الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة رجلٌ .. ونصف جسد

نواف خلف السنجاري

2005 / 12 / 28
الادب والفن


الجدران تتثاءب من الملل والضجر , السقف مليء بالشيب , الشيخوخة تعم المكان , على نفس السرير تمدد منذ عشرين عاماً حتى أصبح عالمه عبارة عن بضعة أمتار مربعة لم يخرج منها قط .. فانبرت ذاكرته تعيد له صباح ذلك اليوم عندما فاز ببطولة المدارس الابتدائية للساحة والميدان وقطع مسافة المائة متر كفهد صغير .. نظر إلى رجليه المشلولتين وهو لا يصدق انه مشى عليهما في يوم من الأيام .
لن ينسى إحراجه – وزهوه بعد ذلك - عندما جاء ( المطهرجي ) لختانه مع إخوته وأولاد عمه , وكيف تفاجئ بحجم ( ذكره ) مقارنة مع أقرانه الآخرين الذين كانوا بنفس عمره , فطلب ( المطهرجي ) حينها قدحاً اكبر من قدح الشاي الذي كان يعقم فيه أعضاء الأطفال الصغار .. يكاد يبكي دماً كلما نظر إلى عجزه كرجل , بعدما كان يفخر برجولته ويمشي كديك مغرور في أروقة الجامعة , يتباهى بشبابه وأناقته أمام أنظار الطالبات والمعجبات منهن .
تذكر مشاغباته أيام الدراسة الابتدائية ومقالبه التي لا تحصى في السفرات المدرسية وكذلك في المعسكرات الصيفية المزعجة التي كانت تفرضها عليهم السلطة بعد عناء عام دراسي لتحرمهم من الراحة التي كانوا يحلمون بها وهم يمرّغون بالتراب تحت سياط أشعة الشمس التموزية اللاهبة .. لم يتخلى عن مشاكساته حتى أمام الضباط في مركز التدريب العسكري القاسي الذي زُجّ فيه بعد تخرجه من الجامعة مباشرة ! ليتعلم فنون القتال بدلاً من تصميم نماذج للمباني التي كان يعشقها ويبدع في تخطيطها في المرسم التابع لكلية الهندسة المعمارية مع صديقته وجارته ( سلمى ) .. هناك قضى أحلى خمسة أعوام من حياته .
أكثر ما كان يرعبه ويقضّ مضجعه هو خوفه من أن يقتل ببندقيته إنسان في معركة لا يعرف فيها الخاسر من المنتصر .. لأنه آمن بغريزة الفنان الكامنة فيه بعبثية الحرب وعدم جدواها , واستمر في كرهه لها رغم انه كان جزءاً من تلك الآلة الجهنمية للموت والتي أقحم فيها عنوة .. فإما الحرب أو الإعدام رميا بالرصاص في الشارع المقابل للدار التي تسكنها وما أصعب الاختيار ! لم يعرف بأن نجاته من تلك الحرب ستكلفه كل ذلك الألم الرهيب .. وان عدم إيذاءه أي إنسان لن يشفع له في حرب ضروس لا تمّيز الأخضر من اليابس ولا الشاب من العجوز أو المرأة من الطفل .. كانت كلمات الطبيب في المستشفى العسكري ترن في ذاكرته دون أن يدرك معنى لأن تكون هناك شظية بحجم (حبة العدس) تضغط على الحبل الشوكي لعموده الفقري . فأصبحت تلك الشظية اللعينة الحد الفاصل بين مرحلتين من مراحل حياته , بين الإنسان ونصف الإنسان , بين العنفوان والحيوية والعطاء من جهة وبين السكون والعجز والذبول الذي يقطع أوصاله الآن من جهة أخرى .
لقد استطاع رغم كل شئ أن يحوّل رسوماته وتصاميمه الرائعة التي أرسلها لكبرى الشركات الهندسية إلى عمارات مذهلة , وحوّل ولعه بالأطفال الذين حرم منهم للأبد .. إلى مدن العاب مدهشة تزّين عواصم ومدن خارج حدود وطنه الذي أحبه لدرجة الجنون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع