الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكمة العدس

فؤاد وجاني

2016 / 10 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


كان الفيلسوف ديوجانس الكلبي يتناول الخبز والعدس ذات ليلة فدخل عليه الفيلسوف أريستبوس المقرب من القصر وقال: إن شئت ألا تأكل العدس فكن تابعا للملك. رد عليه المتقشف ديوجانس: إن شئت أن تتحرر من تبعية الملك فعليك أكل العدس.
لم يكن ديوجانس الميت ثلاثمائة سنة قبل الميلاد ليعلم أن العدس قد يبلغ يوما لدى المغاربة ثمن نصف كيلوغرام من اللحم ليتفوه بحكمته تلك، فقد صار بسعره ذاك طعاما للطبقة البرجوازية. وإذا كان العدس في رأي الفيلسوف ديوجانس وسيلة للتقشف، ووازعا لحفظ النفس عن الجشع، وبالتالي سبيلا نحو التحرر من التبعية المطلقة، فلا أعلم ماذا سيأكل المسكين عندنا، المتحرر من أمور السياسة إجمالا، بعد أن ارتفع سعر ما كان يعتبره نعمة تقيه وساوس النقمة.
كثيرون من يؤرقهم ثمن العدس، طعامُ الفقراء بالأمس القريب، هم غالبية الشعب، لكنه حتما لا يؤرق من يتقاضى سبعمائة مليون كل يوم من أموال الشعب، ولا يقض مضجعَ من سيحصلون على تقاعد مريح جزاءً لسبات عميق تحت قبة البرلمان لمدة خمس سنوات، المصوتين على ميزانية القصر دون تمحيص أو تعليل فما بالك بالنبذ أو التقليل.
زاد ثمن العدس في وقت انكمش فيه صندوق المقاصة تحت غطاء الإصلاح، وتقلصت ميزانيتا التعليم والصحة، لترفع الدولة يد الدعم عن المواطن وتُبقي يد البطش فقط. زاد ثمن العدس ورَخُص المواطن بعد أن وضعته الدولة سلعة في المزاد السري للخصخصة. المدرسة الخصوصية تنتفه، وشركات الماء والكهرباء تنهبه، والدولة تستقطع منه الضرائب، والطريق السيارة تسلبه ذهابا وإيابا مقابل السلامة وإلا فعليه أن يلقي بنفسه في مخاطر الموت بالطرق "الوطنية"، والشرطة والدرك له بالمرصاد لعله يُصطاد في فخ شراكهم المنصوبة في كل تقاطع ومُفترق.
وعلى المواطن فوق كل ذلك أن يحافظ على سلامة صحته بشقيها العقلية والبدنية ومتانتها كي يؤدي الأدوار المنوطة به، فإن خانته يوما، خرج من سباق الدائرة المعيشية، لتلفظه مستشفيات الدولة المتقهقرة نحو المقبرة أو تستأصل المصحات الخاصة ما تبقى معه من ادخار السنين.
أتساءل كيف سيكون هذا الشتاء دون عدس، كيف سيأكل المواطن الفقير العدسَ الغني بالحديد والبروتينات والألياف والفولايت بعد أن صار ثمنه موازيا للدجاج -الذي لا يراه فوق مائدته سوى أيام نُزر في السنة-. ذلك العدس المبارك بالأمس، اللعين اليوم، صار عدوا كسائر الأعداء التي يواجهها المواطن بشراسة كل يوم، وبات أهلا للذم عوض المدح الذي سقاه به العالم والمغني والشاعر إسحاق بن إبراهيم الموصلي في أحد أبياته:
نِعْم الصديقُ صـــديقٌ لا يكلفني
ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج.
ولا شك أن قلوب الناس ستتحجر ضد نظام لا يدعم طعام الفقراء، فقد رُوي في التراث الإسلامي أن رجلا شكا إلى النبيّ قساوة القلب، فقال له: "عليك بالعدس، فإنَّه يُرقُّ القلب، ويُسرع الدمعة".
لقد أبانت ضائقة العدس عن أزمة في تدبير الدولة للشأن العام، وعن فشلها في سياستها الفلاحية، فالعدس ليس وجبة غذائية تملأ طاولة أغلب الشعب، إنما أحد مكونات السلم الاجتماعي.
السنة الماضية ارتفع سعر البصل ارتفاعا حادا، هذه السنة العدس، تصور أيها القارئ لو ارتفع ثمن الخبزة ليصل خمسة دراهم السنة المقبلة مثلا، ماذا سيحدث؟ حتما سنشهد انتفاضة كتلك التي حصلت في الدار البيضاء عام 1981، لكنها هذه المرة قد تشمل المغرب كله عوض مدينة واحدة.
لقد كشفت أزمة العدس أننا نعتمد في غذائنا، ونحن الدولة المتوفرة على أكبر مخزون للفوسفاط بالعالم، على دول أجنبية ومنها كندا. ماذا لو أصاب القحط ولاية كانساس الأمريكية مثلا، ولم تُصدّر إلينا الدقيق ذات سنة؟
ألم يصف الحسن الثاني نفسه بباني السدود، أين يذهب ماؤها؟ هل لري ّملاعب الكولف وضيعات الإقطاعيين والقصر الموجهة نحو تصدير الطماطم والفاكهة مقابل ربح الأموال الطائلة؟ أم لمزارع تضمن الغذاء الأساسي للمغاربة ومعه السلم الاجتماعي.
أسفرت أزمة العدس أيضا عن الوجه الحقيقي لأصحاب القرار في هذا البلد، الذين لا يملكون البصيرة الثاقبة، ولا يستشيرون الحكماء، بل هم وراء الربح المادي السريع وجمع الثروات على حساب مستقبل الوطن والمواطنين.
إن الموضوع أكبر من العدس، إنه ينم عن ثقافة سلطوية فاشلة، لم تتحرر من التبعية الاقتصادية حتى في المجال الغذائي، و لا تتوفر على برنامج فلاحي واضح المعالم ينشد الاكتفاء الذاتي ويضع نُصبه مصلحة الشعب أولا، وأنها ذات مسغبة ستأتي على اليابس وما بقي من أخضر في هذا البلد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح