الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطابو ولعبة الكراسي

خالص عزمي

2006 / 1 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الطابو : ما زال في العراق يعني ( التسجيل العقاري ) حيث تسجل الاموال غير المنقولة كالعقارات على اختلاف صفاتها بحيث يصبح من الصعب ازاحة المالك عما يملك الا بالاستملاك بحكم القانون او بانتقال الارث شرعا او برضاه وحضوره شخصيا الى دائرة الطابو لغرض البيع او الهبة اوالتنازل.. الخ وفي حالة القاصر او من بحكمه ؛ فبحضور الوصي او من هو مكاف شرعا بذلك . وقد دخلت هذه الكلمة لكثرة تداولها في معجم الامثال الشعبية .
واذكربهذا الشأن ؛ انني كنت اجلس مع زملاء لي من طلاب الثانوية في مقهى الخراز من محلة جامع عطا ؛ حيث كنا نتجمع ايام الامتحانات النهائية حول شجرة باسقة من التوت ونتبادل المعلومات ؛ وكنت اجلس على كرسي مريح مصنوع من اعواد سعف النخيل ( الجريد ) ؛ وفي احد الايام تأخرت قليلا عن الموعد ؛ فلما وصلت وجدت ان كرسيّ قد احتل من قبل الاستاذ خضر الطائي الشاعر والمؤلف المسرحي المعروف ؛ فجلست على كرسي آخر ولكن على مضض ؛واذا بالزملاء ينفجرون فجأة بالضحك حينما تنحى الاستاذ الطائي عن الكرسي بأنحناءة مسرحية وهو يقول ( يابه دخذه ...اي قابل انت مسجل هذا الكرسي طابو باسمك .... ؟!!)

ومع ان حكاية ذلك الكرسي كانت بريئة بمضمونها وغايتها ؛الا معناها يؤدي الى نوع آخر من التكالب المريب على الكراسي الوزارية وبخاصة تلك التي توصف بالسيادية وكأنها ( سرر مرفوعة ) ا و(نمارق مصفوفة).. في( جنة عالية لا تسمع فيها لاغية ) ؛ حيث اصبحت تلك الكراسي وكأنها مثبتة في دوائر التسجيل العقاري باسماء بعض الاشخاص اوالطوائف اوالاعراق او المذاهب فلامجال للغير بانتزاعها حتى لو ادى ذلك الى الاقتتال او الاغتيال او الانسحاب من الحلبة .... لقد دلل الكثيرون و بمثل هذا التصرف الفردي على انهم بعيدون عن الحكمة السياسية والمصلحة العامة ؛ وقريبون جدا من الانانية و السلطوية والمصلحة الشخصية ؛ وهم منفذون مطيعون لاوامر بريمر المحرضة على العرقية والطائفية والعشرات من االدوافع الخفية...؛ ولكن رب سائل يقول في هذا المجال ؛ هل كان بمقدور بريمر ان يفعل كل ذلك لو لم يجد ارضا خصبة قابلة لأستقبال بذورشره ؟ او لو لم يجد من يعينيه( من النشآمى راكبي صهوات الدبابات) على فعل مثل هذه الاعمال (المخربة !!) التي اجتاحت ساحة الوطن المسبي بارشاداتها المسمومة وتوجيهاتها الفاسدة

ان التغيير: هو سنة الحياة وفلسفة الطبيعة البشرية التي تطمح الى ضخ دماء جديدة وشابة في شرايين هذا الكيان السياسي الذي اصبح منكمشا على الذات في الحاضر؛ ومبتعدا عن آفاق المستقبل الذي يفترض ان يهيءالاجيال اللاحقة للقيادة الواعدة . ان وجوه المحاصصات والتوافقات التي صمدت لايام قليلة ؛ سوف لن يكون بمقدورها الصمود الى الابد ضد رغبات الشعب وطموحاته في ان يرى الكفاءة العالية هي المعيار الحقيقي و الاجدر بالانتقاء ؛ بغض النظر عن الجهة التي تنتمي اليها تلك الشخصية او العقيدة الفكرية التي تحملها او طبيعة العرق او الدين او الجنس.... الخ الذي تنضوي تحت لوائه ؛ ما دام العراقيون كلهم متساوين بالحقوق والواجبات .

لقد جاء اكثر رجالات العهد الملكي من مدرسة الامبراطورية العثمانية( المريضة ) ؛ وكان جلهم لم يمارس اللعبة السياسية في الحكم مباشرة الا بعد تأسيس الدولة العراقية على يدي المغفور له الملك فيصل الاول عام 1921؛ ومع ذلك فقد اجادوا وادركوا اثر التغيير في ادارة البلاد ؛ ولو عدنا الى نشأتهم الاولى مثلا لوجدناهم قد عاشوا بين عامة الناس وفي ازقة شعبية ضيقة جدا فاستفادوا كثيرا من ذلك التلاحم...حيث منحهم حصافة وفراسة برغبات الناس وزودهم بخزين من الثقة بالنفس والخبرة في العادات والتقاليد والخلق الرضي والتواضع .وهذه كلها غرزت في اكثرهم مباديء العفة والاستقامة وعدم تكالب الاكثرية الساحقة منهم على المادة بخاصة في السنوات الاولى التي جلسوا فيها على كراسي الحكم ؛ بل ان بعضهم بقي وفيا لهذه المباديء الى آخر لحظة من حياته بعكس ما نلمسه هذه الايام من تسابق على نهب وسلب المال العام بكل الطرق غير المشروعة ؛ وهو ما تفضحه يوميا بشكل علني تقارير واخبار ( مفوضية النزاهة ) وغيرها من( المفوضيات) الكثر و(الفضائيات) الاكثر ....!!!!

اننا مهما اختلفنا مع الرعيل الاول في امور سياسية عامة كثيرة كالتحالفات الاستعمارية او التشديد القاسي في مجابهة المعارضة الوطنية وخنق ارادتها في الانتماء العقائدي او حرية التعبير ؛ الا اننا لا يمكن ان ننكر عليهم النزاهة بنطاقها العام والحرص على تغيير الاسس والشكليات العامة في ادارة الحكم داخليا لكي تكون المشاركة في ادارة البلاد متنوعة ومتجددة على نطاق اكثر شمولية وبحيث أدت بالتالي الى تغيير الوجوه السياسية سواء على نطاق الحكومة اومستوى مجلس الاعيان او مجلس النواب او غيرها من الواجهات الرئيسية .

ان مراجعة سريعة لحكومات نوري السعيد وياسين الهاشمي وحكمت سليمان ورشيد عالي الكيلاني ثم من بعدهاحكومات صالح جبر ومحمد الصدر ومزاحم الباجه جي و فاضل الجمالي و عبد الوهاب مرجان ؛ تعطيك خلاصة مفادها ؛ان لكل من تلك الوزارات صيغة تختلف عن الاخرى من حيث االمنهج او الشكل الوزاري ... ويتجلى ذلك من خلال اسلوب التداول الهاديء للسلطة ما بين تلك المجاميع العريقة نفسها ؛... او بموجب تآزروتعاون الساسة القدامى مع جيل الاكاديميين الشباب الذين بدأوا بأخذ ا مكانتهم على المسرح السياسي في نهاية الاربعينات .اي ان رجال الدولة الأول ادركوا مبكرا ما للتغيير من دور نفسي في ادامة التواصل مع تلك اللعبة ؛ فسعوا الى تبديل الصيغ والانماط والمناهج عن طريق التغييرات الوزارية ؛ بل وحتى في اسلوب الخطاب السياسي ايضا .لقد توجه ذلك الرعيل من الدهاة نحو الاحزاب المعارضة المتينة بتشكيلاتها ؛ كحزب ( الاستقلال ) وحزب ( الجبهة الشعبية ) وحزب ( الاحرار ) والحزب ( الوطني الديمقراطي ) وغيرها فأنتقوا منها وكذلك من الرموز االمستقلة ايضا ؛ شخصيات مثقفة موهوبة رفيعة المستوى على النطاقين السياسي والشعبي ؛ كسعد صالح و حسين جميل وعبد المجيد القصاب وسعدعمر وعبد الحميد الهلالي ونوري القاضي وعبد المجيد علاوي وبرهان الدين باش اعيان و عبد الرحمن الجليلي و عبد المجيد عباس و عبد الغني الدلي و عبد الحميد كاظم وحسن سامي التتار وغيرهم عشرات ليطعموا بهم الوزارات المتعاقبة مانحين اياهم م فرصة ممارسة السلطة وخدمة الوطن ومعطين الاجيال الصاعدة درسا في الايثار والرعاية الابوية .

لقد كان الوزراء اكثر عرضة للتغيير سواء بالخروج من الوزارة او بتبادل المواقع ؛ فقد ترى الشيخ محمد رضا الشبيبي وزيرا للمعارف ثم تراه رئيسا لمجلس النواب ؛ وترى احمد مختار بابان وزيرا للعدل ثم تراه رئيسا للديوان الملكي ؛ و تجد خليل كنه وزيرا للمعارف ثم تراه يحتل وزارة المالية .بل اكثر من ذلك ؛ فان بعضا من رؤساء الوزارة تقبلوا مناصب وزارية في حكومات زملاء لهم برحابة صدر ؛ فنوري السعيد مثلا اصبح وزيرا للخارجية في اكثر من وزارة ؛ وان توفيق السويدي اصبح مراقبا للحسابات العام ( رئيس ديوان الرقابة المالية ) ؛وان علي جودت الايوبي اصبح وزيرا مفوضا للسفارة العراقية في باريس ؛ كما ان وزراء سابقين عينوا متصرفين بل وحتى مفتشين اداريين , فلم يشعروا بغبن او حيف لان الخدمة العامة كانت في الاساس تعني التكليف .

ولو جلت قليلا في صفحات تأريخنا الحديث ايضا لرأيت ان تشكيل الحكومات لم تكن لتعتمد على التوافق والمحاصصة الطائفية والعرقية المخطط لها مسبقا ؛ بل تعتمد على الوئام والتناسق والتآزر في اطار مجلس الوزراء ؛ ستجد وزراء من تلك العشيرة او المدينة او هذه الطائفة او تلك الاقليةمن امثال السادة : هبة الدين الحسيني؛ رستم حيدر ؛ ناجي شوكت ؛ ساسون حسقيل ؛ طالب النقيب ؛ حنا خياط ؛ جعفر ابو التمن ؛ جمال بابان ؛ جعفر حمندي ؛ ارشد العمري ....الخ ؛ ولكنك لن تحس بتركيبتها وافتعالها والتخطيط لها لتظهر بصيغتها الطائفية والعرقية على صحن من المحاصصة المقيتة؛ وانما تشاهدها ملونة متناسقة تمثل مللا ونحلا دون ان تلمس في ذلك ما يخدش المشاعر او يثلم التلاحم والاخاء او يستفز الوحدة الوطنية و لحمة الشعب الواحد ؛ لأنه كان من المخجل ان يقال ( لقد جئنا بهذا الوزير ليمثل حصة الاكرادا و ذلك ليمثل حصة الشيعة ؛ او ذاك ليمثل حصة التركمان )...بسبب ان العملية برمتها لم يكن لها وجود اصلا( بصيغة هذه الايام البائسة ) وانما كانت تظهرللناس بعفوية طبيعية اما عن طريق اواصرالعلاقة او من خلال الزي او شعار الرأس او اسلوب اللهجة .

لو اتيح لمعهد متخصص باستطلاعات الرأي ان يوجه سؤالا الى شريحة ناضجة من الشباب العراقي يتضمن مدى معرفتهم بالانتماءات العرقية او الطائفية او العقائدية لبعض السياسيين السابقين الذين لمحنا لبعضهم ؛لجاء الجواب سلبا تماما ؛ ولكن لو وجه المعهد نفسه ذات السؤال الآن فسيأتي الجواب فورا ( هذا عن السنة وهذا عن الشيعة او ذلك عن الكورد وذاك عن الكلدان ... الخ )؛ وهنا سيعتقد الكثيرون بان فورية الجواب تكمن في عامل الزمن الذي يتيح الاجابة بالسلب او الايجاب ؛ في حين ان الحقيقة ليست كذلك ؛ اذ مردها يعود الى ان المحاصصة او العرقية او الطائفية لم تكن متداولة سابقا لا كسلعة عارية مكشوفة للعيان ولا مخبأة لطالبي الافادة الآنية ؛... اما الآن فاننا نراها وقد اصبحت مستخدمة بشكل فاضح علني لايخجل منها العارضون ولا الدلالون ولا المتبضعون ؛ لانها اخذت طريقها الى السوق تنفيذا لبرنامج عمل معد مسبقا ومطلوب تداوله على اوسع نطاق ؛...باعتبار ان الافادة المباشرة من ترويج مثل هذه ( المعلبات ) الفاسدة المصنعة في معامل ( فرق تسد ) هي التي تدفع بالقلة من مرتزقة السياسة الى ابتداع ( دكاكين ) عتيقة الهدف تعرض في واجهاتها مثل تلك البضائع المثيرة للاشمئزاز .

ما قل ودل
*ان لعبة الكراسي بمفهومها الشائع الواقعي تعتمد اساسا على سرعة الجري ؛ ودقة الرصد والملاحظة ؛ والجلوس العاجل على اقرب كرسي متاح . و يكمن في هذه اللعبة الشائعة المبتكرة ؛ السر الازلي المتجدد الذي يبحث عن الرغبة في تغيير الاشخاص وتبديل الوجوه عن طريق كسر ديمومة استحواذ ذات الاشخاص على ذات الكراسي.
ولا يظنن احد بان المقصود بمنهجية تبديل الوجوه هو انتقاء اشخاص اخذوا شيئامن نصيبهم من الحياة مكانة او تجربة اوثقافة وآن لهم الاستراحة المستحقة ؛ بل المقصود هو السعي لاكتشاف الشباب العراقي الاصيل القادر على العطاء... كفاءة وثقافة ووعيا واخلاصا وايمانا بوحدة الوطن . والعراق خزين مليء بطاقات الشباب المتجدد .

*لو رجعت الى تاريخ ا لوزارات العراقية للمؤرخ الراحل السيد عبد الرزاق الحسني ؛ فأنك لن تجد تفريقا معيبا وفارغا من القيمة في صفات الوزارات كما تسمع بها هذه الايام كوزارات سيادية او وزارات ثانوية او وزارات مظهرية ؛ ؛ في حين ان الحكومة... تتشكل منها جميعا لتعمل في اطار مجلس وزراء واحد يفترض ان يكون متضامنا بالمسؤولية امام الشعب والبرلمان ؟!! بمعنى ان لا يعتقد احد بان وزارة النفط ( السيادية ) مثلا محصنة من المسآئلة والاستجواب في مقابل ( االمسكينة ) وزارة حقوق الانسان التي يمكن ( جرجرتها ) الى مراكز الشرطة لاي سبب تافه. وليتذكر ( الافاضل السياديون ) ان الدستور ( المستفتى عليه !!!) لا يفرق بين هذه الوزارة او تلك لافي الصفة ولا في الدرجة ولا في المكانة .... ان كانوا بدستورهم يتمسكون .!!! فكل الوزارات كأسنان المشط .

* لقد عرفت ( وزراء دولة و وزراء بلا وزارة ) ضمن حكومات متعاقبة سابقة ؛ كانوا ذا بصمة مؤثرة و فعالة على مستوى الحكومات التي شاركوا بها ؛ كالصحفي الكبير روفائي بطي ؛ والحقوقي المعروف جميل الاورفلي والشاعر المبدع علي الشرقي ؛ والصحفي القومي اللامع سلمان الصفواني ... اذ كان لرأيهم وتعليقاتهم وهوامشهم ومناقشاتهم في مجلس الوزراء الاثر المجدي في التعديل واتخاذ القرارالصائب . ولم اسمع من احدهم مرة يقول متحسرا : ( هل بعد كل تلك الخدمات ..وتنتهي بي الحال لاكون وزيرا بلا وزارة ) ؛ ان بعض صغار النفوس هم وحدهم الذين يفكرون بسذاجة بتفاوت قيمة الوزارات بين بعضها البعض ؛ ..... لان كرسي الوزارة ( السيادية ذات القوة والمال ) بنظرهم هو الاصل وما عداه فهو سقط المتاع ... ؛ ولم يدر بخلدهم ان شموخ الفرد(ان كان كوفئا وقديرا وواثقا بنفسه ) هو الذي يعطي كرسي الوزارة الهيبة والمكانة والاكبار لاالعكس ؛ ولهذا قال الرصافي البارع عن امثال تلك الشخصيات المتهافتة التي ترى بالاستيزاروحسب رفعا لقيمتها وعلوا لشأنها :
هذي كراسي الوزارة تحتكم
تكاد من فرط الحيا تتقصف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يخيب آمال الديمقراطيين خلال المناظرة الأولى أمام ترامب


.. تهديدات إسرائيل للبنان: حرب نفسية أو مغامرة غير محسوبة العوا




.. إيران: أكثر من 60 مليون ناخب يتوجهون لصناديق الاقتراع لاختيا


.. السعودية.. طبيب بيطري يُصدم بما وجده في بطن ناقة!




.. ميلوني -غاضبة- من توزيع المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي