الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العناقيد الدلالية بين العنوان ومضمون القصيدة في ديوان -هنا وطن - للشاعرة إيمان مصاروة

عمر عتيق
أستاذ جامعي

(Omar Ateeq)

2016 / 10 / 11
الادب والفن


العناقيد الدلالية بين العنوان ومضمون القصيدة
في ديوان "هنا وطن " للشاعرة إيمان مصاروة
د. عمر عتيق

يبدأ الفضاء السيميائي بالتشكل من العنوان الرئيس الذي يبدأ باسم الإشارة " هنا " الذي يدل على القرب في مستواه اللغوي المألوف ، وتعكس دلالة القرب في اسم الاشارة يقينا لا يرتقي إلى الشك ، وإيمانا لا يشوبه جدل بأن الوطن يسكن وجداننا ويجسد وجودنا ، ولهذا جاء اختار اسم الاشارة " هنا " بدلا من اسم الإشارة " هناك " أو " هنالك " الذي يحمل في حناياه البعد والشك والغربة والمسافات الجغرافية .
ويتوزع ديوان " هنا وطن " على خمسة وثلاثين عنوانا تشكل المفاصل الدلالية للوطن . ويتجلى التعالق بين العنوان الرئيس والعناوين الفرعية في شبكة من العلاقات الوجدانية والفكرية ؛ إذ إن العناوين الفرعية تجسد الجينات الدلالية التي يتخلق منها الوطن بتفاصيله الوطنية والعقائدية والتاريخية. وتشكل القصيدتان الأولى والثانية الدلالة النووية لعنوان الديوان ، لأنهما موسومتان بلفظ القدس ( القدسُ أمي - في القدس ) . ويتكرر لفظ القدس في عناوين قصائد أخرى ، ولكن القصيدتين المذكورتين تمثلان ذروة الدلالة السيميائية للعنوان الرئيس ، أما القصائد الأخرى فهي إضافات وإشراقات مكمبة لما ورد في حنايا القصيدتين الأولى والثانية .
يشكل العنوان الفرعي في القصيدة الأولى الموسوم بـ ( القدس أمي ) علاقة الأمومة بين القدس والوطن التي تُضمر بنية عقائدية سياسية تختزل جوهر الصراع على القدس ، فلا وطن بلا القدس ، ولا انفصام بين الابن وأمه! ويرسم المتن الشعري لهذه القصيدة الفضاء الديني للوطن كما يبدو في قول الشاعرة :
فالقدسُ وحيٌّ قد تَرتَلَ جُرحُها

نوراً يُضاهي الشَّمسَ حين تَزورُها
........
هي دوحة النساك إن ضاق الرجا
تُشفي قلوب الوجد حين تنيرها هنا وطن ص7-8
فالألفاظ الدينية ( الوحي والترتيل والنساك ) علامات سيميائية صغرى تجسد الفضاء الديني للقدس . وتنهض هذه العلامات السيميائية بوظيفة نفسية تُسهم في تعزيز الصمود والتعالى على الجراح ؛ إذ إن الوحي ترتيل للجرح ، وهذا التركيب الاستعاري يؤكد أن الصبر والتحمل جزء من العبادة ، وكذلك يعبر التركيب الاستعاري الذي يصور القدس دوحة للنساك عن الدلالة النفسية السابقة . وهذان التركيبان الاستعاريان اللذان يشتملان على العلامات السيميائية الصغرى يحولان القدس - الوطن المقدس من فضاء سيميائي عقائدي إلى فضاء دلالي مشبع بالمقاومة والصمود والثبات .
وتضيف القصيدة الثانية (في القدس) بعدا سيميائيا مفصليا ؛ لأنها تمثل الفضاء التاريخي للوطن ؛ فتستهل الشاعرة قصيدتها بالجذور التاريخية للوطن من خلال توظيف الاسم التاريخي للقدس "يبوس " في قولها :
في القدسِ يحتَفِلُ اليبوسِيونَ بالزيتونِ
يَقْتادونَ نورَ الشمسِ كي تَزهو مَعابِدُهُم
ويُهدونَ النَّسيمَ إلى عُيونِ الحُبِّ
يحتَفِلونَ في أرضِ السَّلامِ بِوردَةِ الدُّفْلى
وينطلقونَ للفجرِ البعيدْ ص9 -13
ولا يخفى أن الجمع بين "يبوس" والزيتون وأرض السلام والفجر تمثل عناقيد دلالية راسخة في الوعي الجماعي ؛ فالزيتون أضحى رمزا لوجودنا في الأرض ، وهو امتداد للحق التاريخي الذي يبدأ بوجود اليبوسيين . كما أن الجمع بين هذه العناقيد الدلالية يعبر عن العلاقة الرمزية بين غصن الزيتون وأرض السلام ، ومن البدهي أن تُفضي العناقيد الدلالية إلى الفجر المنشود .
واللافت أن العلاقة بين اسم الإشارة (هنا وطن) في العنوان واليبوسيين الموغلين في القدم هي علاقة توافقية على الرغم من التفاوت بين دلالة القرب في اسم الاشارة ودلالة البعد الزمني في لفظ " اليبوسيين " ؛ فالمكان ثابت وامتداد الزمن وتجدده لا يسلب الحق من أصحابه . ويأتي المقطع الثاني من القصيدة إضاءة سيميائية تاريخية جديدة حينما تعرض الشاعرة للعلاقة التاريخية بين الملك الفرعوني " إخناتون " وحاكم الكنعاني للقدس " عبدي حيبا" في قولها :
في القُدْسِ تَنْتَظِرُ القَبائِلُ عَرشَ إخناتونَ
تكتَشِفُ الصَّلابَةَ في حِرابِ البَدْوِ
والتاريخُ يَقرَأُ في سُطورِ العُنْفُوانِ قَصيدَةً
ويرى الإرادَةَ تَهْزِمُ الليلَ العَنيدْ ص9
تحيلنا هذه السطور إلى قراءة سيميائية دقيقة تكشف عن الرسائل التي أرسلها الحاكم الكنعاني إلى اخناتون طالبا منه نجدة عسكرية كما ورد في ألواح تل العمارنة التي تؤكد وجود ست رسائل من الحاكم الكنعاني إلى الملك الفرعوني . انظر : الماجدي، خزعل : تاريخ القدس القديم منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الاحتلال الروماني . ص 118
ويستمر الفضاء السيميائي التاريخي الذي يندغم مع الجذور التاريخية لعنوان الديوان حينما تعرض الشاعرة مشهدا من الحقبة البابلية في قولها :
في القُدسِ تَبْذُرُ سِحْرَها المَلَكِيَّ بابِلُ
والفُتُوَّةُ في حدائِقِها المُعَلَقَةِ العَجيبةِ
تَفتَحُ الدُنيا نَوافِذَها لِتلتَقِطَ الهَواءَ
وَتنْتَشي بِالحَرْفِ
تَضْحَكَ من جَديدْ
ها نَحنُ نركُضُ في شَوارِعِها ونشرَبُ مِنْ مَنابِعِها
ونَسْمَعُها تُرتِّلُ سُورَةَ العِشْقِ المَجيدْ ص10
يبدو المقطع السابق مفعما بالفرح من خلال السحر الملكي ، وجمال الحدائق المعلقة ، وتفتح النوافذ ، ونشوة الحرف واللغة ... والمرح وركض الأطفال ، ومن المؤكد أن القصيدة لا تصور فرحا بسبي اليهود إلى بابل ، بل ترسم فرح المكان الذي خلا من الغرباء . ومن البدهي أن تقفز دلالة عنوان الديوان إلى هذا السياق الدلالي المفعم بفرح القدس لتؤكد مرة جديدة أن الوطن "هنا" ، وأن الغرباء إلى زوال .
ويرصد المقطع التالي دلالات سيميائية مستمدة من المكان والإنسان ، لتصوير ثنائية الانتصار والانكسار في مطلع المقطع وفي نهايته في قول الشاعرة :
في القُدسِ شَيْخٌ ناسِكٌ يَدْعُونَهُ ((وادي جَهَنْم))
تُرهِفُ الأَسوارُ سَمعَاً حينَ يَشْرَحُ للسَّماءِ حِكايَةَ الميلادِ
والأّلَمِ الذي امتَزَجَت بِحُمرَتِهِ الحَضارَةُ والعِبادَةُ والرؤى
كُلُّ الدُّروبِ إليهِ شائِكَةُ الخُطى وتَتوهُ في عَثَراتِها
..............
يرْنو إلى وادي الربابةِ مِثْلَ نسرٍمُقْبِلٍ
مدَّ الجَناحَ بِزَهْوِه
وَرَوى الدِماءَ إلى أبي ثورٍ أَبي العباسِ يَقْتَبِسُ الشَّذا
ويقولُ: إني قادِمٌ للمُسْتَحيل ص 10-11
يشير السطر الأول إلى " واد جهنم " ، ومن المفيد التنبيه إلى أن هذا الواد ليس وادي جهنم الموجود في لبنان والمعروف بوادي " كفر حتى " وليس وادي جهنم الموجود في ريف طرطوس السورية كما تشير بعض المصادر الجغرافيا ؛ لأن سياق القصيدة فلسطيني . واستئناسا بهذا التنبيه فإن واد جهنم في القصيدة هو المعروف باسم واد النار الذي يعد أشهر أودية القدس . وقد عمدت الشاعرة إلى إسقاط خطورة انحدار الواد ، ومعاناة السائرين فيه على حال القدس في العهد الصليبي بدليل أن نهاية المقطع تشير من بعيد إلى تحرير القدس زمن صلاح الدين ، إذ إن أبا ثور في نهاية المقطع يعني جبل الثوري في القدس الذي سمي باسم المجاهد أحمد بن عبد الجبار القرشي أحد قواد صلاح الدين الأيوبي ، والمشهور بالثوري ؛لأنه – كما تقول الرواية – كان يركب ثورا ، كما أن متن القصيدة يقدم دليلا آخر وهو أن أبا ثور من جبل المكبر الذي ورد في القصيدة في قول الشاعرة : "
بِجِراحِ شعبٍ صيَّرَ الصَّبرَ الجَميلَ لِزادِها
كالعُشْبِ في جَبَلِ المُكَبِّرِ يحتَفي بالغَيْمِ
يَلْبَسُ حُمرةَ الآهاتِ رُغْمَ سُقوطِ بَعضِ حُروفِهِ
في هُوَةِ المَعنى
ويمثل المقطع قبل الأخير من القصيدة معلما سيميائيا في تاريخ الوطن حينما ترصد الشاعرة مشاهد النصر والعنفوان في العهد المملوكي في قولها :
في القُدْسِ يَبْرُزُ مُشْرِقاً صَقْرُ المَماليكِ البَهيُّ
فَينتَشي سِرْبُ الحَمامِ مُرفرِفاً
يُهْدي المَحبَّةَ لِلكَبيرِ وَلِلصغيرِ ولِلقريبِ ولِلبعيدِ
لِأَنَهُ مَلِكُ السَّلامْ ص11
ويحدث انزياح حاد مفاجئ يكسر رتابة التوقع لدى المتلقي حينما يبدأ نزيف القدس في قول الشاعرة :
تُربَةٌ حمراءُ من عَبَقِ الرحيلِ ومن وَصايا الأنبياء
الآنَ تزدَحِمُ المَشاعِرُ حَوْلَ مَسجِدِها الأَسيرِ
وينهَضُ العُشاقُ في حاراتها
وَتَظلُّ كالخَنساءِ تبْتَكِرُ الشَّجاعَةَ في الصَباحِ
وفي المَساء ص11-12








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا