الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثالثاً : الأيديولوجيا الدينية

رمضان عيسى

2016 / 11 / 4
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الدين يوفر العزاء والراحة ، ويغذي روح الجماعة ، ويرضي حنيننا لمعرفة سبب وجودنا . وهو العزاء في الأوقات الصعبة ، وفي كونه يرسم نهاية بعيدة جدا للبشرية ، غيبية تترك أثرها على العقل الجمعي والأخلاقي . وأحد مظاهر الدين هو الحب العنيف المتركز على الشخصية الماوراء طبيعية ، مثل : "الله " ، " أُولاهيم " ، أو غير ذلك والتي نجد لها مسميات مختلفة باختلاف الشعوب . إنه يبث فينا المشاعر المطمئنة والدافئة عن كوننا محبوبين ومحميين من المخاطر ، ويلغي فينا الخوف من الموت بالمساعدة السماوية كجواب على الصلوات .
والدين في التحليل النهائي ، هو الإيمان بأفكار تشرح علاقة الإنسان بالمجهول ، الغيب . هو مزج أسباب غيبية خيالية بالأحداث الواقعية ، هو استنساخ المجهول بدافع الخوف والجهل . فالجهل هو الأب الشرعي للخوف ، والخوف هو الأب الشرعي للأسطورة ولتشكيل المجهول . فالخوف من المجهول قد خلق لدى الإنسان في مراحل تفكيره البدائي جملة من الأفكار والتصورات عن العالم ، الكون ، ظواهر الطبيعة والمجتمع والموت ، تجمعت مُكونة منظومة فكرية ومعتقدات لها انعكاس عملي في الحياة . لقد كان نتاجا لا واعيا في زمن اللاوعي .
وانطلاقا من هذه المعتقدات دأب الإنسان إلى ممارسة طقوس وعبادات من أجل استعطاف المجهول ، الغيب . والطقوس الدينية هي ممارسات وحركات عملية يعتقد من يمارسها أنها تجلب له رضى الإله الذي يعتقد به ، وحينما يمارس الإنسان هذه الطقوس يشعر بالاطمئنان والسكينة لاعتقاده بأن الإله سيجلب له السعادة ويبعد عنه الشرور .
وقد تنوعت وتعددت هذه المعتقدات والطقوس والعبادات لدى شعوب العالم حسب الموقع الجغرافي ، وكيفية صراعها من أجل الحصول على الغذاء ، وكيفية تفسيرها للظواهر المحيطة بها . وهذا ما يفسر لنا تعدد الديانات لدى شعوب المعمورة .
إن الطقوس تختلف من دين إلى آخر ، فهي تتوزع بين الدعاء والصلاة ، وقراءة النصوص الدينية في أوقات معينة ، والسهر ليلا ، إلى تقديم القرابين وتقديس الأماكن من مبانِ أو جبال أو وديان أو كهوف أو مغاور أو أشجار أو آبار تدور حولها روايات وقصص وأساطير ، وزيارة كل ما له تاريخ ديني ، مثل أضرحة الأولياء والأنبياء والرسل . وقد تصل الطقوس إلى ذبح أحد البشر وتقديمه كقربان إلى أحد الآلهة ، أو إلقاء عروس في النهر كما هي عادة مصر القديمة .
من هنا كان الدين معتقدا لإنسان العصور الأولى والذي أنتجه الخوف والعجز عن مواجهة الطبيعة ، والخائف يقف دائما في موقف ضعف ورجاء للمجهول الذي يقدسه لكي لا تنزل به المصائب الطبيعية أو الاجتماعية . وإذا ألمت به مصيبة خاصة أو عامة ينتابه شعور بالتقصير فيزيد من الرجاءات والدعوات للمعبود لكي يزيل هذا الكرب ، وبهذا يقنع نفسه بأنها ستكون ساترا له من مصائب في المستقبل 0
فالدين هو العزاء النفسي للخائف من ماذا بعد ؟ هو الرفض للحاضر السيئ ، والأمل في الجنان المزهرة بعد الموت كتعويض عن الأنين والألم في الدنيا الحاضرة . ولما كان الشعور بسوء الحياة هو شعور شبه دائم لدى الإنسان لما يواجهه فيها من ظلم وحروب وفقدان أحبة بالموت وصراع بين البشر ، لهذا تراه في طموح دائم نحو الأفضل ضمن إمكانياته الفكرية .
والدين يرشده إلى أن الأفضل ليس في هذه الدنيا ، بل بعد الموت ، في الجنان الموعودة في السموات العلى، والتي سيكون له نصيب فيها بقدر زيادة الرصيد من الطاعة وكسب رضى الآلهة .
والدين له جاذبية عند البسطاء من الناس لاحتوائه على كثير من قصص الأقوام الغابرين سيقت كدروس وعبر لترهيب العصاة ، ووصايا أخلاقية وأوامر ، ومن أطاعها كان له الثواب والحياة الأبدية في الجنة .
إن السعي لكسب رضى الآلهة يدفع المؤمن إلى السكينة والهدوء والقناعة والصبر على المكاره والرضى بقدر الله خيره وشره ، أملا أن يجد التعويض ونيل النعيم الأًخروي .
والمجتمع البشري بعد أن تخطى مرحلة المشاعية في الحصول على الغذاء ، أصبح واحة لعذابات الجموع الغفيرة من العبيد والأقنان والفلاحين والعمال ، فكان الدين هو الملجأ والعزاء النفسي لهم ، ويرشدهم إلى الطريق لكسب ما تعدهم به السماء .
ولكن الدين كمنظومة فكرية واعتقاديه ليس لها اعتراض على التقسيمة الطبقية في أي مجتمع ، فنجد الكثير من النصوص الدينية ليس لها اعتراض على الفقر أو الغنى ، أو الملكية . كما لا نجد اعتراضا من النصوص الدينية على نوعية نظام الحكم ، ملك ، والي ، خليفة ، رئيس ، ما دام من نفس الدين الذي يدين به شعبه .
إن الدين لا يقوم على ترغيب المؤمنين بالجنان والحياة الأبدية فقط ، بل يقوم بترهيب الناس ويتوعدهم بنار وقودها الناس والحجارة ، ويزرع فيهم الخوف من سوء المصير بعد الموت ، ولاتقاء هذا المصير السيئ يجب طاعة الوصايا الدينية ، وطاعة أُولي الأمر ، فإن طاعة أولي الأمر من طاعة الله .
وبهذا نجد الخليفة العباسي المنصور يقول : " إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده , أطيعوني ما أطعت الله فيكم " . وهذا يعني أن من خالفني ، فهو يخالف أوامر الله لأني ولي أمركم في هذه الدنيا ، فمن أطاعني ، أطاع الله ، ومن عصاني ، إنما يعصى أوامر الله .
وبهذا فقد وجدت أنظمة الحكم الملكية والديكتاتورية في الدين ضالتها المنشودة والتقت مصالحهما في السيطرة على الجموع الغفيرة من الناس ، عن طريق تعظيم عنصر الخوف .
ولكن لماذا هذا التزاوج بين الدين والدولة ؟ ذلك أن كلاهما يرتبط وجوده بأن يكون فوق المجموع ، ومسيطر على المجموع . فالدين يُخضع المجموع بالخوف والترهيب من الآلهة في الحياة ومن عقابها بعد الموت . ووسيلته زرع الأمل والترغيب في حياة فاضلة بعد الموت في الجنة .
وهذا الاعتقاد يخلق مجموعة من المطيعين لأولي الأمر والمسالمين والقانعين والمؤمنين بالقضاء والقدر خيره وشره ، وأن الحياة مَعبرْ ، ولا تطمع في مال غيرك ، " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض "(سورة النساء – 32 ) ، فهذا حسد ، وعليك بالأعمال الصالحة وطاعة الوصايا الدينية لأنها هي الطريق إلى الجنة .
أما الدولة ، فتقوم مصالحها على السيطرة على الشعب ، الجموع الغفيرة من الناس ، وذلك بزرع المفاهيم التي تجعل وجودها بهذا الشكل دائم ، وقمع التمرد عليها بكل الوسائل . فالعنف مرتبط مع الدولة منذ ظهورها في التاريخ . فقد قامت إما لإدارة الحروب ، أو لإخضاع الجموع من الناس لسلطتها .
وفي هذا يقول مكيافيللي في نصيحته للحاكم انه يجب عليه "حماية الدين ولو كان هو نفسه لا يؤمن به لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير وعلى تثبيت سلطانه."
قال نابليون : " الدين شيء ممتاز لإبقاء العامة من الناس هادئين " .
وبينما نجد أن البسطاء والعامة يعتبرون الدين حقيقة مطلقة نجد أن الحكماء يعتبرون الدين زيف ويصلح لخداع العامة ، والحكام يعتبرون الدين مفيد لحكم العامة ، بينما العلماء يعتبرون الدين ستارا يحيد بالناس عن الرؤية العلمية ، في حين نجد الفلاسفة يعتبرون الدين مخدر طويل المدى .
من هنا نرى أن الدين يرتبط وجوده بوجود الظلم الاجتماعي والجهل ، وهو الصرخة والرجاء التي يطلقها المضطهد موجها إياها لعالم الغيب . إن هذه الصرخة هي التعبير عن عدم الرضى عن ما هو موجود من ظلم واستعباد ، وعدم تكافؤ فرص ، إنه احتجاج على وضع تغيب فيه العدالة الاجتماعية ، ويسود فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .
في زمن العاصفة تلجأ السفن إلى أقرب مرفأ . وأينما يكون الظلم والفقر يلجأ الناس إلى الدين ، إلى رجوات الغيب ، والدين يوحي لهم بالأمل والجنان والراحة والمتعة بكل ما هم محرومون منه .
وهنا لا بد من السؤال : هل للحلول التي يطرحها الدين لها مردود واقعي في الحياة ؟ بالطبع لا ، فوعود الغيب بعد زمن طويل في عالم الغيب . إن جهل الإنسان بالحلول الواقعية ، أي إمكانية إزالة الظلم بالنضال والثورة والتمرد وتحقيق الأحلام في الواقع ، جعله يسير في الطريق الخطأ ، أي اللجوء إلى الحلول الوهمية التي يوحيها له الدين .
ولكن ما دامت هناك طبقات اجتماعية وفوارق اقتصادية صارخة ، ويعيش البعض على حساب الآخرين ، هنا سيكون ظلم ، وأن تلجأ جموع غفيرة من الناس إلى الدين ، وأن يؤمنوا أن هذا هو قدرهم الذي قدره الله لهم ، وهو عزاؤهم في الدنيا والآخرة ، ولا ملجأ منه إلا إليه . والمسار الطبيعي للمظلوم اجتماعيا أن يلجأ للاحتجاج والتظاهر والإضرابات والثورة ومقاومة الظلم بكل قوة ، أما أن يلجأ للغيب ، للدين ، فهذا يعني أنه في حالة استسلام ، تخدير ،أو جهل صارخ بوضعه الاجتماعي ، ولماذا هو هكذا ؟ وليس في حالة وعي ومعرفة ، ولا يعرف ماذا يتصرف ، لأنه لا يعي ما هو مفقود له كإنسان .
ولما كان الناس ليسوا على نفس المستوى من التعلم والمعرفة والوعي ، وهناك مصلحة للبعض أن تكون جموع غفيرة من الناس جهلاء ، خصوصا القابضين على السلطة والدخل الوطني ، فانه ستبقى جموع من الناس تلجأ الى الدين الذي يمنحهم الأمل والصبر والقناعة والإيمان بالقدر خيره وشره .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اين المفر
على سالم ( 2016 / 11 / 4 - 15:52 )
مقال رائع استاذ رمضان ووصف دقيق وشامل لعذابات البشر وبؤسهم وذلهم منذ ان بدأت الخليقه التعيسه والى الان , من المؤكد انها معضله ومن الاستحاله حلها , مشكله ازليه وتراكميه معقده , ايضا المستقبل يبدو اسوأ نظرا لتفجر السكان العشوائى بدو ضابط , بمعنى ان الملايين والملايين سيواجهوا مصير اسود حيث الفاقه والعوز والبؤس والموت جوعا ومرضا , ربما هذا يلفت نظر البؤساء والبلهاء والمتواكلين ان يتمهلوا ويفكروا قبل ان يتسببوا فى حضور طفل بائس ومؤكد سوف يكون من الهالكين التعساء , ربما هذا درس للبؤساء ان لايكرروا المصيبه ويكونوا سببا فى حضور بؤساء اخرين الى هذا العالم الظالم


2 - = ما سبب استمرار وجود الأديان
رمضان عيسى ( 2018 / 12 / 14 - 23:59 )
؟
1 - - الجهل ..!!
2 - الخوف من المجهول ...
3- اختلاف القدرة الاستيعابية لدى الانسان ...
4- قوة العادة السائدة في المجتمع تفرض على الفرد الخضوع ..
5- وجود طبقة أو سلطة مستفيدة من وجود الأديان وقصصها وأوامرها .
6- استسهال الأجوبة الدينية عن ما بعد الموت .
7 - تضخيم الصورة عن قوة الآلهة ، مقابل تقزيم امكانيات الانسان .
8 – تصديق وعود الآلهة أنها ستستجيب للدعاء ..
9- - اشتعال الصراعات بين الأم ، القوميات ، يعزز التمسك بالخصوصية الدينية .
10- الأفكار والقصص الدينية مريحة لعقول البسطاء، والمأزومين .
11- تقبل الفكرة العلمية في الحياة العملية سهل، ولكن التخلص من الخرافة صعب جداً .


3 - انجلز والظاهرة الدينية
رمضان عيسى ( 2020 / 2 / 8 - 10:41 )


إن إنجلز بتحليله الظاهرة الدينية من منظور الصراع الطبقي قد أبرز القوة الاحتجاجية للدين وشق الطريق بتناوله العلاقة بين الدين والمجتمع لنهج جديد و متميز عن الفلسفة التنويرية التي ترجع إلى القرن الثامن عشر.

فالمسيحية لم تبدو في نظره مثلما كانت تبدو في نظر فيورباخ، بوصفها “جوهرًا منفصلًا عن الزمن” بل هي تبدو بوصفها شكلًا ثقافيًا يتعرض لتحولات في العصور التاريخية المختلفة: فهي تبدو في البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجيا الإمبراطورية الرومانية، ثم بوصفها أيديولوجيا ملائمة للهيراركية الإقطاعية وأخيرًا بوصفها أيديولوجيا تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي.

حاول إنجلز فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان، فالدين عنده ظاهرة موضوعية تنتمي إلى الوعي الاجتماعي، وله القدرة في ظل ظروف محددة أن يلعب دورًا إيجابيًا في اتجاه تحرير الإنسان من الاستغلال

اخر الافلام

.. Politics vs Religion - To Your Left: Palestine | فلسطين سياس


.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي




.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل