الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوابيس تأتي في حزيران 19 / 20

محمد أيوب

2005 / 12 / 29
الادب والفن


قروان ع الباب ، صاح السجان فامتدت القروانات من تحت أبواب الزنازين ، قام أحمد الفايز بصمت وتناول أوعية الطعام الخاصة به وتلك الخاصة بالرجل ولم يتكلم ، تمدد الصمت ثقيلا طويلا معتما بينهما فلا أحاديث متبادلة ولا نظرات متقابلة ، كلما وجه نظراته نحو الرجل أشاح بوجهه بعيداً نحو الجدار الآخر.. ترى أهو خائف ؟ أم أنه يخفي أمراً ما ؟ وما هو هذا الأمر الذي يخفيه إن كان يخفي أمراً ليس من حقي أن أسأله عما في نفسه .. وليس أفضل من أن يلتزم الصمت ، وبعد أن تناولا طعام الإفطار المكون من أربع حبات من الزيتون المطعم برائحة الثوم وبيضة وملعقة مربى صغيرة لكل منهما دون أن يتبادلا كلمة واحدة جاء موعد الفسحة ، انفتحت الأبواب الواحد تلو الآخر إلى أن جاءهما الدور ، حمل أحمد الفايز الجردلين بيديه وطلب من الرجل أن يحمل الصحون وتوجها إلى الحمامات ، قام أحمد الفايز بغسل الصحون بالماء والصابون وقلبها فوق بعضها لتصفية ما علق بها من ماء وكذلك غسل الأكواب ، سكب ما تبقى من ماء الشرب من جردل الشرب وملأه من جديد وأمسك بعد ذلك بجردل البول فسكب ما فيه من بول وشطفه بالماء والصابون لكسر حدة رائحة البول ، فعل كل ذلك بسرعة كبيرة حتى لا تفر منه الدقائق القليلة جدا والمحددة للفسحة ، كانت فترة الفسحة لا تزيد عن ثلاث دقائق، دخل دورة المياه وأبقى الباب مفتوحاً بينما وقف السجان في مواجهته شاهراً سلاحه ، في البداية كان أحمد الفايز يذوب خجلاً ، فمنذ أن بلغ العاشرة من عمره لم يخلع ملابسه ولم يتعر أمام أي إنسان كائناً من كان ، ولكنه اعتاد أن يفعلها أمام السجان مهما تغير السجانون ، فلا يمكن للحياة أن تستمر دون أن يقضي الإنسان حاجته ، أخذ يفك أزرار بنطاله التي تقطع معظمها مما أجبره على ربط كمر البنطال برباط حذائه حتى لا يتخلى عن وسطه هبوطاً نحو قدميه ، قرفص فانكشفت عورته ، لم يجهده العرق كما كان يحدث في بداية اعتقاله ، ليسمع هذا السمج ما يخرج منه من ريح وليتمتع به ، يبدو أن الإنسان ينسلخ عن إنسانيته حين يصبح سجاناً ، فعلها بسرعة ونظف نفسه بالماء ، رفع البنطال بسرعة فائقة ، حاول السجان منعه من غسل يديه بحجة أن الوقت المحدد انتهى ، تشبث بحقه في غسل يديه من أثر الغائط فوكزه السجان بعصاه الناعمة الغليظة وتركه للحظات يغسل يديه ، توجها نحو الزنزانة بينما اختلط ظل السجان بظليهما إلى أن افترق ظله متجها إلى الناحية المعاكسة وانصفق الباب خلفهما بوقاحة قائلا : تراك ، وتردد الصدى من عند الحمامات ومن أرجاء الباحة الخارجية ، تسربت ريح باردة من الكوة وهمس المطر في الخارج فسرت قشعريرة مشوبة بالبرودة والانتعاش في جسده .. ما زالت الدنيا بألف خير.
وفي فترة الضحى تقدم صوت المفاتيح نحو باب الزنزانة ، لامس القفل فانفتح الباب ، نادى السجان:
صالح عبد الرحمن فتحرك حركة متثاقلة وقال : نعم ، جذبه الجندي بخشونة وهو يرطن بعبارات التهديد والوعيد ، غاب الرجل فترة ليست طويلة ولكنها ليست قصيرة ، لكن أحمد الفايز ظنها دهراً ، كان ينتظر عودة الرجل على أحر من الجمر يريد أن يعرف كنه الرجل ، ولما عاد بدا طبيعياً ولكنه قال :
ـ الله يخرب بيوتهم .. لقد أتعبوني ، صلبوني على الجدار فترة طويلة وبعد ذلك دوخوني بالأسئلة ، تصور أنهم يتهمونني بالتعامل مع المخابرات المصرية وأن لدي جهاز لاسلكي ضخم أخابر به المصريين ، ولا يهمك .. قال أحمد الفايز بارتياح ، وطافت على شفتيه ابتسامة وليدة حاول أن يكبتها في مهدها .. الرجل قريب منا .. نحن ناصريون نحب عبد الناصر إلى حد التقديس وهو يعمل لحساب المخابرات المصرية ويستحق مني كل مساعدة، ومع ذلك آثر أحمد الفايز الصمت وعدم التعليق فهو صموت بطبيعته ، وفي منتصف النهار طاف صوت السجان في الممر بين الزنازين : قروان ع الباب فاصطفت القروانات دون تردد لتعود وفيها سائل يشبه عصير البندورة تسبح فيه بضع حبيبات من الفاصوليا وقطعة صغيرة كأنها من اللحم ، وربع رغيف من الفينو ، تناولا طعام الغداء وحاول أحمد الفايز أن ينام ، طارده صوت السجان : أحمد الفايز وأطل وجه السجان من فتحة في باب الزنزانة ، واقترب صوت المفاتيح من القفل فانفتح ، جره من ساعده بغلظة وتمتم : خبلان (مخرب ) ، اقتاد إلى مكتب التحقيق .. وجد الضابط الذي حقق معه في المرات السابقة وإلى يساره يجلس ضابط قميئ ذو لهجة مصرية ، حاول أن يكون لطيفا فابتسم .. أهلاً أحمد الفايز ، أنا الكابتن شيمون ، ليسانس لغة عربية من جامعة الإسكندرية ، هربت من مصر ووصلت إسرائيل قبل الحرب ، يا سلام لو أزور بلاج اسكندرية ، ما علينا ، خلينا في موضوعنا ... أي موضوع يا ابن اللئيمة ؟ .. إحنا بيننا مواضيع ؟ دعه يكشف ما عنده يا أحمد ، ابتسم أحمد الفايز ابتسامة عريضة فاعتقد كابتن شيمون أنه حاز على ثقته وأنه أصبح طوع بنانه ، قال : أحمد.. إحنا أصحاب ..على فكرة .. الميجر يودي حكى لي عنك وقال لي إنك إنسان مثقف وأنا بحب المثقفين .. قرأت لأبي تمام والبحتري والرصافي والمتنبي كما درست الإسلام والمذاهب الإسلامية .. حبيبي .. كل المطلوب منك إنك تكون صريح مش أكتر ولا أقل ، ما بدنا نعاقبك أو نعاقب غيرك .. المطلوب إنك تساعد نفسك وتساعد الناس ، إحنا بدنا نحميكم من المخربين .. أظن أنك لا تؤيد العمليات التخريبية .. أنت واحد كويس كتير يا حبيبي ، وعلشان كده أنا بدي أجيب واحد لهون والمطلوب منك إنك تقول إن كنت بتعرفه ولا لأ .. أظن ده مش صعب عليك .. ماشي الحال ، قال أحمد الفايز واتسعت ابتسامته .. جدي بدو يلعب على تيس ، لما نشوف، داس على جرس في الجدار خلف المكتب فاندفع السجان بسرعة ، كتب بضع كلمات على ورقة وناوله إياها ، استدار الجندي وهو يسرع الخطى وعاد بعد لحظات ومعه أبو العز، أمره الضابط بالجلوس أمام أحمد الفايز وفي مواجهته ، زاغت نظرات أبي العز وجاهد ألا تلتقي نظرتاهما ، سأله الضابط : هل تعرف هذا الرجل؟ تظاهر أحمد الفايز بأنه يدقق في ملامح الرجل وأعاد النظر عدة مرات وقال بحزم: لا أظن أنني رأيته من قبل ، انطفأت ابتسامة الظفر التي ارتسمت على وجه الضابط وتجلل وجهه بعبوس مفاجئ فأمر الجندي أن يخرج أبا العز من المكتب ، وبعد خروجه حاول الضابط أن يستعيد ابتسامته دون جدوى ، قال : وحياة شرف إسرائيل أنك إذا قلت إنك بتعرفه غير تروح البيت .. وأنا وحياة شرف الله إني لو بعرفه لأقول بعرفه ويغور في ستين داهية وتعمد أن يرفع صوته ليسمع أبا العز ، نادى الضابط على الجندي وطلب منه أن يخرج أحمد الفايز وأن يدخل أبا العز ، أدار الجندي وجه أحمد نحو الجدار غير بعيد عن المكتب، جاءه صوت حازم : والله لو كنت أعرفه لأخبرتكم لأنني لن أخسر شيئا، اقتادهما الجندي إلى الزنازين ، وجد صالح عبد الرحمن في انتظاره ، بدا له أنه قلق فحاول أن يطمئنه ، قال صالح : قلقت عليك .. لماذا تأخرت ؟
ـ أنت عارف التحقيق وطوابق التحقيق ، سين وجيم .
ـ يا ترى إيش سألوك وليش طوّلت ؟
ـ أحضروا لي واحد وسألوني عنه .
ـ وإيش قلت لهم ؟
ـ قلت لهم بعرفوش .
ـ لكن الحقيقة ، أنت بتعرفه ولا لأ ؟
بتسرع ونزق : طبعاً بعرفه ، لكن لو قطعوا من لحمي والله ما بقول إني بعرفه .
ولدت ابتسامة صغيرة على شفتي صالح عبد الرحمن ما لبثت أن اتسعت ، ولم يفطن أحمد الفايز إلى أنه تصرف تصرفاً يفتقر إلى الحصافة وسداد الرأي ، كاد أن يحدثه بفخر عن بطولات المجموعات التي يقودها لكنه أجل ذلك إلى جولة قادمة ، فما دام الرجل عاملا مع المخابرات المصرية فهو منا وإلينا ولا ضير في أن يطلع على جزء من نشاطاتنا ، وعندما وضع رأسه على حذائه المخدة انتابته الوساوس والأفكار .. ماذا لو كان الرجل كاذباً ولا علاقة له بالمخابرات المصرية ؟ هل يعقل أن يكذب ؟ ولماذا يكذب؟ وهل يعمل لحساب اليهود ؟ غير معقول ، من المستحيل أن يسجن اليهود عملاءهم ، ثم إنه لم تمض مدة طويلة على بداية الاحتلال ولا يعقل أن يكون لديهم عملاء في غزة أو سيناء ، وبينما هو يغالب أفكاره وتغالبه والنوم يحلق فوق جفنيه جاءه صوت اختطف النعاس من عينيه ، حواء تنبعث من الماضي السحيق ، صوت أنثوي يدغدغ مشاعره ، ينتصب خنجره شراعا لسفينة مضطربة ، غنج المجندات يستفز كل عضلة في جسده ، شوقه إلى نصفه الآخر يعذبه ، توتر ، عضلات تنشد ولا ترتخي ، مزيد من التوتر ، تأودات .. تنهدات ، ضحك ، قهقهات ، كأنهن يتعمدن استثارة غرائزه ، هل يفعلها ، امتدت يده اليسرى نحو خنجره تريد مداعبته ، خجل من نفسه فتراجعت يده .. إذا لم أصمد إزاء صوت غنوج ، فماذا أفعل لو رأيت إحداهن بشحمها ولحمها أمامي ؟ هل أتلاشى وأذوب في رغبتي ؟ وهل تصرعني غريزتي ؟ لهاث .. لهاث .. لهاث ، توتر، تصلب ، حرارة ، رغبات جامحة، اعتصر غطاءه بعنف ، تراخت يده ، حواء هي الشيطان عينه ، أخرجت أبانا آدم من الجنة وتريدني أن أتحطم في جحيم السجن ، لا ، لن أضعف ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم .. الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم .... واستمر يردد آية الكرسي في سره حتى غلبه النوم فنام ، جاءته زوجته ، احتضنتها رغباته الجامحة ، لكنه كان حنوناً .. لا ترتموا على نسائكم كالبهائم ، ذاب في أحشائها ، نهر عظيم من اللذة يتدفق إلى مصبه فيذوبان في بوتقة أزلية أبدية ، ولما استيقظ وجد يديه تقبضان السراب بينما كانت ملابسه مبتلة ، شعر بالضيق ، كان ذلك حلماً إذن ، حلم ، احتلام ، كابوس.. سيان ، تساوت الأمور ، انقبضت نفسه ، قروان ع الباب ، صحون ، زيتون ، شريحة الزبد ، حبات الزيتون ، الفسحة ، البنطال المربوط بقيطان حذائه ، الجندي يراقب عورته أثناء قضائه للحاجة ، العودة إلى الزنزانة ، تراك وينغلق الباب ، وفي حوالي الساعة العاشرة صباحاً انشق سكون الزنازين عن صوت يناديه باسمه : أحمد الفايز ، نهض واقفاً ، بينما ولج المفتاح في فتحة القفل وزيزأ الباب .. زي ، وانكشف عن جنديين من الشرطة العسكرية طويلين ، رفع أحمد الفايز رأسه لينظر إليهما بينما رفع أحدهما الفوطة عن كتفيه وألقى بها بعيداً واقتاده الثاني من كتفه الأيسر ، وعاد باب الزنزانة إلى وضعه الطبيعي .. تراك ، وضع الجندي ـ الذي رمى الفوطة بعيداً ـ الأساور الحديدية حول معصميه وشدهما بمفتاح صغير ، وقام الثاني بوضع غطاء من القماش السميك حول عينيه ، ولم يدر بعد ذلك من الذي وضع الأساور الحديدية أسفل الساق فوق القدمين ووصل زوجي الأساور في اليدين والقدمين بسلسلة سميكة ذكرته بتلك التي شاهدها أول دخوله السجن ، فقد شاهد رجلاً أسود يلبس بدلة حمراء يسير في الممر بين الزنازين وقدماه مقيدتان بأساور حديدية سميكة يصعد منها جنزير إلى أعلى ، ظل يشاهد هذا المنظر عدة أيام من المسافة التي تفصل بين الباب وأرضية الزنزانة ، ثم لم يعد يشاهد هذا المنظر ، لم يكن يعرف سر الرجل ولا سر البدلة الحمراء، كل ما كان يعرفه أن إسرائيل لا تصدر أحكاماً بالإعدام ولا تطبق حكم الإعدام إن صدر ، وعند إحدى البوابات جاءه صوت أكورديون يعزف لحناً ما ، قال له أحد الجنديين : سامع .. موسيقى علشانك .
ـ موسيقى علشاني ؟ لماذا ؟ وهل اكتشفوا يستحق الموسيقى ؟ يا إلهي .. هل عثروا على مخزن السلاح ؟ أم أن أحدا اعترف بما أنكره هو ، واكتشف فجأة أنه ليس وحيدا ، أخبرته بذلك خشخشة الجنازير والأصفاد ، أمرهم الجنود بالصعود إلى سيارة كانت في انتظارهم، جلس المعتقلون الثلاثة متجاورين ، ربط الجنود اليد اليسرى لأحمد الفايز باليد اليمنى لجاره وكذلك فعلوا برجله اليسرى ، خرجت السيارة بهم من الباب الشمالي للسرايا ثم اتجهت يساراً إلى الغرب فيساراً إلى الجنوب ويساراً إلى الشرق ، تسلل شعاع من الشمس إلى عين أحمد الفايز من تحت العصبة ثم أفلتت الاتجاهات من أحمد الفايز ، أصوات سائقي سيارات الأجرة تأتيه عن قرب .. خان يونس .. رفح ..العريش ، وأخذت الأصوات تبتعد شيئاً فشيئاً لتحل محلها أصوات صبية يتشاتمون ثم تلاشت الأصوات العربية فجأة والتف المكان بعباءة الغربة السوداء ، توقفت السيارة ودار حديث بين الجنود من السيارة وثلة من الجنود على الأرض لم يتبين من كلامهم الذي تسرب إلى أذنه سوى كلمة واحدة : لهروج " للقتل " ، لم يفهم ما دار بعد ذلك من حديث ، فقد دارت الدنيا به واعتقد أنهم يحفرون حفرة لدفنهم فيها بعد إطلاق النار عليهم ، حرك سبابتيه مردداً الشهادتين : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، ولكن السيارة انطلقت دون أن يطلق أحد عليهم النيران.. إذن سيطلقون النار علينا في مكانٍ آخر، لأهيئ نفسي لمعانقة الموت بنفسٍ راضيةٍ مرضية ، صعدت السيارة فوق جسر شعر بأنه أضيق مما يجب ، هل نحن في طريقنا إلى خان يونس ، اختلطت الاتجاهات ، لم يسمع أية أصوات عربية ، ليس ثمة إلا السكون وصوت عجلات السيارة يطوي الطريق تحته بسرعة جنونية ، وانعطفت السيارة إلى جهة ما فجأر فراملها غاضباً وتصاعدت رائحة الكاوتشوك، قذفتهم السيارة خارجها كمن يتقيأ شيئا يتعب معدته ، ارتطموا بالأرض سوياً ففك الجنود الأساور التي تجمع ثلاثتهم معاً ، اقتادته يد غريبة ، وبعد فترة انتظار خاطبه صوت ذو لكنة غريبة : أنت رقمك هون شلوش شلوش تيشع (339) .
ـ فين ؟
ـ في هذا المكان .
غاب الصوت ذو اللكنة الغريبة فانطلقت صلية من الرصاص بددت السكون الذي خلفه الصوت المتلاشي ، اعتقد أحمد الفايز أن رفيقيه قد أعدما وأن الدور سيصله بعد لحظات ، انفصلت سبابتاه عن بقية أصابعه وتحركتا إلى أعلى وإلى أسفل ولسانه يردد الشهادتين ، وبدأ شريط الذكريات يدور بسرعة رهيبة ، طافت بمخيلته صورة والده .. سنلتقي بعد قليل يا والدي فلا تحزن ، وجاءته صورة أمه .. ابني عيان يا خواجة ، ما بتحمّل البرد ، زوجته تبتسم .. كل شيء تمام .. اخرسي .. آه يا زوجتي العزيزة .. وداعا ستتحقق الرؤيا ولن أرى ابني ، إن وصلك خبر موتي فلا تحزني ، أرجوك أن تسمي ابني أحمد وأرجو الله أن يفوز بما لم أفز به ، ستفر الحياة من عروقي بعد قليلي فإلى اللقاء في جنة الخلد يا أحبائي ، ولكنه لم يقع أرضاً ولم تفر الحياة من ثقوب يتركها الرصاص في جسده بل اقتاده جندي إلى غرفة واسعة يوجد فيها مقعد طويل أشبه بتلك المقاعد التي كانوا يجلسون عليها لتلقي العلم في بداية الهجرة من فلسطين أيام كانوا يدرسون في الخيام ويحمل كل واحدٍ منهم لوحاً أسود صغيراً ، طلب منه أحد الضباط أن يصعد فوق المقعد المستطيل فصعد ، فك الجندي الأصفاد الحديدية من يديه وصعد إلى جانبه فوق المقعد ورفع كلتي يديه إلى أعلى وأدخل فردة من الأصفاد داخل إطار حديدي لشباك ضيق بحيث تمر فوق قضيب يتوسط ذلك الإطار وبعد ذلك أدخل يده اليسرى مرة ثانية فيها وأغلق القفل من جديد .
أصبحت يدا أحمد الفايز مرفوعتان إلى أعلى ومعلقتان في ذلك القضيب الذي يتوسط إطار الشباك المعدني فتركه الضباط والجنود وأغلقوا الغرفة ، أخذ أحمد الفايز يتفقد المكان ، أرسل نظرة عبر النافذة الضيقة فرأى نباتات تشبه القمح أو الشعير بائنة الطول لم ير نباتات في مثل طولها من قبل ، لابد أنني موجود داخل إسرائيل ، كنت أعتقد أنهم اتجهوا بي نحو الجنوب فإذا بي أجد نفسي في الشمال ، نظر إلى يديه المعلقتين بالشباك .. سأله الضابط : هل تعرف أبو العز ؟
ـ لا. لا أعرفه .
ـ أين يوجد مخزن الأسلحة المسجل على اسمك ؟
ـ ليس اسمي ولا يلزمني السلاح في شيء .
ـ إذا لم تتكلم فإنني أعرف كيف أحل عقدة لسانك .. سأجهض زوجتك وأحرمك من رؤية ابنك .
ـ افعل ما تشاء .
ـ وسأقطع جهازك التناسلي .
ـ اقطعه فلا حاجة لي به .
ـ لن تصلح بعد ذلك لمعاشرة النساء .
ـ لا بأس في ذلك .
ـ إذن خذ .
وساطه بكرباج فوق الجزء الأسفل من بطنه تحت السرة وفوق عضوه الذكري ، واستمر يضربه بغيظ وحنق ، وبعد فترة توقف عن الضرب وقال كلمات مقتضبة فقام الجندي بسحب المقعد من تحته فهوى إلى أسفل بينما جذبته الأصفاد بقسوة إلى أعلى ، اندفع الألم من رسغيه إلى قمة رأسه ، حاول أن يستند بقدميه إلى الجدار عسى أن يجد مرتكزاً يخفف من آلامه ، ولكنه كلما تحرك ازداد ألماً فتوقف عن الحركة ولكن الألم لم يتوقف، قال للضابط : سأخبرك بما تريد .
ابتسم الضابط ابتسامة الظفر وقال للجندي : ضع المقعد تحت قدميه . فوضعه .
ـ ها .. تكلم . ونظر إلى المقعد نظرة ذات مغزى .
ـ لا أستطيع الكلام قبل أن ألتقط أنفاسي .
ـ ماذا تعرف عن " أبو العز "
لماذا كل هذا التركيز على " أبو العز " ؟ هل يعقل أن يكون العرايشي " نسبة إلى العريش" قد أبلغهم أنني أعرف أبا العز ، يبدو أنني أخطأت عندما وثقت به وبحت له بما كان يجب أن أكتمه، لا أعرفه قال للضابط .
ـ وأين مخزن السلاح ؟
ـ لا أعرف ولا أهتم بالسلاح .
ـ سأجعلك تعرف . وأشار إلى الجندي فسحب المقعد من تحت قدميه ، هوى إلى الأسفل فشده الألم إلى أعلى ، تجمع الألم في مركز رأسه من أعلى ، رسغاه يكادان أن يتحطما بينما أخذ الخدر يسري في راحتي يديه .
ـ هل تعرف " أبو العز "
ـ لا أعرفه .
ـ سأجعلك تعرفه . وساطه بالكرباج .
هل أستمر في السكوت ؟ وإلى متى ؟ وماذا لو تكلمت ؟ هل يمكن أن يتركوني وشأني أم أنهم سيطلبون المزيد ، وماذا سيكون مصيرنا ومصير بيوتنا ؟ هل يدمرونها كما دمروا البيوت الستة ؟ وكيف سيكون موقفي مع نفسي ؟ لأصمد قليلا فقد يتركونني ، لا يعقل أن يستمر هذا الأصفر في تعذيبي إلى الأبد ، لابد أن أحافظ على نفسي وبيتي ، سأقول لك ما تريد . قال أحمد الفايز ، فأمر الضابط الجندي أن يضع المقعد تحت قدميه ، وقال له :
ـ أريد منك أن تقول ما تعرفه لا ما أريده .
حاول أحمد الفايز أن يكسب الوقت كي يتمكن من التقاط أنفاسه :
ـ سأقول لك ما تريد أن أقوله .
ـ ماذا تعرف عن أبو العز ؟
ـ لا أعرف شيئاً .
ـ أين مخزن الأسلحة المسجل باسمك ؟
ـ لا أعرف .
ـ لا تعرف . لا تعرف ، سأجعلك تعرف رغماً عن أنفك.
تركه الضابط والجنود بعد أن أبقوا المقعد تحت قدميه ، أقفلوا الباب بهدوء وخرجوا ، بقي وحيداً مع أفكاره .. هل يعتقدون أنهم حين يشبحونني بهذه الطريقة يجبرونني على الإفضاء بما لا أريد ، كاد يتلفظ بتلك الأفكار بصوت مسموع ولكن شيئاً منعه من ذلك رغم أنه لم يلاحظ وجود ذلك الجهاز الذي يشبه الراديو والموضوع فوق طاولة موجودة في الغرفة بلا مبالاة ، قال بصوت مسموع ولم يكن يعلم أن الجهاز ينقل كل همسة إلى غرفة مجاورة يجلس فيها من يراقب حتى أنفاسه : الله يخرب بيتك يا إسرائيل ، أي هو أنا بنفع للعمل العسكري .. أي دوروا لكم عن تهمة صغيرة خليني أقولكم نعم وأخلص ...
عاد الضابط والحراس بعد فترة ، كان الضابط يبتسم ومع ذلك لم تخف صفرة وجهه ، طلب من الجندي أن يفكه ففعل وأنزله عن المقعد ، طلب منه الضابط أن يجلس على كرسي موجود في مواجهة الضابط أمام الطاولة التي عليها الجهاز، وعلى الطاولة شاف أبيض من البلاستيك به قليل من الماء الذي تطفو على وجهه بعض حشرات البعوض التي يبدو أنها ميتة ، طلب من الضبط أن يشرب فقدم له الشاف ، نظر إلى الماء فرأى البعوضات العائمات ومع ذلك أغمض عينيه وزم شفتيه وشرب ، لم ينطفئ عطشه ولكنه بل ريقه، قال الضابط : أنت إنسان متعلم ولا يجوز أن نعاملك معاملة الجهلة والأميين ، لا أريد منك شيئاً ، فقط سأحضر لك خريطة فيها صور بعض الأسلحة والمطلوب منك أن تشير بإصبعك فقط إلى الأسلحة التي تعرفها وبعد ذلك تذهب إلى غرفتك وتستريح .
لم يجبه أحمد الفايز فقام الضابط وأحضر الخريطة وقال : ها .. أعتقد أن الأمر ليس صعباً ، آن لك أن تستريح ، ودون أن ينبس ببنت شفة أشار أحمد الفايز إلى صورة البندقية 303 ، تهللت أسارير الضابط وقال : أين رأيتها ؟ فقال أحمد الفايز : مع رجال الشرطة في زمن المصريين .
كظم الضابط غيظه : وما الأسلحة التي تعرفها غيرها ؟
أشار أحمد الفايز إلى مسدس نمرة 6 دون أن يتكلم فقال الضابط : أين رأيته ؟
ـ مع رجال الشرطة .
قال الضابط بحنق : .. إمك على إم رجال الشرطة يا ابن ال .....، ونادى على الجندي : كاخ إت هكيلف هزه لحيدر.( خذ هذا الكلب إلى الغرفة)
أخذه الجندي بعد أن عصب عينيه ، ودار به عدة دورات في مكان محدود كما اعتقد أحمد الفايز ، فتح الجندي باباً وعلى بعد خطوتين أو ثلاث خطوات فتح باباً آخر ، شم أحمد الفايز رائحة زنخة اعتقد أنها رائحة كلب يستخدمونه لتعذيب المعتقلين ، فكر في طريقة ناجعة لمقاومة هذا الكلب فيما لو أطلقوه عليه ، وراء الباب الآخر كانت زنزانة ضيقة ، أدرك أحمد الفايز ذلك من ملامسته لجدرانها ، أغلق الجندي الباب وتركه وحيدا فرفع العصبة عن عينيه ونظر من أسفل الباب فرأى رجلا اصفرّ وجهه وهو ملقى بين الموت والحياة ، وقف شعر رأسه .. هل يعقل أن أنتظر حتى أصبح مثل هذا الرجل ، لا بد من التفكير في طريقة للهرب من هذه الزنزانة ، ونظر ، وجد زنزانة مربعة لا يزيد طول ضلعها عن 80 سنتيمتراً وفي الطرف المواجه للباب مجرى مغلق ملئ ببول ازرّق لونه من طول مكوثه في المجرى ، تلفت إلى السماء بضيق .. صليت لك يا رب وكتبت آياتك على جدران زنزانتي لتفرجها على ، أطلقت الكثير من الدعوات من قلب مخلص وبدلاً من مساعدتي استبدلت الزنزانة الواسعة بهذه الزنزانة الضيقة والزنخة ، كيف يمكنني أن أنام في هذا المربع الضيق ؟ هل أنام واقفا كما ينام الحمار والجندي ، كل مخلوقات الله تنام نوما طبيعيا إلا الجندي والحمار اللذين يستطيعان النوم واقفين أثناء الخدمة ، أقسم أنني لن أصلي لك .
انفتح باب الزنزانة عن صينية فوق يدي جندي وعليها كمية من الطعام تزيد عن حاجته ، اعتقد أنها لوجبة العشاء ، كمية كبيرة من الأرز وصحن بازلاء وحوالي ربع دجاجة وكوب لبن وفنجان قهوة صغيرٌ مملوءاً بالماء ، نظر إلى الطعام وفي نفسه شوق إليه ، لم يشاهد طعاماً كهذا طيلة فترة اعتقاله التي تجاوزت العشرين يوما بل اقتربت من الشهر ، امتدت يده نحو الصينية ولكنها تراجعت .. لو تناولت هذا الطعام فأين سأقضي الحاجة ومن أين لي بالماء الذي سأحتاجه إن تناولت هذه الكمية .. هل يريدون ابتزازي مقابل الماء الذي قد يحضرونه وقد لا يحضرونه لي ، لا بد من الاكتفاء بكوب اللبن وكمية الماء الموجودة في الفنجان حتى لا أعطش ولا أتبرز هنا ، أعتقد أنهم لا يسمحون بالخروج من هذا المكان إلا للتحقيق ووجود البول الأزرق ذي الرائحة الكريهة يؤكد ذلك، وبعد حوالي ساعة أو أكثر سمع صوت مفاتيح تعالج الباب الخارجي الذي انفتح أمام وقع أقدام على الأرض تتقدم ببطء نحو باب زنزانته الضيق ، تتقدم المفاتيح نحو الباب الذي انشق عن وجه جندي عابس يحمل بطانية واحدة ، نظر الجندي إليه بغضب : لماذا أنزلت العصبة عن عينيك أيها الكلب ؟ لم يجب فدفعه بحذائه : قلت لك لماذا رفعت العصبة عن عينيك ؟
ـ لم أرفعها ولكنها سقطت وحدها .
ـ سأربطها ثانية وإياك أن تفكها مرة ثانية .
ـ بإمكانك أن تثبتها جيداً حتى لا تفلت .
قام الجندي بربط قطعة القماش بشدة على عينيه ، لقد أصبح من السهل على أحمد الفايز أن يرفعها قليلا عن عينيه وينظر من تحت الباب فإذا سمع صوت المفاتيح في الباب الخارجي أعادها إلى وضعها العادي فلا يكتشف السجانون أنه يحركها من مكانها ، نظر الجندي إلى الطعام فوجده كما هو، سأله : لماذا لم تأكل كل الطعام ؟
ـ ليست لدي رغبة .
ـ وهل تعتقد أن الأمور هنا تسير حسب رغباتك ؟ إذا لم تأكل الطعام كله فسأعلمك كيف تأكل ، ولكمه لكمة قوية أصابت فكه الأسفل ، وقذف عليه البطانية قائلا : خذ هذه لتنام .
كيف يمكن للإنسان أن ينام في مثل هذا المربع النتن ؟ إن نمت واقفاً فقد أسقط وأرتطم بالجدران ، وإن جلست ونمت فإن القيود التي تحيط بمعصميّ وقدميّ ستعيق حركتي بسبب الجنزير الذي يصل بين أصفاد اليدين والقدمين ولا يزيد طوله عن خمسين أو ستين سنتيمتراً ، أمسك البطانية وألقى بها فوق بطنه حتى لا يصاب بالإسهال بسبب برد فبراير، ومن شدة التعب غلبه النوم فنام ، وأثناء نومه امتدت ساقاه قليلا فانغمست أطراف بنطاله في البول الأزرق وتشبعتا به ، وفي الصباح عندما استيقظ وجد أن رائحته قد أصبحت مثل رائحة تيوس الغنم فبصق بتأفف .
ولما جاءه طعام الإفطار لم تكن لديه رغبة في الأكل ، الرائحة الكريهة تلاحقه دون توقف أو رحمة، ومنظر ذلك السجين بين الحياة والموت يقض مضاجعه .. هل سيكون مصيري نفس المصير ، وهل أرقد عاجزاً عن الحركة ، وعند ظهر يوم الثلاثاء سمع مجموعة من الجنود يتراطنون ، فهم من كلامهم أنه تقرر نقل هذا السجين إلى المستشفى فبات المكان خالياً وموحشاً ، كان وجود هذا السجين بين الحياة والموت يؤنس وحدته ويشعره أنه ما زال هناك رجال يقاومون الاحتلال ، وقد كانت مفاجأته كبيرة بعد أن فهم أن الرجل من عرب 1948 ، هؤلاء الذين اعتقد الجميع أنهم تهودوا ، ها هم يقاومون الاحتلال معنا ، بل ربما سبقونا في ذلك .. ما زالت الدنيا بخير وما زال شعبنا بألف خير، وبين الظهر والعصر جاءه سجان أبيض البشرة طويل القامة ، فتح باب زنزانته وطلب منه الخروج منها ، أخذه إلى الخارج وناوله جردلاً، كان الجردل مليئاً بالماء ، طلب منه الجندي أن يغسل المكان الذي كان فيه الرجل وأن يغسل زنزانته أيضاً، فرح أيما فرح، لم تتسع له الدنيا ، سيصبح المكان نظيفاً بعد لحظات ، طلب من الجندي مكنسة وقشاطة للتنظيف ولكنه فوجئ عندما ألقى له الجندي بخرقة بالية من قماش عسكري وطلب منه أن يستخدمها في التنظيف .
ـ ولكن يداي ستتسخان وربما تلوثتا فهل يوجد لديك مادة مطهرة ؟ ديتول أو ليزول مثلاً.
ـ نظر إليه الجندي باستغراب : هل تعرف الليزول والديتول ؟
ـ ظهرت علامات الدهشة على وجه أحمد الفايز : ماذا تعتقد إذن ؟
ـ معلوماتي أنكم متخلفون لا تستطيعون العيش إلا في الأماكن القذرة ...
ابتسم أحمد الفايز ولم يعلق فواصل الجندي كلامه : لماذا أنت هنا ؟ هل قتلت أطفالاً ونساءً كما يفعل المخربون ؟ هل أنت مخرب ؟ وهل قتلت نساءً وشيوخاً ؟
ـ معاذ الله أن أقتل الأبرياء والعزل ؟
ـ إذن لماذا جاءوا بك إلى هنا ؟ هذا المكان لا يوجد فيه إلا المخربون والقتلة ؟ ماذا تعمل إذن ؟
ـ أعمل معلما .
ـ وماذا تدرس الطلاب ؟ هل تحرضهم على قتل اليهود ؟
ـ أنا أدرس مادة العلوم والرياضيات ؟
ـ ولكنك عربي والعرب يكرهون اليهود ويخططون لقتلهم ، لقد قتل السوريون الطيار الإسرائيلي الذي سقطت طيارته في سوريا بالفئوس .
ـ الذين قتلوا الطيار الإسرائيلي هم الفلاحون السوريون الذين لم يشاركوا في الحرب ومع ذلك لم يسلموا من الغارات الإسرائيلية ، لقد قتل هذا الطيار وأمثاله أحباء هؤلاء الفلاحين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم عرب سوريون ، ماذا تتوقع من أناس بسطاء أصابتهم الحرب في أعز ما يملكون ؟ لو أن الجيش السوري هو الذي قتل الطيار لكان من حقك أن تلقي باللائمة عليهم لأن العرب لا يقتلون أسراهم .
ـ ولكن كان باستطاعتهم حمايته من الموت .
ـ لم يصل الجنود إلا بعد فوات الأوان ، هل تعتقد أننا لم نتضرر من الحرب أكثر مما تضرر اليهود ؟
اتسعت حدقتا عينيه وقال : كيف ؟
ـ قال أحمد الفايز : لقد رأيت بأم عيني لحم البشر ملتصقا على جدران قلعة برقوق في خان يونس سنة 1949م بعد أن قصفتهم الطائرات الإسرائيلية ، كنت طفلاً وقتها وما زال ذلك المنظر عالقاً بالذاكرة لا أستطيع شطبه منها ، لقد جمعنا أشلاء أقاربنا في أكياس الدقيق التي كانوا سيتسلمون فيها إعانات الدقيق التي كانت الحكومة المصرية توزعها على اللاجئين بعد أن طردهم اليهود من دورهم وسكنوا فيها بدلاً منهم ، وبدلا من أن يعودوا بالدقيق في الأكياس لإطعام أطفالهم الذين بقوا في الخيام بانتظار عودتهم ، وعادت الأكياس مملوءة بأشلاء آبائهم وأمهاتهم الذين كانوا في الصبا ح أحياء وقتلهم القصف في عز الضحى .
ـ أنت تبالغ .. لا يعقل أن يفعل اليهود ذلك .. هل يطردوكم من بلادكم ليحلوا محلكم ثم يلاحقونكم بالقصف والقتل .. غير معقول ، غير معقول أن يفعل من عانوا من النازية مثل هذه الأعمال .
ـ هل ولدت في إسرائيل ؟
ـ لا .
ـ من أي البلاد قدمت إلى إسرائيل ؟
ـ من ألمانيا .
ـ يحق لك ألا تصدق أن الضحية تقلد الجلاد ؟
ـ إذا كنت صادقاّ في ادعائك أخبرني من أي منطقة طردت ؟
ـ طردت من يافا وما زال منظر الميناء والشرطي يغلق بوابتها بقفل نحاسي أصفر عالقاً في الذاكرة .
محاولاً أن يغير مجرى الحديث : بفرجها الله .. أريد منك أن تجعل المكان مثل الذهب ، وسأحضر لك جالوناً من الليزول .
وبعد أن أنجز تنظيف المكان أحضر له الجندي صفيحة الليزول كما وعد ، أخذ منها أحمد الفايز كمية ومزجها بالماء وأعاد مسح الأرضية حتى يزيل الرائحة الكريهة ، ثم غسل كلتا يديه بالليزول ليضمن عدم تلوثهما بالميكروبات ، أقفل الجندي الزنزانة بعد أن أرسل ابتسامة تعاطف ، وعند العصر سمع صوت إطلاق نار ، لابد أنها عملية إعدام وهمية جديدة ، يخيفون المعتقل فيظن أن النار قد أطلقت على زملائه ثم يغرونه بالاعتراف حتى لا يحدث له ما حدث لزملائه ، وقبل المغرب انفتح باب الزنزانة الخارجية عن شخص قصير القامة أبيض البشرة ثقيل الوزن أشفق عليه أحمد الفايز .. كيف سيحتمل التعليق ؟ ستثقل عليه هذه الجثة الضخمة بلا ريب ، تنحنح أحمد الفايز ليشعر الرجل أنه ليس وحيداً فقال الرجل :
ـ من أين الأخ ؟
ـ من خان يونس ، وأنت من أين ؟
ـ من الخليل ؟ ولماذا أنت هنا ؟
ها ها .. يريد أن يلعب علي كما فعل صالح عبد الرحمن : لا أدري .
ـ هل يعذبون المعتقلين هنا ؟
ـ نوعاً ما ؟
ـ كيف يعذبون المعتقلين ؟
ـ يعلقونهم من أيديهم ، سترى ذلك إن لم تكن رأيته .
وانتهى الكلام بينهما وساد صمت أشبه بصمت القبور .
مضى يوم الثلاثاء بكامله دون أن يطلبه أو يسأله أحد ، كان يتمنى أن تتواصل جولات التحقيق معه حتى يرسو على بر ، ليعرف ما له وما عليه ، الزنزانة أصبحت نظيفة لكن رائحة تيوس الغنم لم تفارقه ، لا مجال للاستحمام هنا ولا مجال لأن يطلب المرء أي شيء حتى لا يقع في دائرة المساومات وقاعدة خذ وأعط، ومضى صباح الأربعاء كما يمضي أي يوم عادي ، طعام الإفطار في الصباح ووجبة الشتائم المعتادة ، تعود ألا يتناول من الطعام إلا أقله حتى تظل الزنزانة نظيفة فلا يفعلها في نفس المكان الذي ينام فيه مما يملأ المجرى المغلق بالبول والقاذورات ، ومضى ظهر ذلك اليوم عادياً أيضاً ، وعند العصر ، ولم يكن باستطاعته تحديد الساعة بالضبط ، ذلك أن الزمن في السجن يأخذ اتجاهاً واحداً بلا لون ولا طعم ولا رائحة ، سمع صوت وقع أقدام تقترب ، لا بد أنهم جاءوا إليه أو إلى ذلك الموجود في الباحة الصغيرة أمام زنزانته ، اندس المفتاح في القفل الخارجي فانفتح لكن وقع الخطوات استمر ولم يتوقف إلا عند باب زنزانته المربعة بحجم دورة مياهٍ ضيقة ، تسلل مفتاح في قفل زنزانته فانفتح وناداه صوت الجندي: أحمد الفايز .. تعال معي ، خرج دون أن ينطق بكلمة واحدة ، لا بد أن الجولة ستتكرر وستظل تتكرر حتى يقول شيئاً أي شيء .
اقتاده الجندي إلى مكان غير المكان الذي شبحوه فيه أمس الأول ، ما الذي سيفعلونه معه يا ترى ، هل هناك وسائل أخرى للتعذيب ، لم يكن باستطاعته تحديد الاتجاهات ، كل ما يعرفه أنه وجد باباً مفتوحاً أدخله الجندي فيه فدخل ، وجد ضابطاً قصير القامة أصفر البشرة ، ابتسامته صفراء ، شفتاه تتذبذبان ، طلب منه أن يصعد فوق ذات المقعد الطويل وقام الجندي بربط يديه بالحلق الحديدي للشباك وبقي على هذا الوضع فترة ليست بالقصيرة ، ثم جاءت امرأة يبدو أنها في العقد الثالث من عمرها تصطحب معها طفلين صغيرين ،ربما كانت زوجة الضابط الذي قال لها : هذا هو أحد المخربين الذين يملئون قلوبكم رعباً ، تستطيعون أن تلمسوه لتتأكدوا أنه من طينة البشر ، ولكن أحداً لم يقترب منه ، نظرات الخوف والرعب تطل من عيون الأطفال ، حاولت أن تتغلب على خوفها فاقتربت منه خطوة وحاولت دفع طفلها باتجاهه ليلمسه لكن الطفل جذب نفسه إلى الخلف وصرخ : خبلان .. خبلان .. لو روتسيه .. لو روتسيه . (مخرب .. مخرب .. لا أريد .. لا أريد ) .
عندئذ أمر الضابط الجندي أن يسحب المقعد من تحت قدميه فهوى إلا أنه لم يصرخ هذه المرة كما فعل في المرة السابقة، اعتصره الألم ، رأسه يكاد ينفجر ومع ذلك أصر ألا يتفوه بأية كلمة ، يريد هذا المخنث أن يثبت أمام زوجته أنهم أقوى منا وأننا أضعف من أن نخيف أحداً ، لم يقل إنه سيتحدث بما يريده الضابط ، ومن شدة الألم سيطر عليه الإغماء ، هيمنت عليه إغماءة شديدة فلم يستيقظ إلا وقد ابتل وجهه والنصف الأعلى من جسده بالماء ، أخذ نفساً عميقاً وبصورة عفوية قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .. لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، نظر إليه الضابط وقد اصفرت سحنته ، طلب من الجندي أن يضع المقعد تحت قدميه وقال له : لن أتركك إلا إذا قلت شيئا أي شيء أما أن تخرج من هنا دون أن تقول كلمة واحدة فهذا مستحيل ، خذ الورقة والقلم واكتب أي شيء ، وإن لم تفعل فإن ما جربناه معك سيكون فسحة بالنسبة لما سنفعله.
فكر في أفضل طريقة للخروج من هذا المأزق ، اعتقد أنه إذا أخبرهم أن أحد الهاربين إلى الخارج عرض عليه أن ينظمه فرفض سيجعله يفلت من طائلة العقاب ، لم يكن يعلم أنه بذلك يكون قد أوقع نفسه تحت طائلة العقاب ، أمسك الورقة وكتب ما يلي : لقد جاءني المدعو أبو خالد وعرض علي العمل في المنظمة فرفضت وطردته من المنزل لأنني لا أهتم إلا بعملي في الصباح وبلعب الورق مع أقاربي بعد الظهر .
أمسك الضابط الورقة وطلب منه أن يوقع أسفلها فذيلها بتوقيعه وهو يعتقد أنه نجا من العقوبة ، ابتسم الضابط ابتسامة المنتصر ووضع الورقة في ملف خاص حفظه في حقيبته ثم طلب من الجندي أن يأخذه إلى الغرفة ، اقتاده الجندي إلى غرفة غير التي كان فيها ، أوسع بشكل واضح ، فيها جردلان أحدهما للماء والآخر لقضاء الحاجة ، وفيها فرشة سميكة من القش وزوج من البطانيات الكاكية اللون ، كان ذلك في يوم الأربعاء ، استلقى على الفرشة بكلل فقد سيطر عليه الإرهاق والتعب ، أدرك أن الفرشة مليئة بالقش لكنه وجدها أطيب من ريش النعام ، وفي المساء نام مبكرا بعد أن أحس ببعض الدفء لأول مرة منذ أن اعتقل ، وعندما استيقظ وجد أن ابليس كان قد زاره دون أن يشعر فابتلت ملابسه ، عاف هذه الملابس لأنه لا يستطيع أن يستحم وهو مضطر إلى التعايش مع ملابسه الداخلية حتى تجف .
وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس انفتح باب الزنزانة فبان وجه جندي بلحية تحتل أسفل ذقنه وقد حف شاربيه ، اقتاده الجندي إلى الغرفة إياها حيث علقوه في آخر مرة وأغمي عليه فيها ، وجد ضابطاً متوسط الطول يشبه أحد أقاربه مما أدهشه فقد كان الشبه كبيراً لدرجة أنه اعتقد لأول وهلة أنه هو فانخلع قلبه من بين ضلوعه ولم يعد إلا بعد أن تكلم ذلك الضابط فوجد أن لهجته جد مختلفة ، قدم له الضابط ورقة مطبوعة وطلب منه أن يملأ الفراغات الموجودة فيها ، قرأ أحمد الفايز ما يلي :
إقرار
أقر أنا الموقع أدناه ـــــــــــــــــ من مدينة ــــــــــــ أنني قد عوملت معاملة حسنة ولم أتعرض لأي نوع من أنواع التعذيب وهذا إقرار من بذلك .
التوقيع
تردد أحمد الفايز قبل التوقيع فما هو مطلوب منه مغاير للواقع ، قال له الضابط وكأنه أدرك ما يدور بخلده :
ـ هل تريد البقاء هنا ؟ ولم ينتظر جوابا فاستطرد : بالتأكيد لا ، وقع حتى نعيدك إلى غزة .
ـ ولكني لم أفعل شيئاً يستحق ما فعلتموه معي .
ـ حبيبي : وما ظلمناكم ولكن كنتم أنفسكم تظلمون .. لا ترمون قنابل .. لا تزرعون ألغام ما بتيجو لهون، وقع أحسن بلاش ترجع للمقعد الطويل ولوازمه. أمسك أحمد الفايز القلم وكتب اسمه بتردد، كان يخشى إن لم يوقع أن تتكرر معه جولات التعليق فيضعف ويفضي بما عنده ، كتب : أقر أن الموقع أدناه أحمد الفايز من مدينة يافا .....، وعندما أمسك الضابط الورقة سأله : هل تسكن في مدينة يافا ؟
أجاب : لا . ولكني ولدت في مدينة يافا وهاجرت منها .
ـ أين تسكن الآن ؟
ـ أسكن في خان يونس .
بلهجة جليلية : أنت هسا من خان يونس مش من يافا ..أشطب يافا واكتب من خان يونس.
ـ ولكني من يافا ....
ـ انس يافا يا حبيبي .. انساها أحسن لك .
وأمسك بالقلم وشطب يافا وكتب في مكانها خان يونس والألم يمزقه والحزن يسكن نسيج عقله ، بعدها أعادوه إلى الزنزانة والعصبة مازالت على عينيه إلى أن جاءه جندي اقتاده مسافة ليست طويلة وجعل ظهره إلى الجدار وسأله : كيف حالك ؟
ـ الحمد لله .
ـ مبسوط ؟
ـ برؤياك .
ظنه أحمد الفايز ذلك الجندي الذي قدم له الليزول بينما اعتقد الجندي أن أحمد الفايز يراه فارتعدت فرائصه ، كان يخشى أن تنطبع ملامح وجهه في ذاكرة مخرب فينتقم منه بعد خروجه من السجن فلكمه لكمةً كادت تطيح بفكه الأسفل ـ تحمل أحمد الفايز اللكمة بعد أن أدرك أنها بدافع الخوف والفزع ممن يعتقدون أنه مخرب ربما لا يتورع عن أكل لحوم البشر ، جاء بعد ذلك اليهودي الألماني مودعاً مطمئناً وداعياً إياه أن يصمد بعد أن ابتعد الجندي الأول ، لم يكن أحمد الفايز يعتقد أن الجبن قد بلغ بذلك الجندي حدا لا يتصوره العقل وأنه سيحضر زوجاً من البطاطين السميكة التي تحجب الرؤيا ، طلب من أحمد الفايز أن يصعد إلى سيارة عسكرية وألقى فوقه زوج البطاطين وألقى فوق البطاطين إطاراً ضخماً ربما كان إطار جرافة أو إطار شاحنةٍ ضخمة ، وبعد أن تحركت السيارة ظل الجندي يضرب أحمد الفايز بكعب بندقيته في أجزاء مختلفة من جسمه على طول الطريق إلى سجن غزة .

الفصل العشرون

ـ 20 ـ

قال الضابط نستطيع : الآن أن نقدمه للمحاكمة بتهمة التستر على مخرب مطلوب ، لقد نجحنا نجاحاً جزئياً ، لا بد أن لديه ما يخفيه عنا ، فلنواصل الضغط عليه بشكلٍ مختلف لنتركه في السجن الانفرادي أطول مدة ممكنة ، سنواجهه بحرب نفسية تحطم أعصابه .
أجاب المحقق الآخر : لقد هددته بالموت ، قلت له في البداية إنه موجود في إسرائيل وإن اسمه غير مقيد في سجلات الصليب الأحمر ، ولو كان لديه ما يقوله لما تحمل كل ما واجهه من تعذيب ولكان أفضى به لك ، أنا أرى أن نواجهه بطريقة أخرى .
ـ كيف ؟ قال الأول .
أجاب الثاني : يجب أن نحاصره بالإشاعات ، أن نشوهه ، نقول إنه اعترف اعترافاً مفصلاً وإنه تعاون معنا أثناء التحقيق فنوهم الباقين أن لا مفر لهم من الاعتراف وبذلك يقع في شركنا من يقع ، أما من يصر على موقفه فنواجهه بالحقائق الدامغة التي سيدلي بها أولئك الذين سيعترفون .
ـ رأي صائب دون شك ، يجب أن نشوه هؤلاء العرب المخربين أبناء الزناة .
قال الثاني : عندما أحضروه هنا قمت بتعليقه من يديه وهددت بقطع جهازه التناسلي فلم يكترث ، قال لي وكأن الأمر لا يعنيه : اقطعه ، هددته بإجهاض زوجته فلم يبال وطلب أن أفعل إن شئت ، أردف : هل تخافون من الأجنة في الأرحام فتحاولون التخلص منهم ، أغاظني فجلدته بالسوط تحت سرته بعيداً عن جهازه التناسلي، خشيت أن يموت فلا نحصل منه على ما يفيدنا .
وصلت عربة الجيب التي تقل ضباط التحقيق إلى سجن غزة المركزي بينما وصلت العربة التي تقل السجين إلى السجن أيضاً ، ترجل الضباط من السيارة وتوجهوا إلى غرف التحقيق فورا ، تناقشوا مع الضابط المسئول ، عرضوا عليه الآراء التي تبادلوها في الطريق فتم الاتفاق على الدمج بين الرأيين ، أن يعزل أطول مدة ممكنة في السجن الانفرادي ، قال الضابط المسئول ، وأردف : وبعد نقله إلى السجن العمومي تواكبه الإشاعات وتحاصره عندئذ سيقول بقية السجناء من زملائه : إذا كان المسئول قد اعترف فما بالنا لا نعترف ؟
تساءل أحد الضابطين : هل أبقيتم العرايشي في الزنزانة ؟
قال المسئول : نقلناه أمس الأول إلى السجن العمومي .
ـ أرى أن تعيدوه إلى الزنزانة حتى لا يشك أنه وراء نقله إلى السجن الحربي في صرفند.
ضغط الضابط على زر جرس موجود عنده فجاءه جندي ناوله ورقة عليها اسم صالح عبد الرحمن وطلب منه أن يعيده إلى الزنزانة ثانية قبل إعادة أحمد الفايز إليها .
***
وصلت السيارة العسكرية التي تقل أحمد الفايز إلى سجن غزة المركزي ، وفي باحة السجن طلب منه الضابط أن يقفز من السيارة وهو معصوب العينين فقفز بسهولة ، استعان بغريزته وبما يختزنه في ذاكرته من التدريب العسكري الذي تلقاه ، تذكر ما تعلمه عن غريزة التوجيه ، يستطيع أن يقدر ارتفاع السيارة عن الأرض بعد تجاربه السابقة في بداية اعتقاله ، اقتاده الجندي إلى الممر المؤدي إلى زنزانته ، رفع الرباط عن عينيه وطلب منه أن يدير وجهه إلى الجدار وتركه ، تلفت حواليه ولما لم يشاهد أحداً قبل جدران زنزانته وكأنها جدران بيته ، بعض الشر أهون من بعض ، هذه الزنزانة أهون وأفضل من الزنزانتين وخصوصاً تلك التي كانت بحجم دورة المياه والمشبعة برائحة التيوس ، تذكر بنطاله المشبع بالبول المتعفن فبصق قرب باب الزنزانة بتأفف .
عاد الجندي ومعه السجان والمفتاح ، عالج السجان القفل فانفتح ، دفعه إلى داخل الزنزانة بقوة كادت تقلبه عل وجهه إلا أنه تماسك ، وقع نظره على صالح عبد الرحمن .. أنت ما زلت هنا ، أفلتت منه الكلمات دون إرادته ولكنه قطع الطريق عليها فتوقفت بقية الكلمات في حلقه ، نظر إليه باستغراب .. كنت أعتقد أنه غادر السجن إلى منزله بعد أن وشى بي ، ربما أكون قد ظلمته ، ومع ذلك فالحذر مطلوب داخل السجن ، يجب ألا أتحدث في السجن إلا عن الأشياء التافهة فقط ، الخرافات والأساطير أو أية أشياء لا توقع الإنسان في المحظور وتسبب له الضرر فيندم حين لا ينفع الندم ، كانت أمه وجدته تقولان له : عند الأزمات اقطع لسانك وحطه تحت كعبك ، فليضع لسانه تحت كعبه حتى لا يتورط في مشاكل جديدة ، تلفت حواليه فوجد البطانيتين الخاصتين به في زاوية الزنزانة فاستلقى على إحداهما متعباً وراح في نومٍ عميق .
في صباح اليوم التالي فتح أحد رجال الشرطة باب الزنزانة وطلب منه أن يأتي معه ، خرج بهدوء ، وفي الممر وجد شرطياً طويل القامة يلبس الملابس الزرقاء ، أوقفه الشرطي أمامه ، أمسك الشرطي الطويل بيده اليمنى ووضع إصبعه الإبهام في ختامةٍ ذات حبرٍ أسود ، ثم رفع إصبعه ووضعه على ورقة فيش وتشبيه وكرر نفس العمل مع إصبعه السبابة فالوسطى فالبنصر فالخنصر ، اندهش أحمد الفايز .. لماذا يفعلون معي ذلك ؟ هل أنا متهم ؟ وبماذا أنا متهم ؟ سأل الشرطي الذي تناول يده اليسرى وبدأ يمارس نفس العمل الذي قام به مع يده اليمنى : لماذا تفعل معي ذلك ؟
ابتسم الشرطي بعد أن انتهى من إجراءات الفيش والتشبيه وقال له : أنت متهم بالانتماء إلى منظمة تخريبية .
قطب أحمد الفايز ما بين حاجبيه وقال : من الذي قال ذلك ؟
ـ أقوالك يا حبيبي .. أنت اعترفت بذلك .
ـ أنا ؟
ـ نعم أنت ، أم أنك نسيت ما قلته ! وقع هنا ، وقدم له ورقة كتب فيها :
أقر أنا أحمد الفايز وأعترف أنني عضو في منظمة تخريبية .
صاح أحمد الفايز : لم أعترف بذلك ، لا علاقة لي بأي تنظيم أو منظمة .
ـ وقع . قال عازار ، وواصل كلامه: وإلا أعدتك إلى الجيش ليبدأ معك دورة تعذيب جديدة ، هل تريد ذلك؟
ـ أعدني إلى الجيش .. افعل ما تشاء ، لكني لن أوقع .. لن أوقع .. هل فهمت ؟
ـ ما تزعل يا حبيبي إيش اللي بدك إياه .. ما بدك توقع ؟ أنت حر ، ولكن لمصلحتك بنصحك توقع .
طافت بذهنه العمليات التي نفذت قبل اعتقالهم ، ماذا لو ضغطوا عليه وعلى زملائه أكثر من ذلك ، هذه لاتصل عقوبتها إلى أكثر من عام وربما لا تزيد عن ستة أشهر ، أما ما سيحدث بعد ذلك فالله وحده هو الذي يعلم نتيجته ، قال : ولكني لست عضواً في أية منظمة .
ـ لا يهمني ذلك ، كل ما نحن متأكدون منه حتى الآن أنكم لم تقوموا بأية عملية تخريبية، وهذا من حسن حظكم.
ـ لن أوقع .. لن أوقع .. أنتم تعرفون أنني برئ .
ـ حبيبي .. أضف ما تريد إلى الكلام المكتوب .. المهم أن توقع .
أمسك بالقلم وكتب : ليست لي علاقة بأية منظمة عسكرية ولم أفكر في القيام بأي عمل عسكري ، ووقع .
أعاده الجندي إلى زنزانته وأغلق عليه بابها بإحكام .
***
أصيب أحمد الفايز بالرشح نتيجة البرد الذي تعرض له في سجن صرفند العسكري ، كان رأسه حليقاً مما زاد من شعوره بالبرد فقرر وضع الفوطة على رأسه ، وعندما حان موعد الفسحة طلب من السجان ملابس أخرى بدلا من تلك التي يلبسها ، صاح به السجان أن يرفع الفوطة عن رأسه وقال إنه لن يحضر له ملابس جديدة وأصر على أن يجعله يستحم بالماء البارد وأن يرتدي نفس الملابس القذرة ، وفي أثناء المشادة قدم مدير السجن وسأله عن سبب رفعه لصوته فأخبره أن السجان يريد له أن يلبس نفس الملابس القذرة بعد أن يستحم وطلب من مديرالسجن أن يشم رائحة ملابسه ، سأله الرجل: بم كنت تعمل قبل دخولك السجن ؟
أخبره أنه كان يعمل معلماً وأنه لم يصدر ضده أي حكم ، أمر مدير السجن السجان أن يحضر له ملابس نظيفة وقطعة صابون ، نظر السجان بحقد نحو أحمد الفايز وانصرف دون أن يفتح فمه ، ولما عاد قذف بالملابس بحدة في وجه أحمد الفايز الذي ابتسم بشماتة ودخل الحمام دون كلام .
***
كان الماء باردا جداً في الثلث الأخير من شهر شباط ، ورغم ذلك فقد كانت برودته أفضل من عدم الاستحمام ، مضى عليه ما يقرب من شهر كامل دون أن يستحم ، شعر بالانتعاش وفي نفس الوقت ازداد الرشح عليه فوضع الفوطة فوق رأسه وعاد إلى زنزانته ، أغلق السجان باب الزنزانة بعد أن صفقه بعنف وغضب ، وبعد أن تمشى في الممر فترةً قصيرة عاد إلى الزنزانة وطلب من أحمد الفايز أن يرفع الفوطة عن رأسه .
ـ ولكني مصاب بالرشح الشديد . قال أحمد الفايز .
ـ قلت لك إرفع الفوطة عن رأسك ، وإن وجدتها مرة ثانية فوق رأسك كسرته لك .
غادر السجان المكان بعد أن انتهت نوبته التي تستمر لمدة أربع ساعات ، وعند العصر عاد فجأة ، وعندما وجد الفوطة على رأس أحمد الفايز شتمه شتيمة مقذعة ، رد عليه أحمد الفايز الشتيمة بمثلها فتهدده السجان وتوعده وبعد ذلك غادر الممر، أدرك أحمد الفايز بفطرته أن السجان سيعود لمعاقبته ، وربما ارتكب حماقة ، قال أحمد الفايز للعرايشي :
ـ سيعود السجان بعد قليل وسيستغل فترة وجود زميله ضعيف الشخصية ، وإذا حاول الاعتداء علي فسأضربه .
قال العرايشي : ول يا فلسطينية !
أضاف أحمد الفايز وكأنه لم يسمع ما قاله :
ـ إما أن تضرب معي أو تقف على الحياد ، أما إذا حاولت إنقاذه فسأضربك معه .
ـ لن أتدخل وسأقف على الحياد .
وبالفعل عاد السجان ومعه عصاه القصيرة الغليظة وقد أخل راحة يده اليمنى داخل جلدتها فالتفت الجلدة حول معصمه ، نادى على زميله ضعيف الشخصية وطلب منه أن يعطيه مفاتيح الزنزانة فأعطاه إياها دون أدنى اعتراض ، انفتح باب الزنزانة ، كان أحمد الفايز قد أسند ظهره إلى جدار الزنزانة ووضع جردل البول في متناول يده اليمنى وجردل الماء في متناول يده اليسرى ؛ فقد قرر أن يدلق الجردل الممتلئ بالبول على السجان ، بعد ذلك يضربه بالجردل الفارغ حتى يهشم جمجمته ، وإذا ما أفلت منه الجردل تناول جردل الماء وتابع ضربه به مهما كانت النتيجة ، قال له السجان :
ـ تعال هون .
لم يستجب له أحمد الفايز ولم يرد عليه فكرر طلبه مرة ثانية ، رد عليه أحمد الفايز :
ـ إذا كنت تريدني تعال أنت .
مد السجان قدمه اليمنى ليدخل الزنزانة ، صاح به أحمد الفايز :
ـ إياك أن ترفع يدك علي وإلا كسرتها لك .
قال ذلك وحمل جردل البول في يده اليمنى فتجمدت قدم السجان في مكانها وصاح :
ـ ماذا تقول يا ابن ال …
ـ أنت ابن ستين …
وصاح بأعلى صوته : الله أكبر .. ماذا تريد .. يلعن أبوك على أبو حكومة إسرائيل .. يا شرطة .. يا مخابرات تعالوا يا عرصات شوفو هذا العرص إيش بده مني .. التحقيق وخلص .. إيش اللي بدكو إياه ؟
بهت السجان وطلب من أحمد الفايز أن يسكت ولكنه استمر في الصياح ، تخاذلت لهجة التحدي عند الجندي وقال بلهجة تكاد تكون رقيقة : سأغلق الباب وأتركك حالا .. فقط لا تصرخ .
أغلق الباب على عجل ، هرول بسرعة مغادراً المكان فهدأت ثورة أحمد الفايز وفوجئ العرايشي ، وفي المساء جاءت مجموعة من السجانين وهم يحملون الهراوات الغليظة ، كانوا يرافقون الضابط النوباتشي المسئول عن عملية العد الأخير في فترة المساء ، صاح الشاويش : سفيراه ( عدد) فوقف جميع السجناء أمام تلك الطاقات الصغيرة الموجودة في أعلى أبواب الزنازين ، وعندما وصل العد إلى زنزانته سأله الضابط : ماذا فعلت مع السجان ؟
ـ لم أفعل شيئاً .
ـ ألم تشتمه ؟
ـ لقد شتم والدي الميت ووالدتي بأقذع الشتائم فماذا تتوقع مني ، وهو يحاول الإساءة لي باستمرار دون أي سبب ، هل تقبل أن يشتم أحد أمواتك ؟
ابتسم الضابط بينما لوح الجنود بعصيهم بحركة تحمل معاني التهديد ، قال الضابط : لا تشتم السجان مرة ثانية وإلا تعرضت للعقاب الشديد، فالقانون يقف إلى جانبه لأنه يؤدي واجبه ، وفي الصباح جاء أحد السجانين ومعه قطعة من الأبلكاج أغلق بها كوة الزنزانة بعد أن دقها بمسمار يسمح لها بالدوران بحيث يتم فتحها وإغلاقها بسهولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?