الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عطر امرأة

منير العبيدي

2006 / 1 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


تحت هذا العنوان الرقيق والمغرق في الرومانسية ، أدى الممثل الصلب " آل باجينو " دوراً أتاح له أن يمثل إحدى ذرى التعبير عن شخصيته القوية ، إلا إنه ، هذه المرة ، يظهر ككولونيل أصيب بالعمى و يرغب بالانتحار ، كان يرافقه تلميذ يقوم بعمله كمرشد لضرير إثناء عطلة المدارس ، و بالرغم من أن العديد من العميان المبصرين من الذين ، إضافة الى عماهم ، يرغبون في أن يتسببوا في عمى الآخرين يسيطرون على العديد من وسائل الإعلام كحراس أزليين للحقيقة المهددة بخطر التلوث ، لم يفكروا ولن يفكروا بالانتحار ، فإن هذه الثيمة ، التي اجد نفسي منجذبا لها بقوة ، لن تكون ، على أي حال ، موضوع الاستشهاد الذي أرمي الى التطرق إليه ، وإنما شئ آخر جرى في الفيلم .
فهذا التلميذ الذي يعمل عملا مؤقتا كمرافق لكولونيل ضرير كان مطلوبا بعد انتظام الدراسة مرة أخرى للشهادة أمام لجنة تأديبية في المدرسة لعمل ما قام به أحد زملائه , وكانت شهادته ضد زميله هي القول الفصل في هذا الموضوع . كان التلميذ يروي ، متضايقا ، لـ " آل باجينو" كيف انه غير راغب بالإدلاء بشهادته ضد زميل له على أي حال من الأحوال .
أعطى الموضوع هذا دفعة للكولونيل الضرير الذي كان غير راغب في الحياة بعد أن كان قد فقد مغزى حياته كعسكري ، وقرر أن يحضر الى المحكمة التأديبية للدفاع عن التلميذ كولي أمره ولكي يدافع عن عدم رغبة التلميذ في الشهادة ضد زميل له . وفي قاعة المحكمة التأديبية تجلت الشخصية الطاغية متألقة القوة لـ " آل باجينو " بكامل سطوعها دفاعا مجيدا عن التلميذ الذي يرفض أن يشي بزملائه وقد أشار آل باجينو الى أن المدارس ينبغي لها أن تعلم أبناءها الوفاء لزملائهم وليس خيانتهم و أن لا تعلم أبنائها كيف يخونون زملائهم .
حطم آل باجينو بدفاعه الحماسي هيبة حراس الفضيلة و الأخلاق في إدارة المدرسة ، وجعل منهم سخرية أمام تلاميذهم ، ولكن حراس الفضيلة مثل الفضيحة ، تعيد إنتاج نفسها تحت مبررات جديدة و لا تخجل .
في بعض دول اوربا الاشتراكية و في الـ (DDR ) رُفعت الوشاية الى مستوى سياسة رسمية ، كان قسم من المجتمع معبأ للوشاية بالقسم الآخر . شئ ما راق تماما لممثلي سلطتنا السابقة في العراق ، فقامت بإقتباسه بسرعة و طبقته بابداع متناه ، ولكن الأمر لم يتوقف على مجرد سلطة راغبة بحماية إمتيازاتها بكل ثمن ، شئ ما يمكن فهمه أو تبريره .
فبعض ممن أوفدوا للدراسة في هذه البلدان قد تعلموا دروسا في الوشاية أكثر مما تعلموا في مجال اختصاصهم و دراستهم ، وبالرغم من أن عدد هؤلاء قليل لحسن الحظ قياسا بالعدد الذي قرر أن يتعلم ، إلا أنه من سوء الحظ هذه المرة ، فان هذا البعض ظل وفيا لما تعلمه ، وظل يمارس الوشاية كوقود لوجوده ، وكدليل على الإخلاص للمبادئ رغم دروس الحياة .
مذ أعلن ميكافيلي القطيعة بين الأخلاق والسياسة تتردى السياسة يوما بعد يوم في حضيض التناقض مع الاخلاق ، واجدها اليوم مستنجدة ، انها بحاجة ملحة إلى شئ من الأخلاق أكثر من حاجتها إلى وشاة ومخادعين وعديمي ضمائر .

ملح أم سكر؟

قام بعض الأصدقاء هنا في برلين بتطوير الديمقراطية . فلكونهم لا يتحملون أي نقد فإنهم وجدوا حلا مبدعا لتلافي أي شكل من أشكال النقد الموجه إلى الأفكار أو الشخصيات التي يعتقدون بعصمتها ، وذلك بإطلاق اسم التهجم على عبارات النقد ، معتبرين النقد ، ببساطة ، تهجما . فإذا ما قام شخص ما بتوجيه النقد إليهم أو إلى أي من معتقداتهم وأفكارهم ، غضبوا منزعجين بقيام الناقد بـ " التهجم " !
لقد سمعت في طفولتي طرفة يتندر بها الناس : إن بائعا للمواد الغذائية كتب على علبة يحفظ فيها السكر كلمة : " ملح " وحين سأله الناس عن السبب قال : لكي لا يهتدي النمل إليها . و تسائلت إن كان بالإمكان حقا بناء الديمقراطية في بلد ما كنظام سياسي قبل أن :
1ـ القبول بها كسلوك فردي يمارسه الشخص في حياته اليومية وضمن ذلك علاقته العائلية و مع أولاده وزوجته وأصدقائه. و
2 ـ العمل على ترسيخها في الحياة الداخلية للأحزاب والمؤسسات الخاصة والعامة . و
3 ـ كيف أن علينا أن نكتب أسم الملح على الملح وليس على السكر .
إن الأمر في غاية الصعوبة و لا يبدو هينا كما اعتقدنا لأول وهلة فقيام حزب ما بتبني الديمقراطية ، على سبيل المثال ، في برنامجه السياسي والتخلي عن الواحدية وقبول الرأي الآخر والتعددية هي خطوة بسيطة وغير ذات قيمة بذاتها ما لم تكن متبوعة بنضال ضارٍ وطويل في جعلها ـ أي الديمقراطية ـ ممارسة يومية بين الأفراد والمؤسسات مما يستدعي فترة طويلة وليست بالهينة ، وأن اعتماد الديمقراطية لا يمكن أن يتم بقرار.
كما أنها على الصعيد الفردي تتطلب : تعلم الصبر والاستماع للآخرين والسعي إلى الوصول إلى الحقيقة حتى وإن كانت غير مريحة وغير متلائمة مع نمط التفكير الذي تعود الفرد عليه ، والتمتع بالمرونة الكافية لإعادة تقييم نمط التفكير اعتاد الفرد عليه ربما لفترة طويلة.
هذه الفقرة مستلة من مقال كتبته قبل حوالي الشهرين و عاني الأمرين في طريقه إلى إحدى المجلات العراقية وبطلب منها ، و كانت إمكانية النشر تتقرر فقط بعد عرض الموضوع على إحدى " لجان فحص النصوص " كما سميت ، هي احد الأسباب في عزوفي عن النشر ، شئ اعتبرته ينتمي إلى الماضي السحيق في عصر المعلوماتية و شيوع الاتصالات في عصر الانترنت كما عبرت في رسالة إلى الناشر ، كانت اللجنة هذه ذات صلاحية في اتخاذ القرارات و مفاتحة الكاتب حول التعديلات التي تقترحها ـ منتهى الديمقراطية ! ـ كنت اعرف إن حراس الفضيلة الذين لا يكلون عن إداء مهمتهم المشرفة في تخليص الحقيقة من الشوائب ، التي يطلقها بدون مسؤولية أمثالي من الكتاب ، سيستهدفون هذه الفقرة بالذات .

لجنة فحص النصوص
قبل
يجلس على المكتب ، في مجلة أو صحيفة ما ، رجالٌ مسنون تبدو عليهم ملامح الحكمة ، رجال طاعنون في السن تركت عليهم الحكمة والعصمة آثارها : شعر طويل ناصع البياض كالفضة ولحى مسترسلة و نظارات ذات إطار معدني مدور من الطراز القديم و أمامهم العديد من المراجع و تحت عيونهم الثاقبة ، كالمجهر ، يجري فحص النصوص المرسلة للنشر ، هؤلاء الحكماء المعصومون هم أوصياء المجتمع على الحقيقة مسؤولون أمامه عن تنقية كل ما يرد للنشر و تخليصه مما يتسلل إليه من الأفكار التي تلحق الضرر بالمجتمع ، هؤلاء أناس قادمون من مكان ما ، لم يعرف عنهم أنهم ولدوا في مكان ما أو أن لهم أقارب أو معارف ، ليس لهم ماض ، ليس لهم مستقبل ،انهم ، ببساطة موجودون دائما كالقضاء والقدر .
بعد
يجلس على المكتب أناس ليس على أكتافهم أجنحة ، أناس عاديون تماما يرتدون ملابس عادية شعورهم قصيرة لا وجود للشعر الفضي المسترسل و لا أيا من دلائل الحكمة التي اختصت بها شخصيات " سيد الخواتم " . بل ربما هم يتغوطون اذا شعروا بحاجة الى ذلك ، حتى أن غرفة صغيرة مرفقة بقسمهم كتب عليها كلمة : " مراحيض " بالخط العريض ! أناس ربما حتى لا يعرفون إن الفاعل لا زال يرفع بالواو اذا كان جمعا مذكرا سالما .
لا يوجد سخط يوازي اكتشاف التضليل ، إنه سخط على الذات بالدرجة الأولى .
من يمتلك الحق في أن يضع نفسه فوق الآخرين و يتجرأ على فحص نصوصهم مانحا نفسه تفويضا من لا شئ سوى الوهم ؟ كيف بإمكان شخص ما أن ينصب نفسه قاضيا على الكلمة .
ألا تشعرون بالخجل ؟ اصحوا من نومكم و أتركوا مكاتبكم ! نحن في عصر آخر ، فحتى الشتيمة المقذعة لها ناشروها ، نحن في عصر المعلوماتية .
أعداء الديكتاتورية ليسوا بالضرورة ديمقراطيين .

الآن الجميع ديمقراطيون

الجميع " ديمقراطيون " الآن : دعاة الدولة الدينية بالعمائم السوداء و البيضاء ، أبطال تعميم الحجاب على خريطة الوطن كواحدة من الثوابت الوطنية ، قاتلو النساء ، المختطفون والمختطِفون ، قاتلو النصوص ، الأوصياء المعصومون على الحقيقة ، أسيجة النشر المنيعة التي تحمي المجتمع من الكتاب المارقين ، الوشاة المتنصتون ، الجميع ديمقراطيون .

الحقيقة غراب ابيض

حين كنا عائدين عبر السوق الى بيوتنا أنا ومحمد عبد العبود في ساعة متأخرة من احد أماسي الصيف الجميلة في القرية ، مررنا بتل من البطيخ الأحمر ( الركي كما نسميه ) موضوعا على الأرض يحرسه ثلاثة رجال يحيطون به وهم نائمون ، كانوا ، حينذاك ، يجلبون بضاعتهم مساءا ويبيتون عندها حتى الصباح لبيعها باكرا في علوة الخضار ، كانت الأسلحة التي لديهم حينذاك بدائية : ( مكوار ) في حزام كل منهم ، كان هذا سلاحا أهون من سيارة ملغومة أو كلاشنكوف ، ولكنه كان كافيا للإطاحة برأس أحدنا أو كلانا .
جلس محمد بين الأعراب النائمين الممدين حول ( كوم ) البطيخ لكي يسرق بطيخة وقام بكل استرخاء و صبر بعملية الانتقاء التي يقوم إثناءها ، على الطريقة العراقية ، بعصر البطيخة لمعرفة ما اذا كانت حمراء ناضجة ام لا وقام في هذا الاثناء باستبدال اكثر من واحدة قبل أن يقر قراره على واحدة لكي يأخذها ( يسرقها ) .
كنت أنا أقف مستندا الى الجدار مستغرقا في الضحك . وحين انتهى من مهمته سألني بغضب : " لماذا تضحك ؟ " قلت له : لم أشاهد في حياتي سرقة كهذه ( هم سرقة و هم عل السكين ) ( يسأل العراقيون بائع البطيخ ان كان البيع على السكين أي بيع مضمون بان تكون حمراء بعد عمل شق فيها ) .
حين كتبت مقالي في الـ ( editor) " تصدير الديمقراطية " حسب طلب و أسئلة معدة من الناشر أوضحت فيه مسؤولية الولايات المتحدة والغرب تاريخيا عن عرقلة نمو الديمقراطية في منطقتنا ، أثار المقال اعجاب أوساطا من اليسار التقليدي ، من الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة فقط هي المسؤول عن عرقلة نمو الديمقراطية في بلداننا ، و أشادو به و أعتبروا إنني ربما ثبت الى رشدي . ولكنني كنت قد كتبت الكثير ، قبل هذا وبعده ، عن مسؤولية اليسار أيضا في عرقلة الديمقراطية في البلد والمنطقة ليس اقلها شعارات الحزب الواحد و مفهوم الشرعية الثورية ... الخ وهذا ما ذكرني بـ ( الانتقائية ) كمصطلح سياسي ، يشبه انتقاء البطيخ بين ثلاثة مسلحين .
الذي قرر ان يقول الحقيقة حول مسؤولية كل الأطراف فيما آلت إليه الأمور في العراق ومنطقتنا سيكون ، مثلي ، مفتقرا الى الحكمة ، إذ سيخسر الجميع و سيجعل نفسه في مرمى النيران من كل الاتجاهات و سيشبه ، حسب المثل المتداول ، ( لقلق الكنيسة ) الذي لعنه اليهود والمسلمون والمسيحيون .

ابراهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيم ! الست القائل :
الحقيقة غراب أبيض
ترفضه الأسراب المشابهة
و لا يوائم اليمام

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

منير العبيدي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: فكرة وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة غير مطروحة ق


.. استقبال حجاج بيت الله الحرام في مكة المكرمة




.. أسرى غزة يقتلون في سجون الاحتلال وانتهاكات غير مسبوقة بحقهم


.. سرايا القدس تبث مشاهد لإعداد وتجهيز قذائف صاروخية




.. الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد يترشح لانتخابات الرئ