الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماركسية تندفع فلسفياً الى يسار الهيغلية

نجيب اسطيفان

2016 / 10 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


مقتطف من كتاب "" صفحات مظلمة في تطبيق الماركسية ""
الماركسية تندفع فلسفياً الى يسار الهيغلية
ننجيب يوسف اسطيفان
هيغل ( Hegel ) ( 1777 – 1831 ) فيلسوف الماني بارز اطلق لأول مرة مفردة الديالكتيك اي الجدلية وتناقض الاضداد التي حصرها في مجال الفكر او العقل واعتبرها العامل الحاسم في تطور وارتقاء حياة الانسان. في الثلث الاول من القرن التاسع عشر بدأت اركان الفلسفات المثالية ومنها فلسفة كانت ( Kant ) تهتز امام نهوض الفلسفة المادية الجدلية التي اسست لها قواعد على انقاض الفلسفات السائدة آنذاك، مما فتح المجال لظهور الفلاسفة الذين تبنوا النهج الديالكتيكي. في مقدمة هؤلاء هيغل ومن بعده الفيلسوف الالماني فوير باخ ( Feuer bach )، لكن الاخير انفصل عن الهيغلية وانتقدها بسبب ايلائها الفكر الدور الرئيسي في تطور مسيرة الانسان. اعطت الفويرباخية الاولوية للمادة لأن الفكر او الروح مشتقة منها ولا وجود لهما من دونها او خارجاً عنها، ولذلك فهي تمثل الحقيقة المطلقة في الوجود. بالنتيجة، يكون فوير باخ قد أرسى الحجر الاساسي الذي استندت عليه الماركسية، وخاصة في مجال المادية التاريخية.

منتصف القرن التاسع عشر ابتعدت الفلسفات عن نهجها المألوف بتناول المواضيع الفكرية المجردة، واصبحت جزءاً ملحقاً بالايديولوجيات السياسية او الحزبية، مما جعلها طرفاً في صراع الطبقات. تحولت بعضها الى مدارس فكرية تديرها الاحزاب التي تحيك التكتيكات وتعبىء الجماهير وتحفزها لخوض المعارك ضد الخصوم الطبقيين. من اجل التمييز بين الهيغلية وبين المادية التاريخية لكارل ماركس، اشارت الاولى الى صراع الاضداد في الفكر او العقل، لكن الثانية، وبالرغم من استقائها مفهوم الديالكتيك من الاولى، فهي تشدد على الصراع الذي يحصل في المجال المادي والاقتصادي وتنقله الى مسرح الثورة الطبقية. في هذا السياق افترض ماركس نهوض الطبقة العاملة كنتيجة لصراع الاضداد في المجتمع وحتمية انتصارها على الرأسمالية. يوضح هيغل في فلسفته ان التطور والتحول في واقع المجتمعات البشرية تنتج بسبب التطور الذي يطرأ على الفكر او الوعي، لكن ماركس يصر على دور الواقع المادي وعلاقات الانتاج في تطوير الفكر وتغيير القيم ومفاهيم الحرية ومنظومة الاخلاق. وهكذا، يقلب ماركس المعادلة في فلسفة هيغل ويعتبر الواقع الاقتصادي المادي وعلاقات الانتاج بمثابة البناء التحتي ( Infra Structure ) الذي تنعكس منه كافة عناصر البناء الفوقي ( Super Structure ) من افكار وثقافة ومعتقدات واخلاق. بالرغم من طغيان المفهوم المادي على فلسفة فوير باخ، اعترض عليها ماركس لأنها ابرزت دور الجوانب الانسانية والاخلاقية في عملية تغيير واقع المجتمع ولم تتبنى فكرة الصراع الطبقي كوسيلة لإقصاء الرأسمالية بالقوة وتأسيس دكتاتورية البلوريتاريا.

لم تكن كل مضامين فلسفة هيغل مثالية وغير واقعية كما وصفها خصومه، لأنه هو من استنبط مفهوم صراع الاضداد وانتقد الافكار البالية واساليب المؤسسات القائمة وحتى الدينية منها لأنها لا تمثل الحقيقة وقد تجاوزها الزمن وهرمت، مما تدعو الحاجة لتغييرها او التخلي عنها. عندما نأى ماركس بنفسه عن الهيغلية والفويرباخية، بدأ يروج لفلسفته بخصوص المادية التاريخية ( Historical Materialism ) والتي تؤكد على جوهرية العداء الدائم ضد السلطة التي تقف امام تطلعات المجتمع المدني، ولا سيما طبقته العاملة. اعتقد ماركس بعدم امكانية معالجة الوضع الشاذ، الا بوضع نهاية للنظام الطبقي واقامة المجتمع الشيوعي الذي تختفي فيه الطبقات والملكية الفردية.

في الجانب الفلسفي البحت يرى هيغل ان تاريخ الانسان يتحرك بطريقة بالامكان تتبعها ومعرفة توجهاتها، وان هذا التاريخ يعبر عن سلسلة من التطورات في الفكر او العقل الذي يحوي مجموعة من الطاقات الكامنة التي تنتظر الفرصة لكي تنتقل الى واقع اكثر ارتقاءاً. يعتبر هيغل التمتع بالحرية على رأس هذه الطاقات. وبالتالي يؤدي صراع الاضداد الى ازالة العراقيل من امام تحقيق الحرية، ويحرر عقل الانسان من الكوابح ويرفعه الى مستوى اكثر نضوجاً واستيعاباً، ولا سيما بعد دحر الظواهر السلبية او الاقصائية. يشبّه هيغل مراحل نضوج العقل وارتقائه بالادوار التي يجتازها الطفل الوليد اثناء نموه النفسي والروحي والتي خلالها يؤكد ذاته ويتغلب على المعوقات. خلال عملية نفي الضد السلبي في العقل تنبثق الافكار الخيرة والمثل النافعة مثل الحرية والشعور بإستقلالية الذات. تستمد الحرية قيمتها الحقيقية في سياقها التاريخي، ففي نظام العبودية تمثلت بإنعتاق العبد من استعباد سيده له وحصوله على وضع اجتماعي افضل. مع مرور الزمن وارتقاء عقل الانسان بعد ازاحة الظواهر السلبية، اتخذ مفهوم الحرية معناً وبعداً مختلفاً، بحيث عجز النظام القائم والتقاليد الاجتماعية السائدة من تلبية استحقاقاتها. بالنتيجة استجاب عقل الانسان الى ضرورة ازاحة المفاهيم والقيم القديمة واستنباط صيغة تتجاوب مع حرية العقل في المجتمع الصناعي. بغية توضيح مفهومه حول صراع الاضداد، يطرح هيغل حالة السيد المالك وعلاقته بعبده والتي تمنحه وضعاً اجتماعياً يختلف عن الذي للعبد. في الوقت الذي يرى العبد نفسه ذليلاً وضيعاً وفاقداً للاستقلالية وحتى ممتناً لسيده طالما لا ينتزع منه حياته، يتمتع السيد ومن خلال علاقته بعبده بكامل حريته وبشخصيته المعنوية وبكيانه الاقتصادي. بالرغم من استقرار العلاقة بين الاثنين وحاجة كل طرف الى الآخر من اجل تحديد هويته وموقعه الاجتماعي، ينشأ الصراع الخفي وتطل التناقضات برأسها ويبدأ العبد بالتململ والتمرد ومن ثم يثور لأنه يتوق الى الحرية والشعور بآدميته. يسعى العبد للتخلص من هويته وكسر الاغلال لكي يصبح انساناً متكافئاً مع مالكه، لكن الاخير لا يستطيع تحرير عبده لأن ذلك يؤول الى حرمانه من صفة المالك ومن الوضع الاجتماعي المتميز، مما يخلق التناقض وصراع الاضداد. من البديهي ان يملك السيد الموقع الاقوى، لأنه يستعين بمؤسسات الدولة وبالاجهزة البوليسية والى جانبه القانون والاعراف السائدة، وفي متناول يده وسائل التعذيب والتأديب مثل السوط والسلاسل وما شابهها.

من غير المنطقي ان تستقر الامور على حالها، فعندما تحين الفرصة ويحتدم صراع الاضداد ينهض العبد وينتقض ضد العبودية وينتصر في ثورته، مما يجرد المالك من مشروعية امتلاك انسان آخر ويفقد وضعه الاجتماعي المتميز. في الوقت الذي يفقد العبد فيه صفته الاصلية ويغدو انساناً حراً ونداً لمالكه، يأخذ كلاهما وضعاً اجتماعياً واقتصادياً جديداً تسود فيه علاقات وقيم ومفاهيم تختلف عن سابقاتها. عندما استعان ماركس بفلسفة هيغل حول صراع الاضداد، رفض ان يكون العقل ساحة هذا الصراع والقاعدة التي يتوقف عليها تطور وارتقاء حياة الانسان. في الوقت الذي ابرزت الهيغلية دور الفكر او العقل في عملية التطور، شددت الماركسية على الواقع الاقتصادي وعلاقات الانتاج واعتبرتها العامل الحاسم في تطوير الفكر. من اجل تقديم فلسفة خاصة به، القى ماركس الظلال حول الهيغلية ووصفها بالفلسفة المثالية، وتمكن من تهميشها وارساء قواعد لمدرسة فكرية ثورية تنشر مفاهيم المادية التاريخية وثقافة تأجيج الصراع الطبقي الذي لا ينتهي الا بإقامة المجتمع الشيوعي. بالنتيجة احتكر ماركس الحقيقة المطلقة ونسج بأنامله لوحة لمستقبل البشرية عن طريق استخدام الخيوط التي وفرتها له طروحاته وروآه الانسانية الجميلة ومشاريعه الخلابة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز