الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دولة الموظفين

محمود الفرعوني

2016 / 10 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


الدولة المصرية دولة مركزية منذ قديم الأزل؛ هذه ألدوله كانت سبيل أجدادنا للتقدم والسيطرة على النهر؛ الذي كان أيضا أداة في يد كل حاكم للسيطرة وإحكام القبضة على الشعب المصري؛ لا يهمنا في هذا المجال كيف نشأت وتطورت؛ ما يهمنا الآن أنها كانت دائما في خلفية الصورة والمشهد السياسي ولها الحضور الطاغي بكل ما لهذا الحضور من سليات وايجابيات. كان من الطبيعي أن تفرز الدولة المركزية سلطة مركزية يخاف منها الجميع ويعمل لها ألف حساب مما يمنعهم في كثير من الأحيان من الحركة ويدفعهم إلى اليأس.
الفترة التي تعنينا في هذا السياق تبدأ من محمد علي؛ ففي عهده عادت الدولة المصرية إلى حالتها المركزية كأوضح ما يكون واستطاعت هذه الدولة المركزية أن تهيأ للمصريين المناخ المناسب للنهوض والتقدم تماما مثلما كانت مصر الفرعونية؛ غير أن الخارج كان لها بالمرصاد وجرى ما هو معروف وانتهى الأمر بتقليص الدور المصري. استمر الوضع على ما هو عليه؛ الأرض موزعة على كبار رجال الدولة كحق انتفاع فقط أما حق الملكية فهو في يد الدولة.
عندما جاء سعيد باشا للسلطة نقل حق الانتفاع إلى حق الملكية الكامل "اللائحة السعيدية" وصارت الأرض في مصر ولأول مرة في التاريخ ملكية قانونية لأصحابها؛ بذلك نشأت طبقة جديدة من كبار ومتوسطي الملاك وصارت تتطلع لمستقبل مشترك وصار لها رغبة في المشاركة في السلطة من واقع مشاركتهم في الاقتصاد. طبقة كبار الملاك كانت تضم في عضويتها المسلم والمسيحي جنبا إلى جنب الأمر الذي انتهى بإلغاء الجزية عن المسيحيين بعد أكثر من 1200 سنه من الذل والظلم. والغريب في الأمر أن إلغاء الجزية لم تصاحبه أية حوارات دينية ولم يتدخل الأزهر في الأمر من قريب أو بعيد. كان المشروع الفردي هو الأساس الذي ساند الإلغاء وليس الفتاوى الدينية.
كان المشروع الفردي الذي أفرزته اللائحة السعيدية؛ هذه اللائحة التي قننت الملكية الزراعية الفردية أقوى من كل المؤسسات الدينية ولم يترك لها مجالا للتدخل. كان من نتيجة المشروع الفردي الذي أطلقه سعيد باشا أن برزت إلى الوجود تجربة مصرية لها روافد أجنبية مدنية التوجه؛ وهي التي أحدثت كافة التغيرات منذ بداية القرن العشرين وقادت مصر نحو التحديث وقاومت الاحتلال الانجليزي وأشعلت ثورة 1919؛ وأشعلت أيضا خيال المصريين بفرص الالتحاق بأوربا حضاريا وهي فترة زاهية وثرية بكل المقاييس تميزت خلالها مصر بتقدمها عن كافة الدول الناطقة بالعربية وبالتالي لم يكن من الممكن ظهور فكرة القومية العربية آنذاك.
بحلول عام 1922 نالت مصر استقلالها وأنجزت في 1923 دستورها العظيم. وبعدها إبرام النحاس باشا معاهدة 1936 مع الانجليز وصارت مصر أكثر استقلالا واستقرت إلى حد كبير الأوضاع الداخلية. واتجه المصريون إلى التعليم. حتى هذا التاريخ كانت النخبة المصرية تراهن على الحريات الفردية وترى أن علاقتها بأوربا هي طريق التقدم؛ غير ان عاملين مهمين برزا على الساحة واحدثا انحرافا واضحا في المسار. العامل الأول هو ازدياد أعداد المتعلمين من أصول ريفية وكان لانضمامهم إلى النخبة اثر مفسد لها؛ فتحول الرهان من الحريات الفردية إلى الرهان على المستبد العادل؛ والعامل الثاني هو فشل حزب الوفد في تقليص دور كبار ملاك الأرض السلبي ومقاومتهم أي إصلاح زراعي وهو ما عبر عنه محمد خطاب في دعوته المتكررة بضرورة الإصلاح الزراعي فتح آفاق الأمل أمام جيوش المتعلمين الناتجة عن ازدياد عدد المدارس وكذلك فتح الطريق أمام التقدم الرأسمالي وما سيتبع ذلك من زيادة عدد فرص العمل أمام الجميع وبالتالي أغلق الوفد كل إمكانيات التطور الاقتصادي بسبب سيطرة فكر كبار ملاك الأرض على الحزب؛ من هنا حمل المثقفون لواء الحرب ضد الإقطاع ولم يعد أمامهم أي مخرج إلا المستبد العادل.
النخبة إذن أصبحت بيروقراطية (موظفين) والهدف هو المستبد العادل والجميع يبشر بالقادم باسم العسكر؛ الجناح العسكري للبيروقراطية المصرية جمال عبد الناصر. انتقلت النخبة التي أصبحت في اغلبها موظفين من الرهان على الحريات إلى الرهان على الفساد من خلال وضع قدم في ارض السلطة الجديدة التي لا تعرف إلا العلاقات الشخصية وتجميع السلطات في أيدي معدودة تنتهي إلى فرد واحد في النهاية. ولذلك علينا أن نوضح موضوع مهم وهو:
البيروقراطية المصرية وكيف حكمت.
أعاد محمد علي باشا 1805 الدولة المركزية إلى الوجود بكل سطوتها وسيطرتها على الاقتصاد وحيث الدولة هي المالك الوحيد للأرض والمصانع. مع عودة الدولة المركزية نشأت مرة أخرى طائفة الموظفين اللازمة لإدارة دولاب العمل. والمثير أن الوظائف وقتها كانت تباع وتشترى وتورث في حين أن الأرض الزراعية لم يكن تنطبق عليها هذه المميزات. وقد لعب الأرمن دورا هاما في تأسيس هذه الطبقة. بصعود طبقة كبار ملاك الأرض بعد سعيد باشا تنازلت البيروقراطية عن دور القائد للطبقة الجديدة والتي قادت مصر إلى التحديث النسبي والرغبة في الالتحاق بأوربا وكان التجلي العظيم لهذا التبادل ما نص عليه دستور 1879 بألا تزيد نسبة الموظفين عن 20% من مقاعد المجلس النيابي.
وصل عدد الموظفين في 1950 حوالي 350 ألفا وصارت أحلامهم وأطماعهم في المشاركة وإزاحة الإقطاع (كبار ملاك الأرض) من الخريطة السياسية. غير أن خيالهم السياسي توقف عند مقولة المستبد العادل وتوقف أيضا الرهان على الحريات الليبرالية؛ ربما بسبب أصولهم الريفية وخوفهم أصلا من الحريات الفردية. وساعد هذا الاتجاه على نمو حركة الاخوان والشيوعيين والحزب الاشتراكي (أحمد حسين) والكل يسعى للديمقراطية المركزية. معنى ذلك أن الجميع اليمين واليسار تأمروا على تدمير التجربة الليبرالية التي لم تكن تجزرت في مصر بما فيه الكفاية.
عندما يغادر مجتمع ما ساحة الليبرالية فإنه يتجه فورا إلى اللاسياسة؛ واللا سياسة تعني الحلول الإدارية الفوقية؛ والحلول الإدارية لا تملكها سوى أجهزة الدولة وهذا ما حدث تماما وكانت 52 مجرد تحصيل حاصل واستجابة لما طلبه الجميع. 1952 إذن ثورة بأدوات انقلابية بواسطة أجهزة الدولة "القوات المسلحة" لأنه لم يعد في الملعب سواها وشارك في صنعها الجميع.
1 الإقطاع أي كبار ملاك الأرض سد أفق التطور أمام المتعلمين وساعد في ذلك الوفد بالفقر الفكري وضيق الخيال السياسي.
2 وجود العديد من الأحزاب والقوى السياسية الشمولية من إخوان ومصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية.
3 هشاشة الرأسمالية المصرية؛ ويمكننا القول انه لم توجد في مصر طبقة رأسمالية متبلورة؛ وإن وجدت بعض مظاهر هذه الطبقة مثل البورصة؛ هذه الهشاشة الناجمة عن الأصول الزراعية لهذه الطبقة وعدم حسم الصراع بين الأفكار الرأسمالية والأفكار الإقطاعية جعلها اضعف من أن تقود التغيير نحو الأفضل في هذه اللحظة المفصلية.
4 التأثير السلبي للفضية الوطنية على قضية التحديث إلى حد ما؛ والربط تماما بين الاستعمار الغربي والحضارة الغربية؛ حيث لم تستطع النخبة وقتها التفرقة بين الاثنين كما فعلت النخبة الهندية؛ فنجحت الهند وفشلت مصر.
5 التشوه الذي أصاب النخبة بتزايد أعداد مثقفي الريف على مثقفي المدينة وما تبع ذلك من تزايد نفوز الفكر الإقطاعي وبالتالي الفكر الرجعي (أعضاء مجلس قيادة الثورة معظمهم من هذا النوع وكانوا أعضاء في الاخوان المسلمين).
كان الجميع في الداخل ومعهم الأمريكان؛ يعدون المسرح للقادم باسم العسكر؛ باسم البيروقراطية؛ باسم المستبد العادل؛ باسم الفكر السلفي؛ باسم عبد الناصر.
استولى عبد الناصر على النظام لكنه لم يستولى على الدولة فوجد المشاكل في طريقه يصنعها له دستور 23. الدستور هو دستور الدولة أساسا؛ مطالبة الدستور بإجراء انتخابات جديدة كان عبد الناصر يعرف نتيجتها سلفا؛ فدمج عبد الناصر الدولة في النظام. دمج الدولة في النظام هو جوهر الناصرية؛ وبالتالي فك الاشتباك بين الدولة والنظام ونقطة البدء فيه فصل النشاط الزراعي والصناعي والتجاري عن سيطرة الدولة هو القاعدة المادية الوحيدة لحصول الشعب المصري على حياته ولا طريق أخر.
دولة عبد الناصر المستمرة حاليا حتى بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو تسير أمورها وأمور الناس بالقرارات الإدارية المكتبية وهذا هو جوهر البيروقراطية وفي ذات الوقت تكره السياسة والسياسيين كراهية التحريم المعارضين منهم؛ هي لا تعرف إلا المواطن الفرد؛ ولا تعرف المواطن في جماعة سياسية حزبا كان او نقابة مستقلة عنها وبالتالي حارب عبد الناصر كل الأشكال التنظيمية وهي الحرب الوحيدة التي نجح فيها نجاحا باهرا وكان فيها قدوة بحق للعالمين.
لذلك في اعتقادي أنه لا حرية إلا بوجود قاعدة اقتصادية خارج الدولة أي خارج القطاع العام والتخلص من جيش الموظفين الذي لا عمل له إلا حلب البقرة وهي مصر وتكوين بديل سياسي ليبرالي حقيقي يستطيع أن يقود الجماهير لرؤيته من خلال:
دولة يقوم دستورها على مبدأ المواطنة الذي يكفل المساواة التامة في الحقوق والواجبات لكل المصريين.
دولة تحترم وتفعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجميع المواثيق الدولية.
دولة لا تميز بين مواطنيها على أساس اللغة أو الجنس أو المعتقد.
دولة تقدس الحريات الفردية والجماعية مثل حرية الرأي وحرية الضمير وحرية التعبير وحرية المعتقد.
دولة تضمن للأقليات نفس حقوق الأغلبية دون انتقاص أو تمييز.
دولة تقر التداول السلمي للسلطة.
دولة لا تقصي تيار أو حزب أو فئة من مسرحها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
أي دولة لا دينية ولا عسكرية










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر