الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القمع الوحشي - 3

جاسم الحلوائي

2005 / 12 / 29
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ذكريات

كنت أتصور بأن الذين إختفوا قبلي قد أسسوا بيوتا حزبية، وسأجد مكانا جاهزا لي ما أن أختفي. فقد كانت مبالغ محترمة تحت تصرفهم، وهناك عوائل كثيرة يعتمد عليها وفي متناول اليد مهاجرة من المحافظات الجنوبية الى بغداد. لكني فوجئت بأن تصوراتي لم تكن في محلها، فمرجعي الحزبي الرفيق باقر إبراهيم لم يكن لديه مكان ثابت فهو يتنقل بين بضعة بيوت عادية ويعتقد أن لاجدوى من تأسيس بيوت حزبية. وربما كان يعتبر بأن ذلك من مهام قيادة الظل التي عُزلنا ، هو وأنا ، عنها. واخبرني بأنهما، هو وخضير عباس، سيغادران العراق وسأكون معهما. في اليوم التالي كتبت رسالة لأم شروق أخبرها بالأمر. وقبل إرسال الرسالة صدر عفو عام عن المعتقلين فتوقفت الحملة الإرهابية وتأجلت السفرة الى أجل غير مسمى . وتقرر أن أزاوج بين الإختفاء والعلن فكنت أداوم في الجريدة لبضعة أيام في الإسبوع وأختفي بضعة أيام أخرى!؟

في هذه الفترة، أي في شباط 1979، وبعد خراب البصرة، فوتح الحزب بإعادة التحالف. كانت الخطوة مناورة بعثية تستهدف الحط من سمعة الحزب السياسية وتحويله الى حزب كارتوني أو حزب ضئيل الحجم والقوة والنفوذ . لذلك فإن الأعتقاد بإمكانية إعادة التحالف كان يعني القبول بالمصير المذكور. أما فكرة الإستفادة من عرض البعث لتخفيف الضغط علينا فقد رفضت بإعتبارها غطاء لتمريرسياسة إعادة التحالف . وإذا لم تكن كذلك وكانت مجرد مناورة فإن عمرها قصير، والرابح فيها، في المحصلة النهائية، السلطة البعثية، لإنعدام توازن القوى. كان رأيي هو أن نشترط ، أولا وقبل كل شيء، إلغاء التعهدات التي أجبر المواطنون على التوقيع عليها والغاء المادة 200 التى بموجبها سيعدمون، اذا ما عاودوا نشاطهم السياسي السابق. كان يُنظر الى هذا الشرط بإعتباره شرطا تعجيزيا، وكنت أعرف ذلك، ولكنه كان أيضا منطقيا، وإلا فكيف نعمل مع شخص مهدد بالإعدام؟! ويبدو لي بأن المتتبعين لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي لا يعرفون الكثير عما جرى في التاريخ المذكور، لذلك سأتوقف عنده.

في شباط المذكور ارسل صدام حسين بطلب الرفيق مكرم الطالباني العضو المرشح للجنة المركزية وأهم ما قاله له :

ـ ناقشنا في القيادة عودة التحالف مع الحزب الشيوعي وإن الرفاق في القيادة يعتقدون بعدم إمكانية تحقيق ذلك، وقد إختلفت معهم لأني أعتقد خلاف ذلك ... وطلب صدام عرض الموضوع على قيادة الحزب التي كانت في غالبيتها في الخارج

وعده مكرم بعرض الموضوع على قيادة الحزب. عقد إجتماعان للرفاق المركزيين في الداخل حضرهما كل من مكرم الطالباني وسلام الناصري وماجد عبد الرضا وعبد الرزاق الصافي وباقر إبراهيم وكان الأخير هو المسؤول الأول في الداخل، وأستثنيت لأسباب الصيانة !؟ ولأن مركز ثقل القيادة كان في الخارج، فقد تقرر إرسال عبد الرزاق الصافي الى الخارج لعرض الطلب على قيادة الحزب. وقد عاد الصافي بمذكرة تتضمن شروطا، كانت من وجهة نظر حزب البعث تعجيزية . فقد أجابوا تحريريا في آذار ما فحواه:

ـ إنكم تشترطون شروطا تعرفون حق المعرفة عدم إمكانية تحقيقها.

كنت آنئذ أداوم في مقر الجريدة وقد ناقشت الرفيق مكرم الذي كان متجاوبا مع عرض البعث ولاحظت بأن الرفيق لا يعرف أو لا يريد أن يعرف ما حل حقيقة بالحزب وخاصة منظمات الحزب التي تعرضت للتحطيم في طول البلاد وعرضها . و قد برر تجاوبه بوعود وأقوال صدام ليس إلا. ولكن شعرت بأنه لم يكن يرى بديلا مجديا آخرا آنئذ.

كنت أزاوج في تلك الفترة بين العمل في الخفاء والعلن , كانت فترة صعبة جدا بالنسبة لي شخصيا. فالقسم العلني هو مؤسسة إعلامية تعمل تحت بصر وسمع حزب البعث وجهاز أمنه، والقسم الآخر هو المركز القيادي الوحيد الباقي في الداخل . كنت حريصا جدا على أن لا أكون سببا في حصول كارثة. كنت أناور وأعاني كثيرا لكي أطمئن بأني غير متابع لكي أختفي . وفي هذه الفترة بالذات أصبت بداء الذبحة الصدرية، وكانت تلك مقدمة للجلطة القلبية التي أصبت بها وأنا في إيران بعد سبع سنوات.

رغم المدة القصيرة التي قضيتها في الجريدة، فهي لاتتجاوز الشهر، فقد علقت بذاكرتى بعض اللقطات وهي:

× ام سليم، ربة بيت، زوجة الرفيق كريم أحمد الداود عضو المكتب السياسي عمرها حوالي الخمسين عاما، متوسطة القامة، متينة البنية، بيضاء اللون. ما أن تبدأ بالكلام حتى يحمر وجهها. لديها خمسة أبناء ، بنتان وثلاثة أولاد، ثاني أولادها بوتان الذي إنتقل من المقر الى الجريدة معي . كما مر ذكره آنفا . ام سليم كانت الشخص الوحيد الذي يزورنا في المقر العام، عندما كنا " محاصرين " فيه لتطمئن على بوتان. وقد جلبت لنا في إحدى المرات ( دولمة ). طلبت منها عدم المجيء الى المقر حرصا على سلامتها وقد رفضت طلبي بحسم، تراجعت أمام رفضها، ولم أكن أتراجع أمام غيرها فتلك كانت مسؤوليتي وقراري . ولكن وجدت أن ليس من حقي منعها فهي أم.
جاءتني أم سليم ذات يوم الى الجريدة . جلست أمامي . كانت متوترة ومحمّرة الوجه سألتني بعصبية وبنبرة وكأن لديها دين بذمتي:

ـ إنت ليش متنطيني شغل ؟ آني شنو هيج كاعدة بالبيت كلشي ما أسوي؟

ـ أم سليم، شنو الشغلة اللي تكدرين إتسويها؟

ـ آني كلشي أكدر أسوي، آني ما أخاف، و بتوتر أعلى وبعصبية أشد. إنطيني رفاق وآني أوصلهم الى كوردستان .

أم سليم لم تعد تطيق توديع إبنها بوتان عند خروجه من البيت صباحا وبقاءها في البيت غير متأكدة من عودته. إنها تريد القيام بعمل ما يخدم قضية إبنها ولا يقل خطورة على حياتها من الخطورة التي يمكن أن تتعرض له حياته. تصورت وهي تتكلم، بأن هناك أم ترى إبنها محاطا بالنار فلا طاقة لها لمشاهدة المنظر بدون تقديم يد المساعدة، وحتى إذا تطلب منها ذلك أن تقتحم النار بنفسها.

ــ زين... كلش زين أم سليم، بس نحتاجج أخبرج .

صورة أم سليم وكلامها، بمصداقيتهما وعنفوانها ظلا عالقين في ذاكرتي كإحدى تجليات عاطفة الأمومة المقدسة.

لم أكن أشك بإمكانية ام سليم على إيصال رفاق الى كوردستان فهي لديها علاقات جيدة بالأحزاب الكوردية. ويمكن أن تستفيد من ذلك . وقد فاتحت ثلاثة رفاق، ثلاثتهم رفضوا السفر الى كوردستان مبدئيا، وقبل أن يعرفوا أية تفاصيل . وهم كل من سلام الناصري ومحمد كريم فتح الله وماجد عبد الرضا.

× ذات يوم وجدت أبو حمدان في مكاتب صحيفة " طريق الشعب " فوجئت بوجوده وإستفسرت منه:

ـ ها أبو حمدان شتسوي هنا؟

ـ أدقق بعض الأوراق.

ـ مو كتلك لا تتصل بأحد؟

ـ مو أبو مخلص كلفني!

ـ ارجوك هسه تطلع، وارجوك متقبل أي تكليف بالمستقبل من أي أحد . آني راح اوضح الموضوع للرفيق أبو مخلص.

ـ كيفك رفيق! قال ذلك وخرج.

عرفت من أبو مخلص بأنه فهم من حديثي له حول لقائي بأبي حمدان ( الذي ذكرته في الحلقة السابقة ) بأني أريد إخباره بأن الرجل مزكى، فإستند على ذلك لتكليفه بمهمة تقع ضمن إختصاصاته، في أجواء العفو العام.

× في مقر الجريدة بالتأكيد، ولكن قبل أم بعد العفو العام، هذا ما لا أتذكره، لاحظت أحد الرفاق من كوادر الحزب يروي لعدد من الرفاق المسؤولين في أحد مكاتب الجريدة حكاية والآخرون يصغون له بأهتمام. شاهدت ذلك وأنا مارا من امام باب المكتب المذكور، فسلمت عليهم. وكان المفترض في هذه الحالة أن يدعوني الراوي للجلوس لسماع الحكاية ، الا إن شيئا من هذا القبيل لم يحصل. فتوجست خيفة . عندما خرج الرفاق عرفت بأن الكادر المذكور كان قد أستدعي للأمن العام. ولأن من واجبي أن اعرف مواقف الرفاق، دخلت على الرفيق وقلت له: ( فداك من راعك) . فروى لي قصة إستدعائه من قبل الجلادين في الأمن ... وكيف إنه قال لهم:

ـ آني رجل علم وهاي ركبتي مثل الشعرة كدامكم إذا جنت أكذب عليكم . فحنى كتفه ومد عنقه الى الأمام ممثلا الحركة التي قام بها في الأمن.

وإنهم طلبوا منه أن يكتب لهم بحوثا في مجال إختصاصه يحتاجونها . فوقع لهم تعهدا بذلك . بعد أن أنهى كلامه قلت له:

ـ رفيقي العزيز أبو ... كيف تبيح لنفسك وأنت رجل علم ورفيق متقدم في الحزب الشيوعي العراقي ولديك تجربة كبيرة في المعتقلات والسجون أن تتحدث بهذا الأسلوب أمام الجلادين؟ لماذا تحني رقبتك أمامهم ؟ من الذي قال لك بأننا يجب أن نقول الصدق أمام هؤلاء؟ وكيف توقع تعهدا للأمن بمساعدتهم حتى ولو كان ذلك في إختصاصك؟

ـ ولكن ألم يلق الرفيق د. كاظم حبيب محاضرات في الأمن في ميدان إختصاصه؟

ـ صحيح، لقد جرى ذلك، ولكن بموافقة المكتب السياسي ، وفي ظروف أخرى غير الظروف االحالية، التي حطموا لنا فيها جميع تنظيمات الحزب. وتعهدك سيكون الخطوة الأولى ، ولن يتركوك وفي آخر المطاف سيطلبون منك تنفيذ كل ما يرغبون.

ـ وما العمل؟

ـ تكدر تسافر للخارج؟

ـ لو أريد أسافر باجر أكدر أسافر .. عندي قريب بالكويت أكدر أكلفه يسوي لي دعوة .. وفورا راح يسويها.

ـ سافر بأسرع وقت. والأفضل تسافر وعائلتك وياك حتى لتتعرض للمضايقات من بعدك.

كان الرفيق حريصا أن لا ينزلق المنزلق الذي حذرته منه، فضحى بالكثير من الإمتيازات وسافر هو وعائلته وإبتعد عن العسف. كان لقمة أخرى دسمة يخطط الجلادون لإبتلاعها وساهمت بإحباط مخططهم.


يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح