الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تسواهن

عبد الرزاق عوده الغالبي

2016 / 10 / 22
الادب والفن



تسواهن


عبد الرزاق عوده الغالبي


هي فعلا تسواهن وتسواهم ايضاً .....!؟ ، لكن الزمن بالمرصاد لمن يرفد الخير زهواً ويرفس الشر حقداً وجفاءً ، ويتحرك غصن شجرتي ، في حديقتي الصغيرة ، فهو اعتاد أن يتحرش بي كثيراً ، كلما وقفت تحته ، يداعب أذني ، فأنا دائم الوقوف والنظر بخضرة الطبيعة ، عاشقاً لكل شيء أخضر ، كأن تلك الامتار التي بعدد الاصابع هي جنتي في الارض ، ابتسمت لتلك المداعبة ، هو أحد أحفادي ، الذي كان يمسك أذني دوماً ، ويتسنّم ظهري المنهد ، وأنا أتحمّل ذلك بشوق وفرح ، وأتذك قول جدي الذي كنت افعل معه نفس الفعل : ( أعز الولد ، ولد الولد ) ، وتهت في ربوع الله والخلق ، ثم عدت أستمتع بحديث أخي السيد ناصر اليعقوبي وهو يروي لي قصة تلك المراة العظيمة التي ألهمتني عظمة الله في خلقة الأحياء من بشر وشجر وحجر ، أثّث لنا الدنيا بأطيب الأشياء على أحسن ما يكون ، وأطلقنا فيها لنعمل ، وأول فعل استهللنا به حياتنا تلك ، هوعصيانه ، فنحن البشر أقرب مخلوقات الله الأخرى للشيطان ، إننا نلتقي معه بعصيان الله ، فهو عصى الله بعدم السجود لآدم ونحن عصينا الله بأفعالنا المشينة التي تغضبه.....

إمرأة بسيطة ، من الأهوار ، لا تقرأ ولا تكتب ، لا تعرف قواعد الحضارة ، والرقي المزيف كما نعرف نحن ، لا تحسن البهرجة والتشدق في الكلام ، حصتها من الحياة أن تجيد المثل العليا بحرفنة وتمكّن ، فهي تحسن الحرية وتمارسها بعناية وأناقة ، وكأن الحرية ثوب جميل تلبسه لتتباهى به بين النساء ، هي تعرف حقوق الله كاملة وحقوق الوطن والناس ، فهي لا تحسن الكتابة بالحروف بل تحسن النقش بالخلق والمثل العليا في قلوب وعقول من يعرفها ، امراة بطول شبعاد وبقامة عشتار ، عيناها تبرقان كعيني سميراميس ، يعزف منجلها في أبدان القصب والبردي ، كعزف قيثار شبعاد ، آيات الوقار هالة لا تفارق جسدها الملوف بعباءة الليل ، فتبدو كقطعة من ليل دامس ، يشع وجهها قمراً في سمائه الصافية المرصعة بالنجوم ، ترتدي صهوتها ، زورقاً صغيراً كفارس من فرسان سومر، وهي تمسك( المردي) سيفاً قاطعاً يقصم ظهر الماء ، من سيوف الشيباني ، ينساب زورقها بخفة ووقار فهو محترم بين البردي والقصب ، الكل يحترمه وينفرج مبتعداً عنه ليفتح له الطريق باحترام وهيبة، وكأنها ملكة من ملوك سومر تمر بموكبها في (گواهين) الهور......

هي تدرك حقوق الوطن وتجيد التغنج بالتضحية والإيثار ، وحب الوطن والناس دون أن تشوّه أيديولوجيتها العفوية ، بمشوهات الزمن المنهار، ومصطلحاته المصبوغة بالكذب والنفاق والشر والدم ، تعرف أن الإنسان حرٌ ،لا يسجد إلا لله ، سلعتها بسيطة فهي تقطع المسافات لتجمع القصب( والبردي ) من الهور، تبيعه بالسوق لتسد رمقها اليومي ، وتجهد نفسها فيضاً من جهد لتدخره لمحاربة الظلم رصاصاً ، لها سطوة في السوق ، فالكل يحترمها ويحسب لها ألف حساب ، حين تدخله (تسواهن) ، يهرب الظلم وتحل الحرية والوطن شذرات تلمع في جيدها السومري ، يلتف حولها من يروم أخبار الشهداء والجهاد ، تسلم الأخبار جدولاً لجميع أهالي الفارين من الظلم والخدمة العسكرية ، والمتسترين في ظلال القصب والبردي في الأهوار .....

تشتري بفيض ما تملك من نقود لعملها اليومي المضني حاجيات ورصاص لمجاهدي الأهوار من شباب مظلوم ومن فرّ من جيش الظلم ، وعقابه القاسي ، بقص الأذن والإعدام رمياً بالرصاص ، كجزء من واجبها الوطني والإنساني ووفائها لهؤلاء الشباب المظلومين ، كما تعتقد هي ، تعود في الصباح الباكر للأهوار لتسلم تلك الحاجيات لشباب الأهوار ، وتداوم على عملها المضني من جديد ، لتكسب رزقها كدورة الحياة ، ليل ونهار ، وفي ظروف كتلك لابد للشر من صولة ، وللخيانة من سطوة وغدر، وتترصد عيني الخيانة التي لا تخطئ خيراً ، ولا تبخس شراً قدره ، تلك الهالة الإنسانية وتلك القامة الوطنية ، وتطمس الحرية بين القصب والبردي ،عروس ليلة زفافها ، تزفها الملائكة عروس كلكامش ، الذي لا يزال يبحث عن الخلود ، ليخلد تلك القامات السومرية التي رسمت حدود سومر ، والعراق بالدم وأشكال التضحيات ، التي أذهلت كل طامع ، وقطعت رجليه من أرض الوطن ، طلقة حمقاء واحدة ، يا ويلها ، وهل تموت الحرية بطلقة حمقاء....!؟ ، مست الطلقة قلب (تسواهن) وهي تستأذنها باختراق شغاف هذا القلب الكبير ، الذي حمل العراق بين جنبيه ، أحسّت (تسواهن) بحرارة دموع الطلقة وهي تعتذر وتنتحب ، فالطلقة أشرف من مطلقها....

وصرخ البردي والقصب بأعلى صوته :

-" لقد جرح العراق ، وماتت الحرية....!؟"

تحركت (تسواهن) ورفعت رأسها المتدلي في الماء كشجرة ياس هزها الريح فانتشرعبقها في أرجاء الهور وقالت آخر كلمة أبكت الهور و القصب والبردي :

-" لا.....لا...الحرية لم تمت....!؟"

صرخ البردي والقصب مع صوت (تسواهن) وهي تشيعها الملائكة ، وتصعد بها فوق أطراف القصب والبردي :

-" لا .....لا.....لا.....الحرية لم تمت ...!؟"

وصار صوت (تسواهن) أغنية يغنيها القصب والبردي مزاميراً تعزف نشيداً يتغنى به الأطفال ، قضّ مضجع الطغاة ، ومزق دروعهم وشتتهم بين المشانق والحفر كالجرذان المذعورة ، ولدت (تسواهن) آلاف القامات السومرية التي بدأت تعزف لحن( تسواهن) ، لحن الحرية الخالد ، وترعب الطغاة وتهز كراسيهم الهشة.....

ووجهت كلامي لجليسي الراوي السيد ناصر اليعقوبي :

- " أليست( تسواهن) تسواهم وتسواهن فعلا ....!؟ "

ضحك السيد ناصر لقولي معتقداً ، أني ألقيت لغزاً ، ولكنه بعد ثواني ضحك حتى انقلب على قفا ه ، أيقنت حينها أنه أدرك قصدي تماماً.....



تسواهن = اسم امرأة شعبي منتشر بين سكان الأهوار ويعني أيضاً الأفضل
تسواهم = أفضل منهم
البردي = نبات في الأهوار يستخدم علف للحيوانات ويصنع منه الورق
المردي = عود من خشب أو خيزران يستخدم في تحريك الزوارق يدوياً
الگواهين = هي مسارات مائية عميقة في الأهوار لا ينمو فيها القصب فتكون كالشوارع تمر بها الزوارق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا