقط .. شد قلب كل واحد منها لقلب الآخر .. لكن بصمت ..

(3)

في السنة التالية دأبت على أن أشجع خالد لخطوته التالية .. وكان يعدني بذلك بل ويؤكد لي حبه وحاجته للارتباط بفوزية .. وقد كنت طبعا الوحيد الذي يعرف بهذا الحب الرقيق .. كنا أنا وخالد نضع خطة للقائنا المعتاد نحن الثلاثة كل صباح ومكان جلوسنا ووقته أيضا .. ثم طريقة انسحابي وموعد رجوعي لهما متأملا أن يزف لي خالد بشرى إقدامه وأملي بأن ألحظ احمرار وجنتي فوزية المفعمتين بالفرح الطفولي الذي كان يغمر كل شابة وقد اعترف لها حبيبها بحبه وشغفه .. لم يحدث أن تحقق حلم كل منا بذلك .. لم يفاتحها خالد مطلقا .. لم تتورد وجنتا فوزية وقد طال انتظارها .. ولم أسعد برؤية نهاية لكل تلك الإرهاصات ..

في نهار يوم جميل كنا وعدد من زميلاتنا وزملائنا متجمعين على شكل نصف دائري وسط الشارع الرئيسي وكل واحد منا ممسك بورقة الامتحان الشهري لمادة من أصعب المواد وقد امتلأت قلوبنا ضحكا .. كنا سبعة أو ثمانية وكنا جميعا راسبين في الامتحان وقد عرف كل منا نتيجة الآخرين .. لاحظت أن وجه فوزية قد احتقن كثيرا .. بادرها خالد بسؤاله عن درجتها التي حصلت عليها .. لم تجبه .. كادت دموع الحزن الممزوج بالغضب أن تنز من عينيها الكحيلتين بكحل باهت اللون .. ارتعشت شفتاها المصبوغتان بلون وردي باهت أيضا .. لم تجبه بل مزقت الورقة وكورتها بيديها المرتعشتين أيضا ورمتها على الأرض ثم داست عليها .. عرفنا النتيجة فورا .. انضمت فوزية أيضا لقافلة الراسبين .. ابتسم البعض ليشجعها .. سكت أنا احتراما لحزنها .. ثم رددت عبارة واحدة " لا عليك .. ستعوضين ذلك فوزية " .. لم يتكلم خالد أيضا .. لكنه انحنى على ما تبقى من قطع الورقة ملتقطا إياها من مكان سقوطها قرب قدميها .. نظفها بعناية فائقة وسط دهشة الجميع لما يفعل .. ثم اقتطع الجزء العلوي الذي كتبت عليه اسمها وصففه بعناية .. وببروده المعتاد دسه في محفظته .. ابتسم الجميع مع الدهشة والإعجاب .. أما فوزية فقد غرق وجهها بحمرة شديدة كحمرة الشمس الغارقة في الأفق .. كانت هذه أول خطوة شجاعة منه وقد فهمت بالتأكيد .. لكن السيئ في ذلك أنها كانت خطوته اليتيمة ..

(4)

كان ذلك في عامنا ما قبل الأخير وأنا وخالد نتحدث في غرفتنا بالقسم الداخلي عن مصير علاقته .. قلت له مرة " اسمع خالد .. لولا إني مرتبط بعلاقة حب مع فتاة من أقربائي ومتفقان على الزواج .. لتقدمت لفوزية بدلا منك .. إنها فتاة تستحق أن يفكر الجميع بالارتباط بها " .. كان الغرض من حديثي بهذه الطريقة إثارة غيرته .. نجحت في ذلك .. فأجابني فورا : " كلا .. غدا ستشهد تتويج قصة الحب هذه بالنتيجة الجميلة المنتظرة " .. قال ذلك بتصميم .. وثقة .. نمت مطمئنا تلك الليلة .. غدا سينتهي كل شيء ..

في صباح اليوم التالي رجع خالد بعد منازلته العقيمة لتردده المبهم السبب وهو خاسر معركته .. لم يبح لفوزية بأي شيء .. فوبخته بشدة ككل مرة .. لكنه حدثني في المساء عن حديث مر بينهما .. كان حديثا عاديا جدا لكنه كان جذوة يمكن لها أن تنتج نارا إن نفخها أحد .. ففي نهاية السنة الثالثة يتحتم على كل طالب منا أن يختار مصنعا أو معملا يتدرب فيه في العطلة الصيفية .. اختارت فوزية مصنع السمنت لقربه من بيتها .. قال لها خالد انه يريد أن يوسع بيته الصغير في بغداد فماذا ستفعل له كمساهمة ؟ ربما فهمت المسكينة انه سيوسع بيته لاستقبالها كعروس .. استجابت بشدة لتلك الكلمات فأجابته بخجل شديد أنها ستنفض ملابسها لتهبه كل ذرة سمنت ستعلق بها .. فكرت مع نفسي قليلا ثم قلت له : " إنها تفتح لك الباب على مصراعيه .. إنها تمنحك قلبها .. وروحها .. وعقلها .. لكنك ستكون أحمقا كبيرا ككل مرة " ..

بعد بضعة أيام كان الاثنان معا في أحد المختبرات لانجاز تجربة ما .. لمح خالد زوجي حمام من خلف نافذة الشباك وهما يناغيان بعضهما بود يثير المشاعر .. ابتسم خالد وأشار لفوزية أن تنظر إليهما .. نظرت الشابة للطيرين العاشقين يتغازلان ويحتك جناح أحدهما بجناح الآخر ويتلوى العنقان على بعضهما .. لا بد وأن يثير منظر غزلهما قلب الفتاة .. وربما آلمها أن يحصلا على نصيبهما من الحب دونها هي .. فما كان منها إلا أن تناولت مسطرة كانت بيدها لتنهال على الزجاج بالطرق ليرتعب الطائران بعدها ويحلقان بعيدا .. أعترف إنني تألمت حينها من أجلها عندما حكى لي خالد ما حدث ..

(5)

مرت الأيام بسرعة .. أصبحنا نستعد للامتحانات النهائية ولم يتبق إلا القليل ليقتحم كل منا الحياة الجديدة .. حياة العمل والمسؤولية .. واتخاذ خطوة باتجاه تكوين أسرة جديدة .. نجحت أنا وفوزية من الدور الأول لكن خالد تخلف عن التخرج بضعة أشهر ليؤدي امتحانا أو اثنين في خريف عام 1978 .. قلت لوالدي رحمه الله إنني سأسافر للموصل لإنهاء بعض الأعمال المتعلقة بوثيقة التخرج وتسليم كتب وما شابه ذلك .. لكنني كنت كاذبا كبيرا فقد كان السبب الحقيقي هو رغبتي بحسم نهاية تلك القصة .. اتصلت هاتفيا بخالد لأخبره بأننا سنلتقي في القسم الداخلي .. والتقينا فعلا .. قضيت عشرة أيام التقينا فيها نحن الثلاثة مجددا ولعدة مرات .. قلت في مرة منها لصديقي : " اسمع خالد .. لم يتبق إلا القليل من الوقت لحسم الأمر ..غدا سألتقي بفوزية وأبلغها انك لا تستحقها لكونك جبان .. وأحمق " .. تألم خالد لهجومي العنيف ووعدني بأن يكون غدا في طليعة الشجعان .. لكنه أخفق أيضا .. جلسنا معا عند المساء وأنا أعنفه .. باح لي بسره الذي أخفاه عني طيلة ثلاث سنوات .. عائلته تحتاج إليه بشدة بسبب وضعهم المالي الضعيف .. والتزاما منه لهم كان قد قرر عدم الزواج لخمس أو ست سنوات بعد التخرج لحين قيامه بتحسين وضعهم المالي فهو الأكبر بين أخوته وأول من سيحظى بوظيفة .. ثم سألني إن كانت فوزية المسكينة تستحق أن يبوح لها بحبه لتتعلق به ثم يفاجئها بتأخير زواجهما كل هذه الفترة ؟ .. أجبته بسؤال : " كم تحبها ؟ " .. أجابني دون تردد " أنك تعرف كل شيء " .. رددت عليه بسؤال آخر : " وهل تحبك فوزية ؟ " .. " نعم " .. هكذا أجاب بثقة .. فقلت له : " امنحها إذن فرصة لتقرر هي ما تريد فربما ستقرر إن تنتظرك " .. فقال : " لا .. لن أدعها تتألم بالانتظار أو بضغط عائلتها .. فوزية تستحق الأفضل مني " .. أطرقت سابحا في دوامة تفكير عميق .. هل كان على حق ؟ هل يتوجب علي التوقف عن فعل أي شيء لكي لا تتألم تلك الفتاة وتحبط أكثر من ذلك ؟ لم أستطع التوصل إلى إجابة لكل تلك التساؤلات .. انتهى عام 1978 .. وانتهت معه أشياء كثيرة ..

(6)

حدثني بعد ذلك انه التقى فوزية في منطقة تسوق في الموصل لآخر مرة في حياته وهي تتأبط ذراع شخص خمن من وضعية ذراعيهما المتشابكين انه خطيبها .. كان خالد يتحرك باتجاههما وهما يقتربان منه .. وعندما أصبحت على بعد بضعة أمتار لمحته ففتحت عينيها من دهشة باللقاء غير المرتقب .. دهشة تختلط بفرح طاغ يتسلل فجأة إلى الأرواح لتهتز الأجساد وترتعش .. كان كل ما يوحي به الموقف هو توقف خالد ليلقي التحية على من شغلت قلبه ووجدانه سنوات ثلاث .. وهي كانت تنتظر ذلك بشغف .. تباطأت قدماها لتمنحه ربما آخر شيء في حياتها .. أن يقف ويلقي التحية لتتحدث الألسن عن شيء وتتحدث العيون عن أشياء أخرى .. أشياء تلتقي فيها الأرواح يدا بيد لترتقي سلم اللانهاية .. لكن خالد لم يتوقف .. تجاوزهما .. شيء ما أوحى إليه فجأة أن ينظر خلفه ليختزن في عقله لآخر مرة منظر جسدها البض وهو يرحل عنه .. رأى إن فوزية قد أدارت رأسها أيضا .. كانت ملتفتة إليه وذراعها لا تزال تشبك ذراع خطيبها .. كان آخر ما رآه خالد نظرة الألم الممتزج بالشغف تغطي تقاطيع وجهها .. وشفتاها ترتعشان كأنهما تتحدثان إلى شفتيه ..

(7)

بعد بضع سنوات وفي بداية الثمانينيات تحديدا كان خالد في مهمة تدريبية لستة أشهر في روما بايطاليا .. دخل مرة بضع متاجر للتسوق ثم قفل عائدا إلى الفندق ليكتشف فجأة انه فقد محفظته .. كانت قصاصة الورق التي تحمل اسم فوزية بخط يدها والتي التقطها من تحت قدميها من أعز المقتنيات في تلك المحفظة .. رجع بسرعة مارا بآخر متجر تسوق منه مستفسرا .. لكنه لم يجد أثرا للمحفظة .. فرجع حزينا جدا كما أخبرني .. رجع عدة مرات لنفس المحل لعل أحدا عثر عليها وأرجعها .. في آخر يوم له وقبل أن يتوجه للمطار مر بنفس المتجر قائلا لصاحبه بصوت مخنوق إن المال الذي في المحفظة لا يهمه .. فقط هناك ورقة مهمة بل عزيزة جدا وسيهب كل المال لمن يجدها مقابل إرجاع تلك الورقة .. لم يحصل على محفظته .. ولا على كنزه الثمين .. لقد كانت يحمل فوزية معه أينما ذهب لكنه أحس في هذه اللحظة وهو يخرج من باب المتجر انه فقدها .. وإلى الأبد ..

(8)

لم يتزوج خالد إلا بعد بضع سنين وفاءا منه والتزاما لأهله .. وكنت ألتقي به كلما جئت إلى العاصمة من محل عملي في كركوك .. وكانت والدته رحمها الله تصر علي أن أتناول غدائي حتى قبل أن يرجع إلى بيته وتجالسني كثيرا .. وعندما يصل تتركنا لنتحدث عن أشياء كثيرة كان أولها فوزية وزواجه بعد التخرج بسبع سنوات من سيدة أخرى غيرها ..

بعد منتصف الثمانينيات بقليل اتصل بي هاتفيا وعلى بيتي وأنا لا أزال أعمل في كركوك أحد زملاءنا القدامى ليخبرني بالخبر الصاعق .. لقد ماتت فوزية بحادث سيارة جارة معها إلى القبر جنينها وتاركة طفلة في الثالثة من عمرها .. صعقت .. وعندما أفقت بكيت كثيرا .. هدأت قليلا لأسأل زميلي إن كان خالد قد عرف بالخبر فأجابني مستغربا .. " لا .. لا أعتقد .. لكن لماذا ؟ " .. أجبت : " لا شيء .. كان خالد وفوزية في مجموعة واحدة بالمختبر .. وهما زميلان .. لا بد وان يتأثر لذلك .. لكنني أريد أن أعلمه بنفسي بالخبر تدريجيا " .. وافقني على ذلك ..

أغلقت سماعة الهاتف لأرفعها مرة ثانية متصلا بخالد في بغداد .. تحادثنا طويلا وكانت ضحكاته المجلجلة تخترق أذني وأنا شارد الذهن بل غارق في لجة تفكير عميق .. كيف سأخبره ؟ سألته أول مرة إن كان قد التقى أحدا من زملاءنا القدامى فأجاب بالنفي .. ثم سألته إن كان قد التقى بفوزية أو عرف شيئا عن أخبارها فأجاب بحسرة شديدة أحسست بها تكوي أذني : " كلا " .. رجعنا لنتحادث فقد غيرت الموضوع ليتسنى لي التفكير في خطوتي التالية .. قلت له فجأة إن فوزية قد تعرضت لحادث انقلاب سيارتها وهي ترقد في المستشفى حاليا لكنها بخير .. صمت متألما .. لم يقل شيئا لكنني أحسست بألمه .. سأل إن كانت حقا بخير .. قلت إنني لا أدري فوضعها صعب قليلا .. صمت مرة أخرى .. " كيف ؟ " .. سأل بإلحاح للمرة الثالثة فقلت إن وضعها غير مطمئن ثم أردفت بعد لحظات صمت موجع أنها في حالة خطرة .. كاد المسكين أن يبكي .. حاولت تغيير الموضوع لكنه ألح علي بالسؤال عن حالتها فقلت بصعوبة : " إنها في غيبوبة منذ بضعة أيام " .. كيف لك أن تؤلم صديقا بطعنه طعنات تشتد قوتها كل مرة وأنت تنظر إليه ؟ .. كم ستتألم وأنت تشارك صديقك ألمه ووجع قلبه ؟ كم سيكون مقدار ألمك وأنت تتأهب لإطلاق رصاصة الرحمة على رأس صديقك النازف أصلا ؟ ..

قلت له كمن يلقي إلى الأرض ثقلا آلمه حمله طويلا " توفيت فوزية " .. أحسست لحظتها إنني أمد أصابعي في فتحة جرحه لأعبث بأوردته وشرايينه المتقطعة قبل أن أطلق على رأسه رصاصة الرحمة .. لم يجب .. قلت له : " خالد .. هل أنت معي " .. لم يجب أيضا .. ماذا فعلت بحماقتي تلك ؟ كررت سؤالي له إن كان لا يزال معي على الهاتف .. كان هناك صمت يؤذي الاثنين .. سمعت بعد ذلك صوت تشنجات ألم عميق .. ثم صوت بكاء حاول خالد أن لا يخرج من فمه .. لكنه خرج من بين أضلاعه .. قلت بصوت مختنق : " ابك خالد .. ابك كثيرا قدر ما تشاء .. أفضل لك من أن تموت مختنقا بألم يعتصر الروح .. " .. ثم أغلقت سماعة الهاتف .. قررت حينها أنني لا بد وأن أكتب قصة ..

(9)

بعد بضعة أيام زرته في بيته .. استقبلني وهو يكاد يبكي .. بل بكى فعلا رغم إنني لم أر الدموع .. كان قلبه يبكي بصمت .. استخرجنا صورا ضمتنا نحن الثلاثة مع زملاءنا القدامى .. تحدثنا بألم .. لاحظت بعد فترة أن زوجته لم تأت لترحب بي أو أن تحمل لي حتى القليل من الماء .. شعرت أن خالد محرج قليلا وهو يخرج من الغرفة ليرجع مرة تلو مرة .. بعد نصف ساعة جاء لي بالماء .. بعدها بفترة طويلة ذهب ليعد الشاي بنفسه .. سمعت لغطا داخل البيت ثم دخل بأقداح الشاي متوترا .. سألته ما به أجابني : " هل تعرف ماذا قالت زوجتي ؟ " قلت " ماذا ؟ " .. أجاب " أنها تتهكم مستهزئة بمشاعري قائلة إن صديقك المخلص جاء ليعزيك بوفاة فوزية في بيتي " .. صمت قليلا ثم أجبته " لا عليك .. إنها في النهاية زوجة " ..

ودعني وأنا أقود سيارتي مبتعدا ومفكرا : " متى سأكتب القصة ؟ " ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر