الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مركب رشيد... استراتيجية إدانة الضحية

عصام شعبان حسن

2016 / 10 / 29
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


أقف على حافة الرصيف المقابل للسوبر ماركت، أتأكد من أن في حافظة النقود ما يكفي لشراء مستلزمات نصف الشهر. عند الكاشير، يقف خالد حارس العقار يحاسب على طلبات اشتراها لأحد السكان. جاء خالد من أسوان، ليعمل حارس عقارات، وانتقل من حي المهندسين إلى حي الزمالك ومنه إلى حي العجوزة، مثلث سكن بعض شرائح الطبقة الوسطى وقليلون من شرائح الطبقة العليا التي لم تهجر أماكنها إلى الكمباوند، الجامعي الذي هاجر إلى القاهرة بعد إنهاء دراسته كثيراً عن خالد. المحافظات الطاردة تجعل الاثنين نازحين إلى القاهرة. وقفت أتامل المشهد، ثلاثة من حراس العقارات يشترون للسكان سلعاً غذائية، لحوماً وخضروات أغلبها مستورد من دول أوروبية وعربية. بالأمس القريب، كان أبناء الجنوب والمحافظات ينتجون هذه السلع، وتقوم المدينة بالتصنيع، أُفقر الفلاحون وأهملت الزراعة وقفزت بهم معاناة الحياة للهجرة إلى سوق العاصمة بحثاً عن عمل. أمضى عمي فترة طويلة في العراق، مثل غيره من ملايين المصريين، استوعبتهم دول الخليج للعمل طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات. لكن لم تعد أسواق العمل بعد احتلال العراق وانهيار الاقتصاد الليبي، وازدياد المنافسة بين المصريين وغيرهم من عمالة جنسيات أخرى، قادرة على الاستيعاب، وفي ظل التزاحم يقل سعر العمل.
حاول أقرباء ومعارف الهجرة خارج المنطقة العربية، فشل بعضهم ونجح آخرون نجاحا محدوداً. أدركت أننا، أبناء الفلاحين الذين أفقروا والعمال الذين لم يجدوا مصانع وملايين الخريجين، أصبحنا بلا مستقبل، ثم يحدّثونك عن التشاؤم باعتباره تهمةً. تحول التشاؤم الذي يجد أسسه في تفاصيل حياتنا إلى موقف سياسي في عرف السلطة المصرية، فقبضت على مجموعةٍ بتهمة نشر بيئة تشاؤمية. وكان التشاؤم وليد اللحظة أو أنه بلا أسس، المتسلطون والمسيطرون على الثروة والحكم ومجموعات المصالح المتحلقة حولهم وحدهم المتفائلون، ولم لا، وثرواتهم تتراكم ومستقبل أبنائهم مضمون وآمن.
كان مركب رشيد الذي نجا منه 160 مهاجراً يحمل 600 شخص من المتشائمين، يبحثون عن الأمل المفقود في أوطانهم. أفارقة ومصريون وسوريون تجمعوا للغرض نفسه، وهو البحث عن عمل وحياة أفضل. الهجرة عبر البحر محاولةٌ قاسيةٌ تحمل مخاطر الموت بجانب الغربة. لكن، بحساب التكلفة ينظر المهجرون إلى التجربة بأنهم إذ نجوا يخلقون حياة جديدة. مشهد مؤلم هذا الذي شاهدناه عبر "السوشيال ميديا"، بدلاً من مشهد طفل سوري غارق على الشاطئ، وجدنا عشرات الجثث لأطفال وشباب ونساء تعفنت. الموت على الشاطئ عنوانٌ جديد لقصيدة غير رومانسية، استبدلها شباب الشعراء، بدلا من "وجوه على الشط". مشهد رشيد
واحد من المشاهد المتكرّرة منذ بداية التسعينيات، أصبح خيار الهجرة فى مصر ملحّاً، كما يفرّ السوريون من جحيم الحرب، عبر رحلات البحر المأساوية ومسيرات السير في الغابات، للوصول إلى أوروبا. أمام الحزن والإحساس بالحسرة الذي لفّ المجتمع بعد الحادثة، لم يجتمع مجلس الوزراء المصري إلا في اليوم الرابع . فوجئت السلطة بمدى الغضب الذي أنتجته الكارثة، فيما تشير أبحاث أجريت بشأن اتجاهات الشباب المصري نحو الهجرة، أنها ترتبط بشكل أساسي بطبيعة البيئة الاقتصادية والاجتماعية، وإن أغلب من تم ترحيلهم من أوروبا يريدون معاودة المحاولة في الهجرة، وتتراوح أعمارهم ما بين سن 16 -40 عاماً، وأكثر من نصفهم أقل من 30 عاماً، أغلبهم من خرّيجي الجامعات. انتهت محاولة أحد ضحايا مركب رشيد الثالثة للهجرة بالموت، وأمثاله كثيرون يحاولون الهرب من الموت المعاش إلى حياةٍ تعاش، حتى وإنْ خاطروا بالحياة.
تبدأ قصة المهاجر من البحث عن توفير ثمن الرحلة، يبيع كل ما يملك، وربما يقترض المبلغ على أمل سداده لاحقاً، إذا وجد فرصة للعمل، ثلاثة آلاف دولار متوسط ثمن الرحلة. بعد الاتفاق مع أحد المهربين، تبدأ الرحلة التي تستغرق سبعة أيام تقريبا على متن مركب صيد غير معد للسفر، وقد يحمل ثلاثة أضعاف حمولته الأصلية، يتراصّ المهاجرون على سطح المركب، حتى يصلوا إلى أقرب نقطة للمياه الإقليمية لإيطاليا، وساعتها يطلبون الإنقاذ من أحد السفن العابرة، أو خفر السواحل، لتبدأ رحلة اللجوء أو الترحيل إلى بلدانهم.
ليس الفرار إلى أوروبا مرادفاً لعدم الوطنية، ليس كرهاً للحياة، بقدر ما إنها المخاطرة بالحياة من أجل الحياة، محاولة لميلاد أمل جديد، بعد أن بخلت الأوطان بحياةٍ كريمة ممكنة.
بعد حادثة رشيد، استخدمت السلطة وأذرعها الأمنية توجيه الخطاب الإعلامي للاستراتيجية القديمة نفسها التي تستخدمها، وهى إدانة الضحية وتحويلها إلى جانٍ. يحاول المستبد التحرّر من مسؤوليته، ويرى قطاع من المقهورين الذين يلعبون دور المتفرّج، في حديثه، تطهراً وإبراء ذمة وتبريراً للصمت وإراحة الضمير. إدانة الضحايا أسهل من إدانة الجناة، حين كان يُقبض على أحد السياسيين، كان يهمس، في عصور الخوف، بكلمات الإدانة "وهو ماله ومال السياسة بس". وحين سحلت شابة وتعرّت فى ميدان التحرير على يد الشرطة العسكرية، قالوا "لابسة عباية بكباسين"، أو " وهي إيه اللي وداها هناك". وحين يتم التحرّش بامرأة في الشارع تدان "هي اللي خلت الناس تعاكسها"، ويبرّأ المتحرّش. إنها سلسلة من إدانة الضحية وتبرئة الجاني، إدانة الشعب الذي تراه السلطة كسولاً غير منتج وفاسد ويعيش عالةً على "الدولة". إنها الصورة الأخرى لتبرئة اللصوص والفاسدين، من نهبوا وينهبون ويتصالحون مع الدولة ويحكمون الآن، إدانة الفقراء والأضعف في شبكة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية استراتيجية تريد تثبيت الوضع، وعدم تغيره وإلقاء التهم على الضحية.
إنكار واقع البؤس أسهل من مواجهته، والهرب إلى الإمام وإلقاء اللوم على الضحايا استراتيجية للهيمنة، وهي لغة السلطويين، فبدلاً من الإقرار بخطأ السياسات، حاول إعلام النظام قتل التعاطف الذي نشأ بعد الحادثة المروّعة، فتساءلوا مستغربين: كيف لمن يملك 30 ألف جنيه أن يهرب من وطنه إلى رحلة موت. سؤال مستفز لا يستهدف سوى إقناع الشعب بأن من هاجروا شباب جشع، ولم يسألوا أنفسهم كيف يدبر المهاجرون هذا المبلغ، وكم يكفي في مصر للعيش بكرامة لأسرة مدة عام. لا يسألون رموز إعلام النظام وجنرالاته كم يصرف أبناؤهم في الشهر على رحلاتهم الترفيهية، ولما يتبجّحون على محاولة بعضهم البحث عن عمل، وهو يحمل روحه على كفّه، يوهمونك بأن مصر تتوفر فيها فرص عمل. ولكن، لا يجيبونك أين تلك الفرص. ينكرون مشهد مئات الألوف، حين يتم الإعلان عن بضع مئات من الوظائف، ألم يتقدّم للعمل في مسابقة للتعيين في وزارة التعليم نحو مليون ونصف مليون شاب، مع أن الوظائف المعلن عنها 30 ألفا.
يتكرّر حديث السلطة ورموزها عن الأمل وضرورة التمسّك به، تكرّرت عبارة "بكرة تشوفوا مصر أد الدنيا". لكن، إلى اليوم لم نر سوى تراجع في الأداء الاقتصادي وارتفاع في الأسعار واستمرار للأزمات. وأمام غضب الشعب من نتائج الحكم وسياساته، وانكشاف "الأمل الكذاب" على حد تعبير أم كلثوم، يتصاعد اليأس من هذا النظام، وتتعدّد طرق البحث عن أمل جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - البطل الحقيقى للقصة غائب و مختفى
هانى شاكر ( 2016 / 10 / 29 - 21:24 )

البطل الحقيقى للقصة غائب و مختفى
_____________________

و القصة هى قصة خالد الحارس ، و صديقه الطالب الجامعة المهاجر للقاهرة ، و الفلاح الذى لم يعد ينتج ، و المصنع الذى توقف ، و الضابط المفترى الذى يحكم مجلس المدينة ، و أمن الدولة ، و المحافظة ، و الوزارة ، و البنك ، و يرأس الجمهورية

أين كان الجميع عندما زاد عدد السكان من 20 مليون الى 100 مليون و تفسخت القرية و المدرسة و الجامعة و المدينة و الدولة؟

......

اخر الافلام

.. فولكسفاغن على خطى كوداك؟| الأخبار


.. هل ينجح الرئيس الأميركي القادم في إنهاء حروب العالم؟ | #بزنس




.. الإعلام الإسرائيلي يناقش الخسائر التي تكبدها الجيش خلال الحر


.. نافذة من أمريكا.. أيام قليلة قبل تحديد هوية الساكن الجديد لل




.. مواجهة قوية في قرعة ربع نهائي كأس الرابطة الإنكليزية