الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-غنيمة- المرأة الحلزون

لمجيد تومرت

2005 / 12 / 31
الادب والفن


قصة قصيرة
في طريقه إلى المدرسة الجديدة التي نقل إليها تعسفا و دون رغبة منه، استرعى انتباهه كائن غريب يتحرك بعيدا أمامه ببطء شديد في نفس الاتجاه الذي يسير إليه. كان الكائن ، في هالته شبه الدائرية ودبيبه الحثيث ،يشبه حلزونا أسطوريا ضخما . دفعه الفضول وحب الاستطلاع إلى الرفع من إيقاع سيره للحاق بهذا الشكل الهلامي حتى تتضح تفاصيل صورته أكثر...كانت دهشته عظيمة حين اكتشف أن هذا الشيء الضخم، رزمة كبيرة..هالتها وحجمها يضاعف حامله مرات ومرات..و حين تعمد إسقاط محفظته كي يتمكن من التقاط الصورة من زاوية أفضل وأقرب، كانت دهشته أعظم...فقد كان الذي يحمل هذا العبء الثقيل امرأة عجوز تكاد الرزمة تخفي هيكلها...كان جسدها النحيل يشكل زاوية قائمة ،ضلعها العمودي نصف جسدها السفلي ، ونصف جسدها الفوقي ضلع الزاوية الأفقي ..يبدو أنها أحست بفضوله وحركاته الاستطلاعية ..فقد لمح في عينيها بريقا من التقزز والاشمئزاز والامتعاض، حين أدارت رأسها نحوه و أطلت به عليه ، بعد أن أشاحت عنه بعض ذيول الرزمة بيد رفيعة.
تزحزحت مقتربة من الطوار ..و بحركة عجيبة و بدقة متناهية، وضعت العجوز الرزمة الضخمة، المشدودة بعناية تامة إلى صدرها الهزيل، على حاشية الرصيف...دون أن تسقط من على ظهرها..ودون أن تفقد التوازن...هب إلى مساعدتها على التو ..، لكنها اتقته بيدها وكأنها تعفيه من عونها، كانت في تلك اللحظة قد أتمت إنزال رحلها بسلام. أحس ،في نظراتها إليه هذه المرة ،بنوع من الرضا عنه ..بدت له ملامح وجهها أكثر إشراقا ،يجللها حزن دفين...لاشك أن خلف هذا الوجه الصغير، الدارسة أطلاله، مأساة وحكاية عجيبة..القسمات و النتوءات تؤشر على شباب وجمال ضاع ألقهما في عذابات السنين ...خصلات شعر جللها البياض فزاد المرأة وقارا وهيبة..لن يدركهما إلا من شعر بعبء ما تحملت وما تحمل هذه المرأة من أثقال...
قبل أن يتركها ويتابع طريقه إلى العمل، نبست إليه بصوت خفيض لا يكاد يسمع قائلة:- "لا تحمل همي يا ولدي..لهلا يوخر بيك زمان...قادرة نهز خيمتي وهمومي قدر ما كبرت ..و نحط رحيلي وقت ما نبغي وفين بغيت ...سير ياولدي..لا تتعجب ..سترك الله..الوقت توخر بيك .. كيما توخر بغنيمة البوبوشة ..." التقطت كل جوارحه الحكمة بإصغاء شديد مرهف..وتابع طريقه إلى العمل، قبل أن تبطأ به الدقائق المتبقية..وقد أكبر في المرأة كدها وكبرياءها . ظلت صورتها وحكمتها موشومة في الذاكرة .
طلب الأستاذ من التلاميذ ضمن الأسئلة الاختبارية التي ذيل بها النص، أن يصوغوا من خيالهم نهاية للقصة. و أثناء تصحيحه للأوراق في اليوم الموالي ، استوقفته نهاية كتبتها أنجب تلميذاته ..." وبعد خمس سنوات ..في مساء ماطر ..كانت" غنيمة" تحاول العبور إلى الرصيف الآخر من الشارع الرئيسي . وكنا نراقب المشهد عن بعد، مختبئين تحت شرفات العمارات حتى لا تبتل ثيابنا ومحافظنا،
وكانت حركة المرور قد وصلت إلى أوجها ..يبدو أن المرأة قد أعياها الانتظار وحملها الثقيل.. فغامرت بالعبور..فكانت الفاجعة المروعة ، شاحنة طائشة تصدم العجوز وترديها جثة هامدة ..و تفصل الجسد عن الرزمة .. مات الحلزون حين تسرع ... وشاع خبر موت" غنيمة" في المدينة ..تأسف من تأسف..وحزن من حزن. وفي اليوم الموالي ، كان النعش والدفن الهزيل... وبعد أيام ، ما عاد أحد يذكرها ...وبعد خمس سنوات بطيئة ، يذكرنا أستاذ اللغة العربية بحكمة "غنيمة"، المرأة الحلزون ،التي ما كنا ندركها حين كنا أطفالا تستهوينا مضايقتها والتسلي بها في الدرب و في الطريق إلى مدرسة الحي الابتدائية "...
قرأ الأستاذ هذه النهاية على التلاميذ في حصة تصحيح الاختبار، عرف أن الحدث فيها لم يكن متخيلا ،بل أعجبته الصياغة و أعجبه الموقف الذي عبرت عنه تلميذته ..أدرك الأستاذ مرة أخرى أنه لم يخطئ حين كتب القصة.. وحين اختارها لتكون موضوعا لاختبار وتقويم كفايات التلاميذ لإنتاج نص سردي مستمد من الواقع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال




.. الفنان السعودي سعد خضر يكشف لـ صباح العربية سبب اختفائه عن ا


.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله




.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع