الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة كظاهرة فيزيائية كونية .. صراع الماء والكاربون

يوسف الاشيقر

2016 / 10 / 6
الطب , والعلوم


قبل حوالي 13.8 مليار سنة من اليوم كان هناك تجمعا هائلا من اوتار المادة متركزا في نقطة واحدة حجمها صفر على وشك الانفجار لتشكيل كوننا الحالي الذي يتكون من 25 مليار مجرة وتبلغ كتلته 10 امامها 50 صفر من الاطنان. ولسبب ما لانعرفه انفجرت هذه المادة وانتشرت بكل الاتجاهات في حفل ولادة كوني فريد ورائع ومثير لانعرف ان كان تاريخ الكون قبلنا قد شهد مثله سابقا ولكن لانستبعد ذلك. ويمكننا الى الان مشاهدة صور عن ذلك الحفل يتناقلها الفضاء كاشعاعات خلفية Background radiation نستطيع تتبعها بتليسكوباتنا الحديثة.

من اخر اكتشافاتنا الفيزيائية الان ان مادة الكون كانت موجودة قبل هذا الانفجار العظيم Big Bang ولم تخلق لحظتها, وانها لم تزد شيئا ولم تنقص حتى اليوم, وان كل قوانيننا الفيزيائية وثوابتنا الكونية التي تحكمنا قد تحددت واستقرت خلال ثوان قليلة بعد الانفجار ولم تتغير يوما او يدخل عليها اي مؤثر خارجي. فلو كان عندك مبنيان متشابهان ووضعت قنبلتين متساويتين بنفس المكان من كل مبنى وفجرتهما سوية, لانتوقع حطاما متشابهما بالضبط. فانفجار كل قنبلة منهما يصاحبه اختلاف بالاثر الحراري والضغطي بكل اتجاه فراغي مما يخلف خرابا وعشوائية مختلفة بكل مبنى عن الاخر المطابق له. هذا التميز بالعشوائية المصاحب للانفجار الكبير لكوننا سيحدد عمر ومصير وقوى وقوانين وثوابت تفاعل الدقائق تحت الذرية وهي تتشكل وتتوسع وتتلاحم اوتتنافر فيما بينها لتشكل النجوم والكواكب ومابينهما. ومن عشوائية انفجارنا الكوني الكبير صارت الدائرة عندنا مثلا ثابتها هو π باي الذي تبلغ قيمته 3.1416 وهو حاصل قسمة محيط الدائرة على قطرها, وربما بعشوائية انفجار كوني اخر تكون باي 4.9023 او اي رقم اخر. وهكذا لجميع قوانيننا الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وثوابت معادلاتنا بهذا الكون الذي نعيش به والملزمة لنا والمتحكمة بنا والتي لانستطيع بحال الخروج عليها.

ونعرف الان ان جزء كبيرا من المادة الكونية تحول الى طاقة بين المجرات والنجوم بينما الكتلة المتكونة بعد الانفجار كان ولازال معظمها متعنصرا على شكل هيدروجين مع بعض الهيليوم ويشكل المادة الاساس للنجوم. وهذه الكتلة لازالت تتمدد الى اليوم بفعل دفع ذلك الانفجار ولكننا نتوقع ( اي لسنا متاكدين) بانها ستتوقف عن التمدد يوما ما بالمستقبل وعندها ستتغلب قوى التجاذب فيما بينها على قوى الطرد, فيعود كوننا للتقلص تدريجيا والانهيار على نفسه حتى نرجع الى شكلنا وحجمنا الاصلي الذي انفجرنا منه. وبالتاكيد لانعرف بالضبط ماسيحدث بعد ذلك وان كنا نتوقع ان مادة كوننا ستنفجر مرة ثانية الى كون جديد مختلف عن كوننا بكل المواصفات.

خلال اول عدة ملايين (وربما مليارات) من السنين بعد الانفجار تشكلت اوائل نجوم هذه المجرات مع كواكب تابعة لبعضها تدور حولها وتوسعت فراغيا بكل اتجاه ولكنها لم تكن مؤهلة وناضجة بعد لدعم حياة بيولوجية على سطحها. فبعضها صار موقعه عقيما وللابد بفعل الاشعاعات الكونية المعقمة لاي شكل من الحياة وخاصة قرب نواة المجرات او على اطرافها, والسبب الاهم افتقاد الكون حينها للعناصر الكيميائية المطلوبة وخاصة المعادن. حتى بدات بعض النجوم بالشيخوخة والهرم فتمددت وتوسعت ثم انهارت على نفسها بما يعرف بظاهرة السوبر نوفا Super Nova التي شكلت مصاهر ومفاعلات نووية كيميائية ضرورية استطاعت جمع ذرات الهيدروجين والهيليوم مع بعضها لتشكيل عناصر كيميائية اكبر واكبر ضرورية للحياة, وهي عناصر جدول مندليف الدوري الحالي التي يفوق عددها المئة. فانطلقت هذه العناصر الجديدة مع الغبار الكوني الناتج عن موت وانفجار اوائل النجوم لتصل الى نجوم وكواكب اخرى جديدة وتشبع تنوعها الكيميائي المطلوب لظهور حياة. فصار عندنا النيتروجين والكاربون والكبريت والحديد والصوديوم والاوكسجين وحتى اليورانيوم والعناصر غير المشعة والمشعة الاخرى. ميزة هذه العناصر الكيميائية انها قابلة للتفاعل والاتحاد فيما بينها لتوليد اشكال جديدة من المادة نسميها المركبات مثل الماء والميثان وثاني اوكسيد الكاربون والكحول وغيرها. فاعطت هذه المركبات لكواكب نجوم هذا الكون صفات وملامح جديدة. بل ان هذه المركبات نفسها قابلة للتفاعل والالتحام مع بعضها البعض لتكوين مركبات وتشكيلات كيميائية اكبر واعقد في ظروف فيزيائية ملائمة وبمرور زمن كاف وطويل وبدون كوارث كونية مجاورة. من هذه التشكيلات الكيميائية وتجمعها والتفاعل بينها تطورت كل الحياة الخلوية التي نعرفها وارتقت الى جنس وتزاوج ونبات وحيوان وانسان وذكاء يستطيع حتى ان يتامل تاريخ الكون ويفسره ويعيد بعض احداثه وربما يتدخل يوما بلا جدوى بمصيره المحتوم.

مع اننا اكتشفنا حتى الان اكثر من 10 او 12 كوكبا شبيها تماما بالارض وقريبا منا في مجرتنا درب التبانة يدورون حول نجوم مماثلة لشمسنا, ونقدر ان هناك حوالي 60 مليار كوكب اخر بالجزء القابل للسكن من هذه المجرة تحمل نفس مواصفات ارضنا من حيث العمر والظروف الجوية والفيزيائية, واكتشفنا وجود كل المركبات العضوية الاساسية للحياة ووفرتها في كوننا من خلال النيازك التي تصلنا والتحليل الطيفي, ولكننا لانملك بعد اي دليل علمي حقيقي على تشكل حياة باي منها او بالاقدم منها, مع اننا لانستبعد ذلك ابدا بل نستوجب وجوده. وسيكون تفسيرنا لالية تشكل وتطور الحياة عندنا هو مفتاحا لاكتشاف ومعرفة طريقة تشكل باقي الحيوات بالفضاء ان اثبتنا وجودها لاحقا, مع انني لا استبعد اليات مختلفة بعض الشيء او كثيرا في كواكب وظروف اخرى.

تتميز الحياة العضوية على الارض وطريقة تشكلها واستمرارها بانها تعتمد بصورة رئيسية ومهمة على ثنائية التجاذب والتنافر بين مركبات الكاربون والماء. فبعد حوالي 500 مليون سنة من ولادة الارض قبل 4.6 مليار عام بدات اوائل مركبات الكاربون البسيطة (والتي اثبت ميلر Miller وغيره مخبريا بانها ممكنة التشكل بنفس ظروف الارض حينها) بالتلاحم فيما بينها على سطح طيني رطب او في الفتحات الحارة للبراكين وتحت المحيطات لتشكيل مركبات ومعقدات كيميائية منكمشة على نفسها ومحافظة على استقلاليتها وانعزاليتها عن الماء الوفير المحيط بها. وبتكرار تكون وانحلال هذه التشكيلات الكيميائية وعبر 300 مليون سنة تالية وبوجود كمية كافية من وحداتها الاساسية وظروف جوية وكونية ملائمة ظهرت اولى التشكيلات الكيميائية التي حفزت حال تكونها صناعة نسخ مطابقة لها فتكاثرت. هذه المصانع الكيميائية الصغيرة البدائية الكاربونية الاساس والقابلة لتوليد ومكاثرة نفسها بمجرد اكتمال بنائها اعتمدت طاقة الكترونية حرارية استمدتها من تفاعلها المباشر سلبيا مع الماء. فكلما اكتمل تشكل هذا المركب التحفيزي فان اخر تفاعل مكون له يشكل نواة لبناء مركب مطابق تماما ليعيد نفس الكرة. وهكذا بدات اول صور الحياة وبذرتها. ومع الزمن ومع الاخطاء البناءة في تكاثر وتوليد الاشباه وصلنا الى مرحلة الرنا RNA البروتين الاعقد, حيث يحفظ احد المركبين القالب والشفرة اللازمة لبناء الثاني, والذي يقوم بدوره باعادة بناء نسخة جديدة من الاول وهكذا. واحاطت بعض الدهون الكارهة للماء والمتوفرة بكثرة بالشوربة او الوسط العضوي الغني المحيط فتشكلت اوائل التركيبات الخلوية الحية البسيطة قبل حوالي 3.8 مليار سنة والتي يمكننا الان مشاهدتها بصخور تعود لتلك الحقبة في غرب استراليا مثلا. ومع الزمن والتكرار والاخطاء المصاحبة (الطفرات) والانتخاب الطبيعي للاشكال الاكثر استقلالية وملائمة والاسرع نموا واكثرها كفاءة في حفظ الطاقة ظهرت اولى الخلايا الحقيقية التي نعرفها اليوم بعد 1700 مليون سنة من ذلك اي قبل 2.1 مليار عام.

تطور الحياة الى اشكال معقدة بعد ظهور الخلية حقيقية النواة هو الاقرب فهما وتقبلا من الناحية البيولوجية واسهل اثباتا بمئات الاف التجارب المخبرية التي نقوم بها يوميا ولاجدال عليه بالوسط العلمي. اما المراحل المركباتية التي سبقت ذلك فتتراكم سنويا الاثباتات العلمية عليها, ليس فقط من دراسة صخور تلك الحقب ولا من خلال اكتشافنا لحدوثها بايامنا هذه قرب البراكين والحمم البحرية التي توفر نفس ظروف الماضي, ولا حتى من دراسة الفيروسات والبريونات Prions البدائية التي تصيب الى اليوم خلايا الاحياء وتتكون من مركبات بسيطة متفرقة قابلة للتجمع والانتشار والتكاثر بنفس مبادئ اوائل الحياة او قريبا منها, وانما بصورة رئيسية وقاطعة من اعادة تشكيل تلك المركبات بظروف مخبرية شبيهة بما نتوقعه عن ظروف الارض والبيئة حين تشكلت بدائيات حياتنا. وقد نجحنا حتى الان في ملئ كثير من فراغات هذه الاحجية التي لم نحلها تماما بعد. ومن نفس المختبر الذي تخرجت منه في جامعة برونل بلندن تم صنع المجسات البيولوجية التي حملت على المركبة كوريوستي التي حطت على المريخ عام 2012 للبحث ضمن امور اخرى على دلائل لوجود حياة بدائية حاضرا او سابقا على سطح الكوكب الاحمر. وهذه المجسات كانت مخصصة لكشف تلك المركبات الكيميائية المصنعية البسيطة الكارهة للماء القابلة لمكاثرة نفسها في وسط مائي ثبت وجوده على المريخ ولكن لم نجد اثرا لها هناك حتى الان. مع اني لا استبعد ان تكون الحياة في عوالم وكواكب اخرى قائمة على ثنائية اخرى غير الماء والهيدروكاربونات مثل السليكون والميثان وحتى الحديد والكبريتات. ولكن لاننا لانعرف حياتا بهذه الكون غير حياتنا, هناك انحياز علمي واضح لفكرة تكرار نفس النموذج باماكن اخرى وليس نماذج مختلفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأقمار الصناعية تكشف ثكنات عسكرية للحوثيين تحت الأرض


.. مقابلة خاصة مع مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس




.. الأقمار الصناعية تكشف ثكنات عسكرية للحوثيين تحت الأرض


.. معهد العلوم السياسية بباريس يرفض مراجعة علاقاته مع الجامعات




.. قبَّل يد رجل الأعمال محمد أبو العينين.. الطبيب الشهير حسام م