الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات مدرس فى الأرياف-مقتطفات من السيرة الذاتية

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2016 / 11 / 10
الادب والفن


يوميات مدرس فى الأرياف - مقطتفات من السيرة الذاتية
كانت تجربة العمل كمدرس سنة 1979 ، السنة التى وضعت فيها الثورة الإسلامية فى إيران، والغزو السوفيتى لأفغانستان ، النهاية الرسمية لسيطرة تيار الإشتراكية فى الشرق الأوسط ، تجربة قصيرة أخرى ، لكنها كانت شديدة المغزى. كثيراً مانقنع أنفسنا فى رحلة الحياة ، أننا أهل لدور ما ، ولكن وعندما تأتى ساعة التجربة الحقيقية ، نكتشف أننا أبعد الناس عنه. لقد راقت لى فكرة العمل كمدرس من واقع الروايات الرومانسية الكثيرة التى قرأتها ، وربما من وداعاً مستر شيبس بالتحديد ، ولكن عندما جاءت ساعة التنفيذ فى الواقع ، إكتشفت أن مجرد ترتيب كراسة التحضير كان يصيبنى بإنهيارعصبى ، لقد كان طبعى المتعجل ، نافذ الصبر، أبعد مايمكن عن طبيعة وعمل المدرس، كان ذلك هو الإكتشاف الأول، لكن الإكتشاف الثانى كان أصعب. الريف المصرى كان هو ذلك الإكتشاف الثانى الرهيب ، لقد كنت أعتقد أن مدينة رشيد التى قضيت جزءً كبيراً من طفولتى فيها هى الريف ، ولكن عندما عرفت الريف الحقيقى ، أدركت أن رشيد كانت باريس.
كانت فصول أبو مصطفى تقع فى قرية من قرى محافظة كفر الشيخ والتى سميت المدرسة بإسمها. كان الوصول إليها عملاً من أعمال المستحيل . كان القطار إحدى الوسائل المتاحة ، لكنه كان مبكراً مزدحما فى العادة ، وكذلك الأتوبيس ، وفى كل الأحوال كان لابد من أخذ مواصلة ريفية أخرى من المحافظة إلى مركز يسمى بمركز الحامول ، ومن هناك سيارة أخرى إلى القرية ، أما السفر بسيارت الأقاليم فقد كان متاحاً فى كل وقت ، وتلك كانت ميزته الوحيدة التى جعلتنى أفضله فى النهاية ، رغم أن نفس القصة كانت تتكرر حيث يلقى بك فى المحافظة ، ومن المحافظة تبحث عن سيارة أخرى تصل بك إلى مركز الحامول ، ومن مركز الحامول تبحث عن سيارة أخرى لتصل بك إلى قرية أبى مصطفى الواقعة فى عمق الريف الرهيب.
مساحات متناثرة من الحقول ، طرق ضيقة غير معبدة ، وترع وقنوات كثيرة ، وبيوت من الطين متناثرة بلا نظام أو ترتيب ، وذلك الظلام الكثيف الذى يلقى بجو من الحزن على كل شئ. من قال أننا غادرنا القرون الوسطى، لقد شعرت بها بكل قوة فى تلك الشهور القليلة التى قضيتها فى الريف. كانت المدرسة بناءً لابأس به أقامته الحكومة على طراز المدارس المعتاد ، لكن حوله لم يكن هناك شئ آخر ، مجرد فراغ شاسع وسكون ووحشة . كان المدرسون الأجانب مثلنا يستأجرون غرفة فى بيوت الفلاحين ، الذين كانوا يرحبون بذلك بدافع الحاجة ، أو بدافع الواجب ، ولكن كان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم فى تدبير باقى أمورهم ، ولاأعرف كيف تمكنت من ذلك التحدى الخطير. كان بعض الفلاحين يقبلون بغسل وكى ملابسنا ، وحتى بطهى بعض الوجبات أحيانا ، مقابل أجر ، لكن ذلك لم يكن القاعدة ، فقد كان ذلك يعتمد على الحظ ، وعلى طبيعة البيت الذى يسكنه المدرس ، ولاأذكر الآن ، كيف كان حظى ولا فى أى بيت سكنت. لم يكن ذلك هو كل شئ ، فبالإضافة إلى عناء الرحلة ، ومشقة العيش ، كان ذلك الراتب التافه الذى كانت تمنحه الحكومة للمدرس المبتدئ فى ذلك الوقت، والذى كان يبلغ نحو 30 جنيه لاأكثر، قد جعل من كل رحلة العمل كمدرس فى الريف مجرد رحلة من العبث ، فما معنى أن تعمل وتتحمل كل تلك المشاق ثم تطلب من والدك إعانة فى كل شهر، لقد كان البقاء فى البيت أفضل. كنت أعود إلى الإسكندرية كل خميس وجمعة لأقابل أصدقاء الحى وأتنفس الصعداء ، ثم أعود يوم السبت صباحاً ، لمواصلة تلك الرحلة العبثية بلاهدف.
ومع ذلك فقد كان هناك لحظات جميلة فى تلك التجربة الشاقة ، كانت العلاقة بالتلاميذ أجمل مافيها ، كنت أستمد من علاقتى بهم التسلية المفتقدة ، كنت أخرج معهم إلى المزارع أحيانا ، وإلى الترع والمصارف الممتلئة بالأسماك أحيانا أخرى ، والتى كانوا يعرفون الطرق إليها جيدا ، حتى ولو كانت بعيدة عن القرية ، حيث كنت أمارس هوايتى القديمة فى صيد الأسماك ، كما كنت أدخل معهم حتى فى حوارات سياسية ، كان كثير منهم نبهاء يحتاجون فقط لفرصة كى يخرجوا إلى العالم ، كنت أتحدث معهم كثيراً عن الإشتراكية ، وعن العالم المتقدم والثورة ، وحتى عن الخرافات الدينية ، ولعل هذه كانت خطيئتى الكبرى ، التى لم أدرك خطورتها فى ذلك الوقت ، كنت مدفوعاً بالبحث عن أكثر من التسلية المفتقدة ، الواقع أننى كنت مدفوعاً بالرغبة فى البحث عن دور ، حتى بين هؤلاء التلاميذ الغلابة. لم تكن علاقتى بزملائى المدرسين من أبناء القرية تقل مودة عن علاقتى بالتلاميذ ، أذكر منهم الأستاذ عبدالله والأستاذ حسن وأبوه الطيب ، الذى توفى بعد وصولى هناك بأشهر قليلة ، ووضعتنى جنازته فى خضم تجربة الموت فى الأرياف الرهيبة ، حين يأتى المعزون بالمئات من القرى القريبة والبعيدة ، ويقيم لهم أهل قرية المتوفى الولائم ، فى فوضى لاتختلف كيراً عما يحدث فى المناسبات السعيدة. وكما كنت تلقائياً فى علاقتى بالتلاميذ كذلك كنت معهم ، نتحدث عن تلك الإشتراكية التى كنت أتصور أننى أحد أقطابها الكبار ، وعن الثورة والعالم المتقدم وعن تلك الخرافات الدينية التى كنت أجيد التحدث عنها ، وربما لنفس الأسباب تقريباً ، ليس لمجرد التسلية المفتقدة ، ولكن من أجل البحث عن دور محرر الريف القام من المدينة. لم تتضح تبعات ذلك سوى فى العام الدراسى التالى مباشرة، فعندما ذهبت إلى المدرسة فى بداية العام الدراسى التالى لإستئناف عملى فوجئت بزملائى المدرسين يخبروننى أنه قد تم نقلى إلى مدرسة أخرى فى نفس المحافظة تسمى مدرسة العباسية ، وأن على مراجعة المديرية ، لم يكن الخبر غريباً فى ذاته ، ولكن الإبتسامات الخبيثة التى صدرت من بعضهم وهو يخبرنى بهذا النبأ ، جعلتنى أدرك وأنا فى طريق العودة ، أننى قد نقلت بشكوى طيبة ، من هؤلا الطيبين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي