الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متحف للزعيم

علي شايع

2003 / 2 / 8
اخر الاخبار, المقالات والبيانات



لم يكن عبد الكريم قاسم اول رئيس جمهورية في العراق فقط ، لكنه ايضاً اول شخص عراقي يحكم العراق منذ الالف الثاني قبل الميلاد. سمعت هذا كثيرا في حديث ابي عنه،وسمعته يتحدث عن بطولاته العسكرية وما بقي منها اسماً خالداً في فلسطين في منطقة كفر قاسم،والتي قال انها سميت بإسمه !. وعنه يبعث في الصويرة بعد استشهاده بإربع سنوات، حتى يصدّق ذلك من اعدموه بإيديهم ، لتداهم المنطقة بفرقة عسكرية.
وكنت صغيراً اختلس احاديث ابي مع جدتي التي تبكيه في رمضان كثيراً، متذكرة معه افطارعلي بالسيف،قائلة: قتل صائماً مثله ،وحكم بعدد سنوات حكمه، ومترنمة ببيت من الأبوذية لم اعد اتذكره لكني عرفت انه مأخوذ عن أخر بيت من الشعر قاله الإمام؛
 
                     و سوف يورثهم فقدي على وجل              ذل الحياة بما خانوا و ما غدروا
 
وكانت تخفي ككل العجائز كنزها بعيداً عن اعين الطامعين،حتى وجد ابي وهو يخرج كل انية الطبخ من صندوقها الخشبي(( الفاتية)) تعزيزاً لما استأجرناه من الاواني إعداداً لمادبة الفاتحة على روحها؛ وجدّ ابي ما صعق الحاضرين في مكان الطبخ ، وهم يخرجون الخزف الصيني لغسله، وقت كانت صورة الزعيم لامعة ومذهّبة الحافات بعد مرور ربع قرن على ذكراه،مطبوعة بعناية فائقة على صحون جمعها ابي سريعاً وتوارى بها وسط ذهول من عرف، وتسائل من لم يعرف.
لقد عاشت ذكرى الزعيم عميقة في نفوس العراقيين، ولم تجد متنفسها الإ في الاحاديث الخاصة، المتنفس الوحيد للحديث عن الزعيم عبد الكريم قاسم،كان قبيل غزو الكويت وبعده ، والمعروفة اسبابه .ايام سمح النظام بنشر الكتب وفتح بوابات الحوار عن الزعيم في الصحافة العراقية، مع تحفظات شديدة ورقابة صارمة. مع هذا ظهرت الرغبات العارمة لدى العسكريين القدامى خاصة في الحديث عن نبله وسلوكه وندرة صفاته،وتسببت مقالات منها بتثوير الأسئلة المهمة، حتى سحبت بعض طبعات الكتب، ومنع نشر المقالات والحوارات عنه، ليغتالوه من جديد.
 عربياً بقي الزعيم مبهماً تلفّ سيرته الاحقاد والاجحاف، وكانت خطوة جريئة للاذاعي احمد المهنا في برنامجه"بين زمنين" الذي عرضته فضائية دبي قبل اشهر. ووضع خلال حلقاته الست وفي اقل من خمس ساعات سيرة أربع سنوات اختصرت تاريخ العراق الحديث واسّست لإيقاظ المهمل منه.وقد وفق احمد المهنا بتقديم صورة اولية عن سيرة الزعيم الزاخرة وبعض ما صاحبها من احدث،اعاد فيها الزعيم الى الاذهان، وقدم نموذجه الغير متكرّر للجمهور العربي. قدم الزعيم الذي بقيت الحكومات المتعاقبة تنشد تمثله للواقع وملامسته العميقة لضمائر الناس، الامر الذي يذكره اجهل اعداءه. ففي حديث لعدي صدام حسين نشرته صحيفة بابل العام الماضي ،يذكر فيه بقاء كريم الجده في قلوب وذاكرة العراقيين وحديثهم عنه ،ساعة بقي- مسؤول الانضباط العسكري- في موضعه الدفاعي حتى اخر اطلاقة له دفاعاً عن الزعيم عبد الكريم قاسم. لقد بقي هاجساً ومثالاً عراقياً رغم محاولات اغتيال تاريخه الكثيرة.
اغتيل الزعيم اول مرة وهو يهتف بحياة شعب العراق، اغتيل الزعيم الذي ظهر وجهه في القمر، لاحقاً ،رآه الفقراء ممن احبوه وارادوا له مكاناً سماوياً تطالعه امانيهم ،التي خيبتها التحالفات المتوحدة بشكل غريب ضد زعيم الشعب وابنه.اغتيل الزعيم ،وأسرع الخونة إلى دفنه تحت جنح الظلام ،دون ما معالم تذكر،في منطقة معامل الطابوق،خارج مدينة بغداد .
 في رواية الكاتب البرازيلي جورج امادو ((كان كان العوام الذي مات مرتين))،يروي قصة المتشرد النبيل كان كان، الذي يسرق اصدقائه من فقراء المدينة جثته من اهله الارستقراطيين، لإحتفال بموته على طريقتهم الخاصة. ويتحقق هذا الأمر لعدد من عمال معامل طابوق بغداد الذين يعملون شعالة طوال الليل ،الذين ارتابوا من وجود مجموعة عسكرية في تلك المنطقة ،فما كان منهم إلا أن ذهبوا  بعد مغادرة السيارة ليجدوا ما يشبه حفرة القبر وكانت المفاجئة جثة عبد الكريم قاسم، ويحكى انهم اخرجوه، ليكرموا مراسم دفنه في مكان آخر على اتم وجه، دفنه فقراء المعامل ممن احبوه واحبهم. لكن جثة الزعيم يأخذها الخونة من جديد لترمى في نهر ديالى ، بعد أن تم وضعها في صندوق صُب فيه الكونكريت.
كلّ عراقي يمتلك حكاية عن الزعيم الراحل ،ويتذكره فيها بحزن عميق، ولعل اجمل حكاية دعتني للتوقف عندها ، ومحاولة التحقق منها مستقبلاً ما روته لي زوجة احد الاصدقاء في زيارة عائلية لهم بعد عرض برنامج ((بين زمنين))، وحديثها عن صديقتها التي تسكن بغداد الان ،والتي اهداها والدها النائب ضابط السابق قبل الإنقلاب، بمناسبة زواجها نهاية الثمانينات قطعة ملابس (( روب)) كان من مقتنيات الزعيم!، لازالت تحتفظ به كأثمن هدية.
هكذا بقي الزعيم عبد الكريم قاسم في ذاكرة العراق ، تتدواله الضمائر بإنتظار تكريمه ، واحياء امره في محبة الفقراء ممن سكنتهم مودته وأورثوا محبتة للاجيال ، ولعلنا نسعد ذات يوم في رؤية مزار ومتحف وارشيف لهذا الزعيم الخالد، الذي تجنى عليه القتله حياً وميتاً، وجهدوا لإخفاء سيرته وإتلاف وثائقها ، فلم يبق من ارشيف الحكومة العراقية في زمنه أي شيء.
 وليس القتلة وحدهم من يتحمل مسؤلية هذا الامر ، بل ربما حتى المحبين للزعيم.واسأل بمرارة : ترى هل يتحمل الزعيم نفسه بعضاً منها؟ ، ربما، اذ عرفنا انه بنبله الكبير المعهود يطوي قميصه الملطخ بالدم ليرسله في رسالة عتب الى جمال عبد الناصر،بينما جاء صدام  ببنطال عليه دم كذب، ليضعه في نصب الجندي المجهول، مدعياً انه بنطاله يوم جرح في محاولة اغتيال الزعيم.
 تحية لذكرى عبد لكريم قاسم، ودعوة لمحبية بجمع كل ما يمتلكون مما له صلة به ، في متحف للزعيم، يقام بعد زوال الكابوس،اكرماً له ، ولمواقفه التي لا تعدّ ،ليكون اول بيت يمتلكه الراحل الذي ما امتلك بيتاً،ويكون مزراً لشهيد صارت قلوب العراقيين قبل ارضهم قبراً له.

 

 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على حلبة فورمولا 1.. علماء يستبدلون السائقين بالذكاء الاصطنا


.. حرب غزة.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطة بايدن والمقترح ا




.. اجتماع مصري أميركي إسرائيلي في القاهرة اليوم لبحث إعادة تشغي


.. زيلينسكي يتهم الصين بالضغط على الدول الأخرى لعدم حضور قمة ال




.. أضرار بمول تجاري في كريات شمونة بالجليل نتيجة سقوط صاروخ أطل