الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتسول الصغير

حبيب مال الله ابراهيم
(Habeeb Ibrahim)

2016 / 11 / 3
الادب والفن


المتسول الصغير
قصة قصيرة
د. حبيب مال الله ابراهيم

- لم يبق في هذا البيت سوى متسول صغير.
هذا ما تمتمت به شفتي السيدة نجوى لزوجها الدكتور هادي في أصيل أحد أيام الشتاء. كانت واقفة أمام نافذة غرفتها تنظر إلى البيت المهجور، حين قام زوجها كأنه تذكر شيئا ونظر إليها قائلا:
- أتعلمين لماذا أصبح ذلك الطفل متسولا يا عزيزتي؟
ذهلت الزوجة وسألته باهتمام:
- عن أي طفل تتحدث؟
-الطفل المتسول الذي ما زال في ذلك البيت المهجور!
خطا نحوها ووقف بجانبها ينظر هو الآخر إلى البيت المهجور وقطرات الندى غافية على أديم النافذة تحول دون رؤية الخارج بوضوح:
- وماذا يعنيك من أمره؟
نظر إليها وقال كأنه يهمس:
- اجل، ماذا يعنيني؟
كأنه يبحث عن سبب مقنع لما يريد القيام به، وأردف أخيرا:
- أتعلمين بان الفضول يقتلني!
- أي فضول؟
قال بقلق خشية أن ترفض فكرته:
- الفضول من أن اعرف دوافع تشرده.
جلست السيدة على حافة السرير غير مكترثة تنقل نظرها بين أصابعها:
- يبدو انك بدأت الاهتمام بالأطفال بعد أن عجزت عن إنجابهم لك.
التفت نحوها بعد فترة صمت وتشجع قائلا:
- أتسمحين لي بإحضاره؟ سنضمه الينا وندخله المدرسة عسى ان يكون من المتفوقين.
تنهدت، وكادت أن تبكي قبل أن تجيبه:
- تستطيع الذهاب، ثم أكملت:
-كيف ستخرج في هذا المطر؟ ألن تأخذ مظلتك معك؟
فابتسم وهو يقول:
- عمل الخير لن يبلله المطر.
خرج الدكتور هادي مسرعا قبل أن توسوس نفس زوجته وتغير رأيها في قبول الطفل، حين توقف أمام الباب الخارجي لذلك البيت المهجور أطال النظر إليه متأملاً ملامحه، يتملكه الشوق لمعرفة من كانوا يعيشون يوما بين جدرانه. اهتدى إلى السلم وبدأ الصعود إلى الطابق الأول ودار بين أرجاء الغرف باحثا عن المتسول الصغير. شعر بإخفاق حين عجز عن إيجاده، فتخيله جالسا على رصيف تائه بانتظار من يتفضل عليه بقطعة نقود. وقبل أن يهم بالنزول سمع صوت أنين، فدخل غرفة إلى اليمين مفتوحة على واحدة اصغر على اليسار، وشاهد على الأرض رجلا عجوزا مستلق على حصيرة قديمة وعلى مرأى منه يستلقي المتسول الصغير، وهو في السابعة من عمره، له شعر أصفر وعيون تكحلها براءة سن السابعة، قام العجوز وقال بصوت أجش:
- من أنت؟
- أنا الدكتور هادي، واسكن في البيت المجاور.
وأشار بيده إليه. ضحك العجوز الثمل بسخرية، وسأله الطفل بعد ذلك:
- لماذا جئت؟
نظر إليه باهتمام:
-جئت من أجلك.
نظر إليه الطفل في ذهول في حين أكمل هو:
- لمحتك زوجتي من نافذة غرفتنا وأخبرتني بوجودك.
تدخل العجوز الثمل:
-لك زوجة أيضا (وضحك بسخرية)
-تعال معي يا صغيري، سوف آخذك إلى البيت.
قام الطفل، بينما ابتسم العجوز قائلا:
- اللعنة عليكم أيها الأطباء، إنكم لا تولون كبار السن الاهتمام الذي تولونه للأطفال، كأننا أدخلنا الى الحياة دون رغبة فينا.
أصبح عوني منذ ذلك اليوم طفلا محظوظا بعد أن شطب اسمه من قائمة المتسولين، لم يعد يراه أحد على قارعة الطريق يتحدث بهذه اللهجة الميئوس، كي يكسب شفقة الآخرين، صار يستحم كل يوم ويتناول ثلاث وجبات كأي طفل من أطفال ذلك الحي الهادئ. عرفته المدارس بعد أيام، فطبع خطواته على الطريق المؤدية إليها مع زملاء في سنه، وعند طريق العودة كانت سعادته بحياته الجديدة تدفعه لرؤية زملائه ممن كانوا يتسولون معه، لكنه لم يظفر برؤية أحدهم لذلك كان يتردد إلى الأماكن التي كان يجلس فيها كلما راوده الاشتياق.
في أحد أيام الربيع الدافئة رن جرس الباب، فأسرع الدكتور هادي لفتحه وزوجته تنظر من النافذة. وقع نظره على مجموعة من الأطفال، فمد إليه أحدهم يده مصافحا فصافحه الدكتور وهو يقول لهم:
- أهلا يا صغار، صديقكم عوني يدرس في غرفته.
قدم أحدهم إليه صندوقا صغيرا، تناوله وفتحه في الحال. وجد فيه عملات نقدية فسألهم باستغراب:
- لمن هذه؟
رد أحدهم:
- نقدمها لصديقنا عوني.
تعجب الدكتور وسألهم من جديد:
- لماذا؟
-لأنه طلب منا ذلك.
وقال آخر معاتبا:
- لماذا لا تعطه النقود، ألست غنيا؟
ابتسم قائلا:
- لكني أعطيه ما يريد واشتري له ما يطلب.
انصرف الصغار دون أن يقتنعوا بكلامه. حين التفت إلى الوراء رأى زوجته وهي واقفة عند الباب منتصبة فسألها:
- أسمعتي ما دار بيننا؟
أومأت بالإيجاب ومضت إلى الداخل. في اليوم التالي زار الدكتور مدرسة عوني وجلس مع مدير المدرسة في غرفته، اخبره بأن عوني يتسول من زملائه فبدأت دموعه تسيل. استفسر المدير عن سبب هذه الدموع. لم يتمالك نفسه فأفضى له بما لديه وحين انتهى من حديثه، واساه المدير قائلا:
- إنك رجل طيب القلب وعمل الخير لا يضيع.
*****
بعد أسبوع على تلك الحوادث شوهد الصغير عوني جالساً على الأرصفة، يدخل المحال ويتحدث بهذه اللهجة الميئوس ليكسب شفقة المارة. دخل اسمه من جديد إلى قائمة المتسولين وراوده الاشتياق إلى المدرسة التي قضى فيها أشهرا. كان ينظر إلى بنائها العالي والتلاميذ خارجين منها وفي نفسه حنين للعودة إليها. أغلب الظن إنه كان يأتي لرؤية زملائه، فيقف في مكان يرى ولا يُرى.
اشتاق إلى النعمة التي اضاعها، لذلك لفظه البيت المهجور من جديد. عاد يقاسم العجوز الثمل حياته ووعد نفسه لو ضمه الدكتور هادي إليه من جديد ألا يتسول أو يفسد حياته، لكن هيهات لأن الدكتور هادي قد مات، أما زوجته فقد كانت تنظر إلى الشارع من نافذة غرفتها في شقة واسعة في حي جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات