الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرائم منسية: ألمانيا وماضيها الاستعماري في إفريقيا

زهير سوكاح

2016 / 10 / 4
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


جرائم منسية: ألمانيا وماضيها الاستعماري في إفريقيا
باول شتارتسمان
ترجمة: زهير سوكاح

خلّفت الحملات العسكرية للقوات الألمانية الاستعمارية في شرق إفريقيا منذ قبل مئة سنة قرى منهوبة وأراضي مدمّرة وأعدادا لا تُحصى من القتلى. غير أنّ هذه الجرائم لا يتم تناولها اليوم على الصعيدين السياسي والمجتمعي إلاّ نادرا، وأمّا المعالجة السياسية لهذه الانتهاكات الماضية لحقوق الإنسان فلم تُجرى إلى اليوم. بل على العكس من ذلك: إلى يومنا هذا لا تزال توجد نصب تذكارية وأسماء شوارع تكرم الجُناة، بينما تم نسيان الضحايا، فلماذا يصعب تحمل المسؤولية؟
العلاقات الراهنة بين ألمانيا وتنزانيا جيدة والعديد من السياح الألمان يقدّرون في هذا البلد المطل على المحيط الهندي شواطئه ومنتزهاته، كما أنّ هذا البلد الإفريقي هو شريك للجمهورية الاتحادية في مجال التعاون الاقتصادي. لكن يبدو أن التاريخ المشترك منسي تقريبا: فعندما زار الرئيس الألماني يواخيم غاوك تنزانيا في فبراير 2015 أعلن للصحافة أنه تمّ في الأحاديث الثنائية "إغلاق الصفحات القاتمة" بين البلدين، غير أنه أضاف في جملة مقتضبة بأنه على وعي بالتاريخ العصيب. ومن بين الأحداث الأكثر قتامة نجد حرب "الماجي ماجي" (1905-1907) التي انتهجت فيها القوة الألمانية الاستعمارية على أرض دولة تنزانيا الحالية سياسة الأرض المحروقة ودفعت عن قصد بالآلاف من البشر إلى الموت جوعا. ولا يمكن تصور أن يسافر مسؤول ألماني رفيع المستوى إلى الدول الأوروبية دونما أن يشير بشكل أوضح إلى أحداث صادمة مماثلة.
تضل إفريقيا دائما في نظر العديد من الناس كأرض مجهولة، وقلما تجد لها مكانا في أجندة ألمانيا السياسية إلا من زاوية نظر اقتصادية وأمنية على الأكثر. سياسيا تُعتبر الدول الإفريقية عديمة الأهمية، كما أنه لا يتم أخدها بمحمل الجدية ويُنظر إليها كدول أزمات أزلية. ينضاف إلى هذا سياسة غربية تشد خناق اقتصاد دول الجنوب عبر قوانين تجارية. فنحن لازلنا بعيدين كل البعد عن العلاقة المتكافئة المنشودة بين ألمانيا والدول الإفريقية.
صورتنا عن هذه القارة لاتزال تتشكّل من العديد من الأحكام المُسبقة عن هذه "البقعة السوداء من الأرض" كلها بؤس وفوضى وحروب وأيضا من كليشيهات عن طبيعة عذراء وحيوانات برية وأناس بسطاء، أما الحقبة الاستعمارية فيتم الرفع من شأنها، حيث يُنظر إلى الاستعمار كما لو كانت له أيضا جوانب إيجابية، فمُبشرون وباحثون وموظفون استعماريون قد تصرفوا لدوافع نبيلة، أيضا أُعتبرت مدة الاستعمار الألماني قصيرة بشكل واضح، إضافة إلى هذا كانت القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى ستمارس نفس الجرائم، كما أن ألمانيا قد قامت بما فيه الكفاية في معالجتها للحقبة النازية. وتأرجحت طبيعة التعاطي مع هذه القضية غالبا بين الأحكام المسبقة وعدم الاكتراث، وأحيانا وصلت جزئيا إلى حد المراجعة التاريخية.
بالأخص في الدوائر اليمينية المحافظة يحتشد اليوم رومنسيوا الاستعمار، الذين يحيون ذكرى "مكاننا تحت الشمس"، وفي منتديات الإنترنت يلتقي المتحمسون للماضي العسكري للبحث عن نياشين وريات قديمة لما تُسمى بـ "قوات الحماية" . في هذا المشهد تلعب "جمعية مساعدة إفريقيا الجنوبية"
(Hilfskomitee Südliches Afrika) دورا هاما، فما يظهر وكأنه جمعية إنسانية ليس في الحقيقة إلا تجمع من اليمينين القدماء والجدد، أسسها في الأصل مجموعة من الداعمين لنظام الفصل العنصري الأبارتايد، ومن بين أعضائها نجد لحد الساعة مسؤولين من الحزب القومي الألماني (NPD)بل وكذلك نواب من حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي (CSU) في البوندستاغ . وفي بعض الدوائر اليمينية توجد كذلك كتابات مماثلة وحلقات دراسية حول الماضي الاستعماري الألماني وحملات جمع تبرعات من أجل دعم "الوجود الألماني" في إفريقيا. وربما تتم هنا المراجعة التاريخية بكل ببساطة ودون ازعاج لأن الساسة والمجتمع المدني لا يكادون يهتمون بهذا الأمر. وبهذه الكيفية يسعى رومنسيوا الاستعمار للوصول إلى أعظم قيمة لأنفسهم. وتظهر مواقفهم جزئيا في سياسة المجالس البلدية، فمنذ عدة سنوات يحاول ناشطون من جماعة (Black Community) تغير إسم شارع في برلين، الذي يسمى حاليا بشكل رسمي (Mohrenstraße) "شارع مورن"، وستكون بمثابة إشارة ذات مغزى إذا لم يعد هنالك مكان بعد للتسميات العنصرية في الفضاء العام للعاصمة. غير أن مقاومة تغيير التسمية جاءت من قبل سكان محافظين، يدّعون أن هذه التسمية ليست بعنصرية، وأيضا باقي تسميات الشوارع التي تمجّد مجرمي استعمار سابقين تريد القاطنة البيضاء الغاضبة الإبقاء عليها. أما مشاعر ذوي الضحايا فهي بالنسبة لهم غير ذات أهمية. وقد خطّ هذا الموقف فرع حزب الاتحاد المسيحي الديموقراطي في الدائرة الانتخابية الوسطى للمدينة في راياته الدعائية: "ضد تغيير أسماء الشوارع في الحي الإفريقي"، هكذا ورد في شعارات الحملة الانتخابية للحزب في المدينة سنة 2011.
إلاّ أنّ الجدال الدائر حول التسميات الاستعمارية للشوراع، والذي أثارته مبادرات مدنية، قد أظهر تأثيره في مناطق داخل ألمانيا، حيث بدأ مواطنون وسياسيون بالاهتمام النقدي بالماضي الاستعماري، وكانت البداية على مستوى السياسة الخارجية في أغسطس سنة 2004 مع وزيرة التنمية الألمانية السابقة هايدماري فِتسورِيك-تسويل في ناميبيا: ففي كلمة لها طلبت العفو عن الجُرم الذي إقترفه الألمان قبل حوالي مئة سنة في مستعمرة "جنوب غرب إفريقيا" في حق "الهيريرو"، إلاّ أن الحكومة الاتحادية المكونة أنداك من تحالف الحزب الاشتراكي الديموقراطي والخُضر سرعان ما أعلنت أن هذه التصريحات لا تعبر إلا عن الرأي الشخصي للوزيرة، رافضة في نفس الوقت تقديم إعتذار رسمي.
إلى حد اليوم لا تزال المتاحف الألمانية تحتفظ بجماجم وعظام العديد من الأفارقة الذي قتلوا في المستعمرات. وإبان الحرب على الهيريرو (1904-1905) أجبر ضباط ألمان نساء القتلى على نزع اللحم عن الجماجم بشظايا الزجاج، كي يتم إرسالها عبر البحر إلى ألمانيا من أجل أن يتمكن هناك ما يعرف بـ "باحثي العِرق" من دراستها. واليوم يُطالب أقارب الضحايا باسترجاعها، غير أن ممثليهم يتم صدهم جزئيا عن ألمانيا، وأما البعثات الناميبية فتم تجاهلها من طرف الحكومة الاتحادية السابقة، المكونة من تحالف الاتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الحر.
منذ ذلك الحين تقدمت السياسة خطوة إلى الأمام نحو الاعتراف بالجرم الألماني، فوزارة الخارجية الألمانية لم تعد تتحاشى الاشارة إلى المجازر التي ارتكبتها قوات الاستعمار الألمانية في حربها ضد الهيريرو بتسميتها كما كانت فعلا، أي إبادة جماعية. قبل ذالك، وفي سنة 2012 تقدم فرانك فالتر شتاينماير كرئيس كتلة الحزب الاشتراكي في البرلمان الاتحادي بطلب من طرف المعارضة بتسمية صريحة للإبادة الجماعية بشكل رسمي، أيضا أظهر اليساريون والخُضر مساندتهم للضحايا حيث قدموا طلبات مُماثلة لدى البرلمان. نظريا توجد في البرلمان أغلبية، مكونة من حزب اليسار والحزب الاشتراكي الديموقراطي والخضر، تقف مع المعالجة السياسية للحقبة الاستعمارية، لكن عمليا تبقى القضية ألعوبة في يد المعارضة.
بفضل جهود النشطاء الناميبيين بالأساس وداعميهم المحلين يتم في البلد بين الفينة والأخرى على المستويين السياسي والإعلامي التعاطي مع التاريخ الاستعماري في "جنوب غرب أفريقيا" . وعكس هذا فالعلاقات بين ألمانيا وتانزانيا تتسم بالهدوء نسبيا على كلا الجانبين. وتراهن وزارة الخارجية على النبرة الهادئة في المعالجة التاريخية: فالسفير الألماني في تنزانيا يزور مراسم إحياء ذكرى ضحايا الاستعمار، أما وزارة الشؤون الخارجية فتدعم المشاريع البحثية حول هذه القضية. غير أن هذا لا يشكّل حافزا نحو معالجة سياسية فعالة للحقبة الاستعمارية. بدورها تُبدي الحكومة التنزانية اهتماما ضعيفا بالتطرق إلى قضية التاريخ الاستعماري في المحادثات الثنائية ويبدو أنه يتم تفادي المخاطرة بإلحاق الضرر بالتعاون الاقتصادي المشترك، فالبلد خاضع على أية حال لتبعية اقتصادية للجمهورية الاتحادية.
ولا يظهر هنا ذوي الضحايا ومطالبهم مثل التعويض المباشر عن الضرر وإعادة الرفات البشري، بينما يتم الاستشهاد بكل سرور بالثناء الذي تُظهره بعض القبائل التنزانية لمشاريع استعمارية مثل بناء المدارس والسكك الحديدية. من البديهي أن بناء طريق سيار لا يصلح أن يكون جوابا على الجرائم النازية، غير أنه في النقاش الدائر حول التاريخ الاستعماري في إفريقيا تتم دائما الاشارة إلى مشاريع البنية التحتية الاستعمارية للتقليل من جسامة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها الألمان.
ومن أجل إيجاد معالجة لائقة للتاريخ الاستعماري الألماني يتعين بدل مجهودات في قطاعات متعددة على الصعيدين السياسي الداخلي والخارجي. على الصعيد الدبلوماسي نتمنى أن تتحرك ألمانيا نحو المُصالحة بشكل فعّال وأن تُبادر من تلقاء نفسها للتطرق إلى الجرائم الاستعمارية. فهذا أيضا جزء لا يتجزأ من علاقة صداقة يظهر فيها كلا الطرفين بشكل متكافئ. ويطالب العديد من ذوي الضحايا بالدرجة الأولى باعتراف كاملا بالجرم وباعتذار رسمي. وهنا لا يتعلق الأمر بالمال، بل بالإصغاء إلى المجموعات المتضررة ومراعاة رغبتهم في إعادة اصلاح الأمور. وفي حالة المستعمرات السابقة خصوصا، وأيضا في ما يتعلق بإفريقيا عموما يجب حقيقة أن يكون الهدف هو حوار متكافئ يتجاوز اطار السياسة الاقتصادية والأمنية ويكون مخالفا للصورة التعميمية التي تكوّنت لدينا عن هذه القارة الجارة لنا.
على الصعيد السياسي الداخلي يتعين بذل المزيد إذا أردنا الوصول إلى تعاط ذي مصداقية للماضي الاستعماري الألماني، فبعض الجمعيات المحلية التابعة للحزب الاشتراكي الديموقراطي تدعم سلفا تغيير التسميات الاستعمارية للشوارع كما تطالب منظمات المجتمع المدني مثل "برلين ما بعد استعمارية"
(Berlin Postcolonial)و"مبادرة السود في ألمانيا" (Initiative Schwarze Menschen in (Deutschland بإقامة نصب تذكاري مركزي لضحايا الاستعمار وذلك من أجل إيجاد وعي لدى المجتمع عن الإرث الألماني الجسيم في القارة الإفريقية، ويندرج ضمن هذا أيضا إعطاء مساحة إضافية للحقبة الاستعمارية في الحصص المدرسية وشطب الصور النمطية الراهنة ذات الحمولة الاستعمارية والعنصرية من المصادر التعليمية. أيضا المتاحف الألمانية مُطالبة بتوضيح مصدر العينات المعروضة لديها، وإرجاع القطع الثقافية المنهوبة من المستعمرات السابقة والرفات البشرية.
اقتراح النشطاء هو تحمل المسؤولية ويمكن أن تجسده مؤسسة على مستوى الاتحاد، يكون هدفها المعالجة المجتمعية والسياسية للاستعمار. وسيكون هذا دفعة واضحة نحو التعايش في مجتمع الهجرة، ذلك أن العنصرية الراهنة تستمد جذورها من تصورات وكليشيهات الفترة الاستعمارية.

باول شتارتسمان، متخصص ألماني في الدراسات الافريقية والاتنية.
العنوان الأصلي للمقال
:Verdrängte Verbrechen. Deutschland und seine Kolonialvergangenheit in Afrika
ونشر في المجلة الألمانية
Neue Gesellschaft Frankfurter Hefte
عدد مزدوج 1/2 سنة 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا دخلت شرطة نيويورك قاعة هاميلتون بجامعة كولومبيا حيث يت


.. وزير الدفاع الأمريكي يقول إن واشنطن ستعارض اقتحام رفح دون خط




.. وقفات احتجاجية في جامعات الكويت للتضامن مع غزة


.. وزير الخارجية الأمريكي: إسرائيل قدمت مقترحات قوية والكرة الآ




.. الجيش الإسرائيلي ينشر مشاهد قال إنها لتجهيز فرقتين للقتال في