الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة بعنوان الوتد

رحيم الحلي

2016 / 11 / 1
الادب والفن


قصة قصيرة : الوتد
كتابة : رحيم الحلي

الشمس نزلتْ أسفل الأفق وكانها حطتْ رحلها في الطرف البعيد، لتستريح بعد نهار مضنٍ تعبَ فيه الجميع، إما قُرصها الكبير فقد لون الرمال بلون أحمر قان، فاثأر ذلك فيهم شيئا من الكآبة، والإحساس باليأس والإحباط والضياع، عندما غشيهم المساء، وحين تعذر عليهم ان يجدوا مأوى، وحين أيقنوا ان ثلاثة عشرة فرداً، يسيرون مجتمعين في الصحراء، أمر يثير الاستغراب والريبة، ويعرضهم للاعتقال، أصبح لزاماً عليهم ان يتفرقوا، كي لايلفتوا النظر أثناء سيرهم وهم يقطعون الفيافي، اختار أبو ذر في مسيرته سليم رفيقاً له، الشاب الرقيق الذي أحب الأدب، وحفظ قصائد مظفر النواب.
في البادية لا يمكن للمرء ان يستقبل ويستضيف في بيته الصغير المنسوج من شعر الماعز هذا العدد المثير للتساؤل المشروع والخوف أيضا ً، كان سليم اقرب أفراد المجموعة إلى نفس أبي ذر الشاب النحيل الذي انهى دراسة الاقتصاد، وكان ناشطاً في احد الأحزاب اليسارية، جذبه إليها شعارات الدفاع عن الفقراء، ثم وجد نفسه في هذا الحزب إذ جذبته أفكار العدالة والمساواة، وبعد سنوات قليلة من العمل في هذا الحزب، هاهو ألان ضائعا ً في هذه الصحراء، إما سليم طالب الماجستير في جامعة لندن الذي عاد في الصيف لزيارة أهله في بغداد، ثم أتت الحرب مع ايران، ووجد نفسه عالقاً غير قادر على العودة إلى جامعته لإكمال الدراسة، بعد قرار منع السفر، اضطر إلى الهروب خارج الوطن، وهاهما يسيران لوحدهما يوحدهما حب الشّعر والأدب بألوانه، ويتقاسمان مرارة هذه الرحلة المجهولة، تعذر عليهما معرفة مصير بقية المجموعة، مضت ثلاثة أيام، لم يعثرا على اثر لأحد، عند غروب نهار أخر، وحين أوشكت الشمس ان تنسحب من المشهد تماما، كان يتهيئا ليناما في إحدى الحفر كما في الليالي الماضية، ان قطيع الأغنام الذي ظهر من بعيد، كانها نقاط سوداء في هذه اللوحة القاتمة، زرعت في نفسيهما الارتياح، حين اقتربا من القطيع، وجدا فتىً صغيراً يرعى هذه الأغنام، جلسا عنده بعض الوقت، عرفا ان اثنين من المجموعة قد مرا منذ ثلاثة أيام، شعرا بالحزن لتفرق المجموعة، اقتنعا بان من المستحيل، ان يلتقيا مرة أخرى وسط هذه الصحراء الشاسعة اللعينة، طلب الراعي منهما ان يذهبا إلى البيت، حاول صاحب البيت ان يطردهما عندما اقتربا من مدخل خيمته أو بيته، لكن زوجته وبخته بشدة .
ترفع الخيمة المنسوجة من شعر الماعز الأبيض اعمدة خشبية، تفصل بين اقسامها الثلاثة، قواطع صوفية تشكل جدران البيت، الجزء الأيسر هو ديوان الضيوف، إما الجزء الأوسط فهو مخدع الزوجية، حيث تحيط به أربعة أضلاع من القصب، دخلا مترددين تتعثر خطواتهما، وكاد الخجل ان يطرحهما، لم يتعودا ان يكونا ذليلين بهذا الشكل وغير مرغوب بهما، احْمّرَ وجه سليم وقد تحجّرت دمعتان صغيرتان في طرف عينيه، بعد ان تناولا عشاء لذيذاً كان بيضاً مقلياً بالسمن العربي، دخلت امرأة في الأربعين من عمرها إلى مكان الضيوف، كانت زوجته الأولى كما قدمت نفسها، وهي تحمل فراشاً وفيراً، بدا نظيفاً للغاية وقد جُهّزَ حديثاً و هو فراش زواجه الثاني، الذي حصل قبل فترة قصيرة هكذا تحدثت الأولى متندرة متهكمة، حاول العريس ان يتملص من ضيوفه، حيث لا جدران تكبت الأصوات، وهو لا يريد ان يخسر ليلة من لياليه الأولى، اما هما فلقد ناما بمجرد ان وضعا رأسيهما على المخدة الناعمة، غرقت أجسادهما النحيلة المتعبة في صوف الفرش الوفير، عند الصباح أيقظهما صاحب البيت، ثم وضّعت أمامها صينية كبيرة، عليها صحون اللبن والقشطة والزبدة والبيض، أكلا بشهية مفرطة، دون ان يفارقهما القلق، حيث سيخرجان مرة أخرى إلى الصحراء، عليكما ان تعملا راعيين للأغنام، تفرقا يابني لن يحتاج البدوي سوى لراعٍ واحد، هكذا أشار عليهما صاحب البيت قبل ان يودعهما ثم دست صاحبة البيت ورقة نقدية في جيب احدهما، قائلة ربما تحتاجان للنقود يا أولادي كان الله في عونكما .
عادا إلى البحر الأصفر الكئيب والمخيف، ربما يبتلعهما عندما ينفد الماء والطعام، وحين لايجدا أحداً، فان الموت عطشاً سيكون مصيراً محتوماً، تنغرز أقدامهما في وحول الرمل الناعمة، والليل موطن الخوف، يجعلهما يرتجفان في ساعاته الأخيرة قبيل الفجر، وهما ينامان متعانقين يتلاحفان بأجسادهما الملتصقة كجسد واحد، سمعا دقات قلبيهما، وحدتهما الغربة والوحشة والضياع والخوف، مرت أيام عديدة يناما على الرمل في الحفر والجحور، سمعا عواء الذئاب دون ان يخافا، كان خوفهما الوحيد، هو ان يقعا بأيدي الذئب البشري، الذئب العادي يدفعه الجوع، إما الذئب البشري يدفعه الحقد في أذاه، فرحتهما كبيرة حين ينامان على الفرش في احد بيوت الشعر، ويتدثران بغطاء، وحين ترى عيونهما سقفاً يمتد فوق راسيهماا، منسوجاً من الصوف أو شعر الماعز، فيشعران بالبهجة والهدوء، هذه البيوت كانت أجمل من القصور، حيث تمنحهما الأمان والدفء لسويعات قليلة، فينامان بعمق حتى يوقظهما صاحب البيت إما لتناول الفطور أو الرحيل مبكرا .
تمر أيام عديدة يقضيانها في العراء تحت وهج الشمس في النهار والبرد أواخر الليل، حتى يعثرا على بيت يعيدهم للحياة مرة أخرى، يستريحان لليلة واحدة، ثم يتزودان بالطعام والماء حتى أانقضت أسابيع وهما على هذه الحال، ارتديا ثياب البدو كما نصحهما احد مستضيفيهما، لكي يندمجا في مجتمع البادية، ثم اقتنعا بان عليهما ان يفترقا، كل واحد يذهب في اتجاه يبحث عن احدٍ يؤويه، يعمل معه راعياً، فقد نال منهما التعب والإجهاد، عليهما ان يستريحا، تعانقا بشدة بكيا كثيراً قررا ان يفترقا وكانا طول المسافة المرئية ينظران لبعض حتى تحولا لسراب وذابا في الأفق، فلم يلتقيا مرة أخرى. عصر ذلك اليوم الذي يسميه أبو ذر يوم الفراق، كان يمشي وحيدا ً، متكدراً وهو يفارق صاحبه وحبيبه، لقد انقضت ساعات عديدة وهو يسير بمفرده، لن يستمع إلى الوتريات الليلية التي كان يقرأها سليم كثيراً، ظهرت أمامه تلة رملية حجبت الأفق، حين أصبح في أعلاها، انبسطت أمامه قطعان من الأغنام أثارت البهجة في قلبه، وظهرت أمامه من بعيد أربعة بيوت متباعدة، الليلة ستنام على الفراش لا على الرمال، إلى أي بيت أتوجه ؟ سأل نفسه سأذهب إلى البيت الأيسر، هاجمته كلاب شرسة، فخرجت صبية سمراء جميلة، وهي تنهر الكلاب، وخرج رجل يبدو انه والد الفتاة، دعاه للدخول، وبعد ان استراح قليلاً، تناول طعام العشاء، جلبت الفتاة طعاماً لذيذاً، تحلقن حول الضيف ثلاث فتيات، كان الأب طيباً مبتسماً يرحب بضيفه، وكذلك الأم التي طرز وجهها قوس من الوشم الأزرق، لم يتكلم أبو ذر الا قليلاً وهو يرد على أسئلتهم، أراد ان يداري لسانه الذي يكشفه، حاول ان يقلد لهجتهم لكن البدوي ابتسم وقال لست من هذه الديار ! يبدو انك من ارض بعيدة، تطمن ياولدي واخبرنا، أصر أبو ذر ان لايفصح عن هويته حتى تحصل ألفة بينهم، في اليوم الثالث، قال صاحب البيت لقد انقضت أيام الضيافة، تحدث يابني وكن مطمئناً، ان سرك في بئر، حينها قص أبو ذر قصته، نزلت الدموع من عيون الفتيات، وحين هم بالخروج، طلب منه الجميع ان يبقى بينهم مثل ابنهم، قائلين لقد فقدنا أخانا الذي لدغته أفعى كبيرة وهو يسرح بأغنام الأسرة، نريدك أخا لنا، بكت الأم بمرارة وهي تتذكر ابنها الذي فقدته منذ عام وقد دفنوه عند التلة .
مضت أيام يعيش بينهم، يخرج أحيانا إلى الرعاة يتلقط أخباراً عن أصدقائه، عن سليم الذي ربما وجد أسرة أحتضنته، ذات يوم سأله احدهم الذي جلس عنده يتجاذب أطراف الحديث، وهو يحاول ان يستنطقه، اراك أتيت من الشرق ياصاحبي، اخبرني الرعاة انهم وجدوا أغرابا، عرفوا من لهجتهم انهم متعلمون وأبناء مدن، عمل بعضهم رعاة ومات البعض الأخر، وجدوا احدهم مشنوقاً على شجرة يتيمة عند البئر الكبريتي، وأخر وجدوه منذ أيام ميتاُ من العطش، كان يرتدي دشداشة بنية غامقة، مر ّعلى جماعتنا، بدا مذعوراً وحكى حكاية هروبه، كان سياسياً، خاف جماعتنا من إيوائه، فطلبوا منه الرحيل ليلاً، ثم وُجدَ ميتاً بعد عدة أيام، عرف أبو ذر ان سليم قد فارق هذه الدنيا اللعينة، ثم مشى هائماً يبكي صديقه الذي رافقه طويلاً، ندم كثيرا للفراق فقد أقترح سليم عليه ان لايفترقا، شعر بالذنب والحزن، لم يكن أمامهما خيار أخر في هذه الصحراء اللعينة الا ان يموتا معاً، وكان ذلك الأفضل هكذا أيقن أبو ذر في النهاية .
عاد إلى البيت، انتبه الجميع انه كان يبكي فلقد احمرت عيناه، يمتاز البدوي بفطنة شديدة، وبقوة الملاحظة، قال الأب يابني انسى الماضي يابني إذا أردت ان تعيش هنا في الصحراء انسى انك ابن مدن، انسى انك درست كثيراً، تعلم مهنتنا في رعي الأغنام، وطريقة معيشتنا، أصبحت منا سنزوجك إحدى بناتنا لتعيش معنا إلى الأبد.
حل الخريف في هذه البقعة النائية في الصحراء، بدأ يتعلم الرعي وطرقه، انواع العشب المفيدة والضارة، الانتباه إلى حركة الذئاب وفتكها ثم الانتباه إلى الأفاعي والعقارب والعناكب الخطرة، المناخ أصبح لطيفاً في النهار وبارداً في الليل، وعند حلول المساء، كان يعود بقطيع الأغنام، لتقضي هي الليل قرب الخيمة، ولينام هو على الفراش لا على الرمال، وفي ساعات الغبش الصباحي، يخرج بأغنامه ممتطياً حماره، حيث الشمس لازالت غافية، والظلام يخيم على المكان، يسري بها بين الإعشاب ساعات عديدة ثم يعود بها مرة أخرى، كي ترد الماء، حيث تمتد أمامها قنوات معدنية، تُملأ بالماء من الخزان المحمول بالعربة الكبيرة، يحضر الجميع لحلب النعاج، وبعد تناول الفطور يذهب بها بعيدا ً، لكي تتناول الاعشاب في البراري .
الرياح في الصحراء هي محنة أخرى، حتى ولو كانت خفيفة، يصبح الهواء أصفر بعد ان يمتلئ بالغبار، وإذا اشتدت الرياح فان الغبار والتراب المتطاير يغلفا كل شيء فتنعدم الرؤيا، وتنخلع كثير من أوتاد البيوت، أو تقع بعض الأعمدة التي تحمل هذه البيوت، فتنهار على من تحتها، الحياة شديدة الصعوبة، عليه ان يشرب من الماء المتجمع في البرك، وقد تكاثر فيه البعوض، وان يغتسل كل شهرين، ذات يوم أحس بحكة مؤلمة، حين خلع ثيابه وجد القمل يمشي بين ثناياها، أراد ان يتصل بعالمه الذي أحبه، فأوصى على جهاز راديو صغير، بدأ يسمع الموسيقى والأغاني والأخبار والبرامج الأدبية. قالت له الأم بعد عودته بالقطيع :ستعيش معنا، سنعطيك إحدى بناتنا، سننسج لك بيتاً، ونعطيك بضعة نعاج تبتدئ بها حياتك الزوجية، قم لكي تستحم في المربع، فلقد سَخِنَ الماء، خلع ثيابه وجلس القرفصاء قرب قدر الماء الموضوع على النار، ثم دخلت عليه البنت الكبيرة وهي تحمل له صابونه وثوباً نظيفاً، أحس بالخجل فأطبق ساقيه، واضعاً يديه فوقهما، فخرجت مبتسمة وهي تسترق النظر، أصبح يفكر بها، بالزواج منها، ان يترك الماضي وراءه، الشتاء على الأبواب فالزوجة ستمنحك الدفء والطمانينة في هذه الأرض الموحشة، لابد من حواء تدق لك وتداً في أرضك الجديدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي