الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة البطريق ـ الحريق، الحريق 4

حمزة الحسن

2003 / 2 / 8
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



  ـ كل هذه المقالات خاصة بالحوار المتمدن.

في رواية سنوات الحريق الصادرة عام 2000 يردد كاظم النجار وهو تحت الاحتضار والغيبوبة( الحريق، الحريق!) وحين تسأل الممرضة الراوي ماذا كان يقصد بهذه الكلمات يجيبها( ربما يعني مجزرة قادمة ستكون الخاتمة ـ ص 83).

ولست هنا بصدد تقديم شهادة روائية عن هذه الرواية وهو تقليد أدبي معروف، بل أقدم هنا شهادة عن نبوءة سياسية على وشك التحقق مع الأسف العميق. وهذه ليست أول مرة يأتي ذكر مجزرة رهيبة قادمة في الأفق تكون الخاتمة، بل ورد ذكر هذه المجزرة في جميع رواياتي وبصورة مفصلة في رواية( عزلة أورستا) الصادرة عام 2001 وفي الصفحة 239 يدور هذا الحوار بين الراوي الأعزل وبين يوسف البابلي وهو مناضل عراقي يساري  هارب منذ عشرات السنوات:
( قلت يوما ليوسف البابلي:
ـ قد لا نجد يوما وطنا أو حائطا نتكئ عليه. سيحرقه" الطاغية" ويرحل.

وفي غمرة نشاف الريق والقهر و الحزن  المتراكم  والغضب النبيل، قال يوسف:
ـ  هذا أحسن.
ـ لماذا، يوسف؟
ـ لكي لا نجد أنفسنا غرباء مرة أخرى في وطن مستعار ومسروق. الجبناء على الأبواب كضباع الفطايس . هؤلاء في الانتظار. يومها بدل  أن تفتح أبواب الأمل، ستفتح أبواب السجون وتحت سماء ورايات جديدة. لن تتغير سوى العناوين والموت واحد. هذه النخب الفاسدة غير قادرة على إدارة مشروع التغيير الحقيقي... ).

وفي رسالة من كاتب صديق يتردد على عمان  كتب لي من بغداد رسالة قبل أيام يقول فيها حرفيا( قد نلتقي حين تتحقق نبوءة كاظم النجار، إذا بقينا على قيد الحياة!).

 إن شبح مجزرة قادمة يلوح في الأفق كغيوم  وحشية تحمل لون ظهر ضبع أو لون رماد المآتم، وما أكثر المآتم !

والعراقي هو الكائن الوحيد في الأرض الذي يلطخ وجهه بالطين أو بالرماد في لحظات موت الأعزاء أو الأحباب أو الأصدقاء.
وهو المخلوق الوحيد في الأرض الذي يكشط إسفلت الشوارع في مواسم الجنازات المسافرة في غير موعدها.
محظوظ من مات في موعده في العراق!
 نحن على موعد قريبا مع موسم الجنازات والمآتم لكن هذه المرة بدون مشيعين ولا قبور ولا أكفان.

 ستائر النوافذ ـ إن ظلت ـ هي الأكفان القادمة، وأنقاض الحيطان هي المقابر، وفئران الخرائب هي وحدها سيدة المكان.

 نحن نتجه إلى المجزرة.

وما جدوى أن تكون كاتبا أو مثقفا أمام المطحنة القادمة؟. إن الأمر يشبه إلى حد بعيد فزع عصفور وجد عشه مخربا فلم يملك غير الذهول  وضرب الأجنحة وغليان الدم والطيران المخبول في كل الاتجاهات.

إنه الفزع أمام الهاوية.
إنه ضياع قرن من الدماء و الفقدان والموت والمنافي والسجون والأحلام والرغبات المؤجلة في وطن سعيد وآمن وجميل.

 لكن، بما أن مهنتنا اليوم كمنتجي رموز وكلمات ورؤى وتصورات، لذا يكون السؤال الذي يشبه خنجرا في الخاصرة:
ـ كيف وصلنا إلى هذه الهاوية؟ كيف؟

هل تأخر السؤال أم تقدم؟ وماذا ينفع السؤال البريء أو الملغز أمام هول الكارثة المقبلة؟

حين ستقلع الطائرات أو الصواريخ في الطريق إلى بغداد  يكون قرن من النضال والتضحيات والآلام قد ذهبت مع الريح.

وهذه القنابل المسافرة إلى وطن معروض اليوم في المزاد العلني هل ستسقط سلطة أو دكتاتورا؟
أم أنها ستسقط أوهامنا العريقة والمعتقة التي لا حدود لها؟.

هل ستغير المجزرة لون العقل؟
هل ستمر عاصفة الموت على أيديولوجيا السحل وفكر التطهير السياسي المرتدي ثياب العنف الثوري والثورة المضادة ونزعة قتل الضحية المختلف وغير الشبيه والذي يرفض أن يكون رقما في مؤسسة؟ هل تنجح القبيلة القادمة الآتية من الغابة والعرق ـ قبيلة ما قبل الدولة ـ برموزها الواضحين وغير الواضحين في رفع الأنقاض من جثث الموت العاري في الشوارع؟

أم سنؤسس قبيلة جديدة بأخلاق الضبع؟
وكيف وصلنا إلى هذه الأسئلة؟ من الذي أوصلنا إليها؟.  

 من الفاشية إلى جنون الرأسمالية في طورها الوحشي، ماذا تبقى لنا؟

والقنابل التي ستسقط على بغداد، هل ستسقط على العادة والمفاهيم وعلاقات الخوف وفكر التطهير المغلف؟

 قال الروائي الألماني أريك ماريا ريمارك صاحب رواية ( للحب وقت، وللموت وقت) بعد سقوط برلين في الحرب العالمية الثانية إن القنابل التي سقطت على برلين سقطت على القاموس الألماني واللغة والسرير والعقل والمسرح...الخ..

لقد اهتز العقل الألماني ولم يعد هو. بدأت المراجعة وإعادة النظر بكل ما هو مألوف وسائد وبديهي ومقدس.

حدث التحول نفسه في بريطانيا بعد الحرب، وفي فرنسا حين استجاب المجتمع الفرنسي لتحديات الحرب ونشأت مدارس وفلسفات وأفكار جديدة وتهشمت قناعات وعقائد وقيم...

 الحرب لا تهشم مؤسسات وبنى بل تضرب صميم العقل البشري الحيوي وتبدل طرق التفكير وعلاقات الأسرة  وتحطم العقل السياسي الأجوف والفارغ والمليء بالدم.

 لكن، وبعد حربين مدمرتين، هل تغيرنا؟.

الرموز ذاتها، والأسماء هي هي، والأفكار صارت أسوأ مما كانت عليه، وعقلية المراجعة وإعادة النظر مستبعدة ومنفية ومهمشة ومطرودة من القرار والمشاركة والمسؤولية.

كأن كل هذه العواصف مرت على مقبرة.

لم تهتز قناعة.
 لم تتبدل فكرة.
لم تتزحزح رؤية.
لم تتغير وجهة نظر.

هل نحن ظلال بشر أم بقايا أنقاض؟
 هل نحمل عقلا  أم حشوة تبن؟

كل ساسة العالم يموتون حين يموتون إلا زعماء العراق في السلطة أم خارجها.
ما أن يموت زعيم حزب أو رئيس قبيلة أو مرجع وندفنه ونقرأ الفاتحة على روحه حتى يعود معنا من المقبرة ويشاركنا عيشنا، ويقرر وكالة عنا، ويكتب مذكراته السياسية التافهة وعلى الغلاف صورته وهو في مرحلة المراهقة كما لو أنه يشمت بنا وبعقلنا.

الموتى هم الذين يحكموننا منذ مئات السنين.
نحن نعيش في مقبرة، ونتزوج في مقبرة، ونحلم في مقبرة، ونفكر من داخل مقبرة، والموتى هم  الأحياء فينا.

هذه ليست ميثولوجيا للاحتفال بالموتى، ليس طقسا شرقيا يتجاور فيه الموتى والأحياء، بل هو  موت العقل.

موت التناسل الحقيقي.
موت النمو الطبيعي للكائنات.

ليس التناسل هو التراكم، بل هو بداية منطق جديد للحياة.
وليس النمو إضافة مقبرة جديدة، بل بناء عالم مشرق على أنقاض عالم متهاو، متهالك، خرب.

ونحن لا ننمو، بل نتراكم كالأحجار.
ولا نتناسل تناسل الكائنات الطبيعية، بل نتناسخ.

 المطلوب هو الشبه، والأصل، والنمط، والنموذج.
نحن نرفض البدايات.
كل بداية، في عقلية الثبات والموت و الذبول، هي خيانة.
وهذا هو موت داخل الحياة.

 تذكروا صرخة كاظم النجار في احتضاره الأخير:
 ـ ( الحريق، الحريق).

 وصرخة الأعزل:
ـ (  قد لا نجد  وطنا أو حائطا نتكئ عليه. سيحرقه ويرحل).

 وتصبحون على مجزرة !

 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصور المفبركة.. سلاح جديد في حرب الإعلام بين حزب الله وإسرا


.. الجيش الإسرائيلي يؤكد مقتل حسن نصر الله وقياديين آخرين في حز




.. اللبنانيون ينصبون خياما وسط بيروت هربا من قصف إسرائيلي مكثف


.. هل شاركت الولايات المتحدة في العملية الإسرائيلية ببيروت؟ وزي




.. عاجل | رئيس الأركان الإسرائيلي يكشف كيف تم اتخاذ قرار اغتيال