الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فصل المقال وبيان ما بين الدولة والوطن من الاتصال

محمد جلال

2016 / 11 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


دعنا في البدء نقف قليلا عند هذا العنوان، فالعنوان مستلهم من العنوان الذي وسم به أبو الوليد ابن رشد كتابه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، وقد انتهى فيلسوف قرطبة ومراكش، بعد فحصه لماهية الشريعة وماهية الحكمة، إلى أن الشريعة لا تعارض الحكمة بل توافقها وتشهد لها، وذلك من جهة أن الحكمة تتحرى البراهين، ومن جهة أن الشريعة تدعو إلى النظر العقلي، وهو في ذلك يقول "إذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" (فصل المقال لابن رشد، ص 35). فما جهة اتصال الدولة بالوطن في مقالنا نحن؟
نحن هنا لا نتحدث عن وطن بعينه، ولا عن دولة بعينها، بل نتحدث عن الوطن والدولة بإطلاق. ونحدث أساسا عن تمثل الوطن والدولة، وكيف نفكر في هاذين الكيانين، كيان سياسي وإداري وعسكري هو الدولة، وكيان جغرافي وهوياتي وعرقي هو الوطن، ولا شك أن الأول لا يجد تعبيره إلا في الثاني، وأن الثاني لا يفكر فيه إلا بوجود الأول، لكن الوطن أعمق من الدولة، وأكثر تجذرا منها.
الدولة تحمل في معناها التداول، فهي، بما أنها كيان سياسي، تنتقل من جماعة سياسية إلى أخرى، وتتداولها نخبة سياسية تدير شؤون المجتمع والناس، فتضمحل دولة وتأتي محلها دولة أخرى، وهذه سنة عاش عليها الإنسان منذ أن انخرط أول مرة في العيش داخل الجماعة السياسية. تتبدل الدول وتُتَداول فيما بين الناس بحسب تغير الظروف السياسية والاجتماعية، منها ما تضمحل تماما لتأتي محلها أخرى جديدة، ومنها ما تتغير فقط في أشكال حكمها، والتاريخ يؤكد صفة الاضمحلال والتبدل التي طبعت مجموعة من الدول (المدينة بالمعنى الكلاسيكي)، تبعا لحركة التاريخ، كما قد تنشأ دول أخرى جديدة كلية، وهنا مربط الفرس.
إن الدولة لا تنبت فجأة كما ينبت العشب، بل تتشكل بفعل اتحاد إرادة جماعة من الناس الذين يوحدهم عمق الانتماء الجغرافي والهوياتي والعرقي المشترك، نعم كان هذا هو المفهوم الكلاسيكي للدولة، فمن لم يتحد مع الجماعة البشرية لغويا، هوياتيا، عرقيا...لم يكن مرحب به داخل الدولة، فهو بربري منبوذ عليه أن يبحث عن انتمائه في مكان آخر، لكن الدولة بالمعنى الحديث شيء آخر تماما، فالدولة، بما أنها كيان سياسي وإداري وعسكري، تضمن العيش لسائر الناس الذين ينتمون إليها شرط أن "يلتزموا" بالقانون الذي هو روح الدولة، فهذه الدولة ترحب حتى بأولئك الذين اعتُبروا قديما برابرة، بل إنها تمنحهم حق الانتماء التام إليها.
هل نقول بعد هذا أن الوطن كذبة كبيرة ؟ ألم يبق للوطن وجود بعد أن وجد هذا الكيان المتماسك "جدا"؟ كلا إن الوطن جوهر أعمق من هذا الكيان المحكم جدا، فإذا كانت الدولة تعيش معبر عنها في الجماعة، فإن الوطن يعيش في الأفراد، وكم من الناس قد هجروا دولهم ورحلوا إلى دول جديدة، لكن الوطن لم يرحل من نفوسهم، فالوطن يعيش في المكان الذي لا تستطيع الدولة العيش فيه، إنه يعيش في روح الأفراد. للوطن قيمة رمزية في أنفس الناس، ولا يمكن بحال من الأحوال أن ينسلخ الإنسان "السوي" من وطنيته كلية، قد يرحل المرء عن أرضه، وقد يعيش في أرض أخرى، أرض يعتقد أنها رمز للتعدد والتنوع، لكن هويته تخلد حية فيه ما حيا، وعبثا يقال أننا نعيش في زمن موت الهويات، فالحرب الحقيقية الآن هي حرب هوياتية بالأساس، حرب يعبر عنها في الإعلام، في الملابس، الهواتف، السيارات...الخ، إنها حرب لفرض الهوية وقتل الهوية الأضعف.
الوطن هو الهوية، هو الذاكرة، هو روح الشعب، أما الدولة فلا تعبر إلا عن التنظيم "المعقلن" والمحكم، الذي يحاول ضبط حياة الناس بما يكفل بقاء هذا الجهاز المنظِّم واستمراره. ولا غنى للإنسان عن هذا الجهاز، وقد اعتبر أرسطو قديما أن الدولة من الأمور الطبيعية وأن الإنسان كائن سياسي بالطبع. أما أنها من الأمور الطبيعية فمعناه أنه لا يمكن للإنسان، بما هو كائن سياسي أن يعيش خارج الجماعة السياسية، ذلك أن من يعيش خارج الدولة سيكون إما إلها أو ذئبا، وحتى في زماننا هذا لا يمكن أن نعيش خارج نطاق العيش المشترك المنظم.
إن العيش المشترك الذي ترعاه الدولة لا يمكن أن يكون وجودا سليما ما لم ينعم فيه الأفراد بقدر متساو الحقوق، وإذا عجزت الدولة عن تحقيق هذه المساواة في الحقوق يبدأ فعل الانقسام والبحث عن كيان جديد يضمن المساواة، ويظهر الوطن في صراع مع الدولة، فتغدو الدولة كما لو كانت شيئا غريبا ودخيلا، شيء لا يعبر عن روح الشعب وإرادته، فينطق الوطن رافضا ويقرر تعارضه مع الدولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أجواء من البهجة والفرح بين الفلسطينيين بعد موافقة حماس على م


.. ما رد إسرائيل على قبول حماس مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار؟




.. الرئيس الصيني شي جينبينغ يدعم مقترحا فرنسيا بإرساء هدنة أولم


.. واشنطن ستبحث رد حماس حول وقف إطلاق النار مع الحلفاء




.. شاهد| جيش الاحتلال الا?سراي?يلي ينشر مشاهد لاقتحام معبر رفح