الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ربطة عنق 00 هدية

ياسر العدل

2005 / 12 / 30
الادب والفن


حين رجعت من سفرة كبيرة، كان على أن ارفع عيون حسد الزملاء عما جمعته من قرشين وأن اثبت دلائل العرفان والمودة لرؤسائى طمعا فى بعض سلطاتهم، اشتريت لبعض الزملاء سبح وطواقى وسجادات وزجاجات روائح، وخصصت رئيسى المباشر بهدية تصلح أن تكون رشوة لسفريه جديدة، اشتريت لرئيسى المباشر ربطه عنق من نوع فخيم.
فى الموعد المحدد، طرقت باب مكتب رئيسى المباشر، فأطلت رقبة مساعد رئيسى المباشر، يلقى على بنظرة عتاب وظيفية، مرددا أن رئيسنا المباشر مشغول فى أمر هام، وحين حزمت أمرى على القدوم فى وقت أخر، طالت يد الرئيس المباشر كتفى وسحبت جثتى للدخول فى مكتبه الوثير، شد رئيسى المباشر جلد عنقه تثبيتا لرابطة عنق تحاول الهروب من تزيين حنجرته، وتحسس جمجمته يتأكد من صلاحية رأسه لارتداء طربوش افتخاره بالوظيفة، وانهال يلومنى على سلوكى الوظيفى، يرانى أرتدى فى العمل قميصا وبنطلون، رقبتى عارية دون رباط عنق، اعلن رأيى فى الشغل والحكومة والزملاء، أفرق بين جودة الأعمال بغض النظر عن القائمين بتلك الأعمال، أرى الناس سواسية، الخفير والوزير مسخران لخدمة الجميع، وحين أنهى رئيسى المباشر كلامه بقول فصل، أن شخصا مثلى لا يصلح للوظيفة الحكومية، رأيته رئيسا متعاظما على الهدية، ورأيتنى استرجع أحداثا عشتها فى الطفولة.
كانت شمس العصارى تدلف من شباك حجرتنا الطينية، تحرك على جدارها الشرقى ظلالا لقش أرز وحمام وعصافير، تكشف المسامير وقطع الخشب المرشوقة فى الجدار، تلحس الملابس المعلقة على حبل يعبر الزاوية، تدفع بعض الحشرات الصغيرة للاختباء فى كوة استقرت بها لمبة الجاز وعلبة كبريت وصرة تضم لبانا وبعض البخور، كانت الشمس تسعى لأن تنير طربوش أبى، فأراه وعاء أحمر من صوف الجوخ ذو حافة جلدية بداخله خوصه من قشر الخيزران، معلق على مسمار خشبى رشقه فى الجدار بعيدا عن بقية المسامير، كان طربوش أبى وعاء كبيرا لا تناله أيادينا ونحن صغار، وكانت صعوبات جمع الخرز الملون وبكرات الخيط الفارغة وأغطية الصفيح لزجاجات المياه الغازية، سببا فى أن أحلم طوال الوقت بامتلاك الطربوش مخزنا خاصا يحفظ مقتنياتى بعيدا عن كل يد، كان أبى يعامل الطربوش برفق، ففى كل صباح يقف وسط دارنا المكشوفة للشمس، يمسح زغب التراب على جسده الأحمر، ويمشط خيوط زره السوداء، ويرفعه من الزر بإصبعين ثم يضعه على رأسه، ويحكم اعوجاجه على جانبه الأيمن، ويركب الحمار ويروح بعيدا إلى الشغل.
فى أيام الهناء، كثيرا ما انتظرت عودة أبى من الشغل، استقبله هاشا أحمل عنه الطربوش، وأبقى بجواره حتى يسقط الطربوش من عل فوق رأسى، فتنسد أذنى وينطفئ النور فى عينى، وتصيبنى شهقة انتشاء من هواء مضغوط، يدفع برودة الشتاء فى قفاى فأنكمش بردا فى حضن أبى، ويدفع رطوبة الصيف نحو كتفى فأستطيل منتعشا فى حجر أبى.
دارت الشمس شهورا وأسابيع، وأصبح حمارنا مجهدا، لا يقاوم الانزلاق فى لبخة الطين بشوارع الشتاء، فوقع حمارنا أكثر من مرة، وانداس الطربوش فى كل مرة، وتمزقت خوصته وتشوه بنيانه، وتعود أبى نسيان الطربوش على مسمار الخشب، واعتدت مداعبة أحلامى بجوار الحائط أسفل الطربوش، وحين طالت يداى معظم المسامير، اقتنصت الطربوش صانعا منه وعاء أحمرا له زر اسود، وربطت حبلا رفيعا فى ثقوب ظهرت بجانبيه، فى الليل أضع الطربوش على المسمار احفظ فيه لعبى، وفى النهار أجره على الأرض، وعند القتال أستخدمه منجنيقا لقذف الطوب على الأعداء من أطفال حارتنا، وعند الصيد فى البرك أجره وسط الماء قاصدا صيد السمك وصغار الضفادع.
بعد موت أبى، غسلت الطربوش ولففته برابطة عنق مزركشة قديمة، وحفظتهما مع الذكرى فى دولاب خشبى، كانت رابطة العنق غنيمة استوليت عليها من كلب هرب من أطفال ربطوا بها عنقه، وعندما أصبحت أبا أخذ أولادى يملون حديثى عن وقائع استخدام تلك الخرقة القديمة من صوف الجوخ، الملفوفة بسير من القماش المزركش.
عندما أصبحت موظفا حكوميا رأيت كثيرا من الزملاء والمديرين، يعلقون احترام ذواتهم على الفصل بينهم وبين صغار الموظفين، يمعنون طأطأة الرأس احتراما لطرابيش داستها بعض حميرنا، تخنق أعناقهم ربطات عنق مزركشة جررنا بها كثيرا من الكلاب، يدافعون عن أساليب قيادة تصنع المزيد من ربطات العنق المشوهة، ووجدتنى ابحث عن رئيس أخر أعطيه ربطه العنق الهدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غادة عبد الرازق: ليس لي منافس على الساحة الفنية ولا يوجد من


.. غادة عبد الرازق: الساحة الفنية المصرية لم تعد بنفس قوة الماض




.. الفنان درويش صيرفي.. ضيف صباح العربية


.. -بحب الاستعراض من صغري-.. غادة عبد الرازق تتحدث عن تجربتها ف




.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف