الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرواية والاعتراف

أحمد بطاح

2016 / 11 / 21
الادب والفن


الأكيد أنه عندما نتحدث عن الرواية في الألفية الثالثة على المستوى العربي فنحن نتحدث عن صنف أدبي فرض نفسه بقوة بعدما ظهر قبل مائة سنة بشكل محتشم إن قبلنا برواية زينب 1914م كبداية لهذا الصنف، وبالتالي فقد أصبحنا نعتبر الرواية ديوان العرب حاليا لما حققته من شعبية لدى عموم القراء، وبعدما احتلت الصدارة التي احتلها الشعر ردحا طويلا من الزمن. ونحن لن نبحث في هذا الصدد عن الدوافع الذاتية والموضوعية التي تقف وراء هذا الانقلاب بقدر ما نود الحديث عن علاقة الرواية بالاعتراف، ولماذا اعترف العالم بروايات وروائيين دون أن يعترف بآخرين؟ وما هي الأسباب والدوافع التي تجعل الرأي العام الأدبي والمؤسسات الثقافية ولجن الجوائز تعترف بهذا ولا تعترف بذاك؟
تختلف الدوافع الذاتية التي تجعل الكاتب يعمد إلى فعل الكتابة، خاصة الكتابة الروائية، إلا أنه يمكن التمييز بين مجموعة من الدوافع الأساسية، ونجد في مستهلها محاولة سحب الاعتراف بالذات من الغير من خلال فعل الكتابة، فالعديد من الروائيين إن لم نقل كلهم يكتبون من أجل هذه المسألة، أي من أجل أن يجدوا لأنفسهم مكانا في هذا العالم وأن يحصلوا على تذكرة لصعود قطار التاريخ، ذلك لأن الكاتب يستحضر دوما الغير في عملية الكتابة كما يستحضر التاريخ من خلال استحضاره للصدى الذي سيخلقه عمله بالنسبة للأجيال القادمة، وربما هو الأمر الذي عبر عنه الفيلسوف فرديريك نيتشه في قولته: " أنا أكتب للأجيال القادمة"، إذن فإن محاولة لفت انتباه الغير للذات وانتباه التاريخ أيضا لهو الدافع الأول الذي يقف وراء عملية الكتابة عموما. لكن الدوافع وراء هذه العملية لا تقف عند هذه النقطة، بل تتجاوزها إلى نقط أخرى نجد منها أن في الكتابة يحاول الكاتب أن يجد ذاته، وأن يعيش حياة أخرى لم يكن ليعيشها على أرض الواقع، وذاك أيضا ما عبر عنه "عباس محمود العقاد" وعبر عنه الفيلسوف والناقد "جورج لوكاتش" من خلال كلامه الآتي: "جاءت الرواية لتصوير الأزمة الروحية للإنسان الذي يعيش بين واقع حقيقي مليء بالتناقضات وواقع افتراضي مثالي يحلم به ذلك الإنسان". ومن خلال ذلك فالرواية تعمل على فتح المجال أمام الذات لفك تناقضاتها واكتشاف ذاتها وعلاج أزمتها الروحية، إنها أداة ترميم لجدران هذه الذات الآيلة للسقوط. أضف إلى هذين الدافعين دافعا آخر يتجلى في كون الكتابة الروائية عمل قد يبتغي منه الكاتب علاج مجموعة من الأزمات التي تتعلق بمسألة قومية أو اجتماعية أو أيديولوجية، لكننا لا يمكن أن نسلم بهذا الدافع بشكل كبير، ذلك لأن هذه النية التي يفصح عنها الكاتب ليست غاية في ذاتها، فمن الممكن بل ومن الأجدر أن يعالج الكاتب هذه الإشكالات في صنف آخر من الكتابة غير الكتابة الأدبية، لما تتيحه من تقريرية والحديث بشكل مباشر دون التخفي وراء النص الأدبي الذي يرفض الكتابة نمط التقريرية المباشرة. وقد يكون الدافع المادي من بين هذه الدوافع أيضا، حيث سيعمد الكاتب إلى كتابة الرواية من أجل تحقيق عائد مادي يخول لها الرقي في السلم الاجتماعي، إلا أن هذا الدافع قد لا يتحقق في البلدان العربية، لأنه ما زال قطاع النشر والكتابة لا يدر ربحا مضمونا كما هو الشأن بالنسبة للدول الغربية. وأخيرا يمكن الحديث عن دافع الرغبة في الشهرة، هذا الدافع الذي يقترب من الدافع الأول، أي سحب الاعتراف من الآخر، إلا أنه مختلف شيئا ما، فقد يعمد الكاتب إلى القول إنه يبتغي الاعتراف به لكنه لا يصرح بكلمة الشهرة، بل إن كلمة الشهرة في المجال الأدبي قد تتخذ معنى مذموما ومعابا، لكنها تبقى دافع أساسي حتى ولو لم يعترف به الكتاّب والوسط الأدبي بشكل عام. وعموما فالحديث عن الأسباب التي تدفع بالكتاب إلى خوض مغامرة الكتابة الروائية حديث معقد لا يمكن الوقوف عليه في مقال يتيم، ذلك لأن هذه الدوافع يدخل فيها ما هو ذاتي ونفسي وما هو اجتماعي قد يسبب الحيرة حتى للروائيين حينما يطرحونه على أنفسهم.
من خلال هذا ننتقل إلى صلب موضوعنا، وفيه نقول إن الاعتراف برواية ما لا يتم بناء على شروط أدبية وفقط، بل يتعدى ذلك إلى شروط أخرى قد تكون تاريخية أو سياسية أو اقتصادية حتى، فمثلا حينما نتحدث عن الشرط التاريخي يمكن أن نتحدث عن تجربة نجيب محفوظ، هذه التجربة التي لها أهميتها في الوسط العربي، إلا أننا نرى أنها تجربة ساهم في تكريس أهميتها الشرط التاريخي أكثر من كونها تجربة غنية أو عميقة، ففي الوقت الذي بدأ فيه نجيب محفوظ مشروعه الروائي كانت الساحة الروائية العربية شبه فارغة، تنتظر من ينقدها من هذا الركود والجمود القابعة فيه، فظهر محفوظ كالمخلص تماما، ذلك لأنه إذا قرأنا كل ما أنتجه من أعمال روائية نجدها أولا لم تتخلص من التأثير الكبير للرواية الواقعية الفرنسية، خاصة واقعية بلزاك وفلوبير وإميل زولا، حتى أن أحد النقاد الفرنسيين حينما سمع بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بدأ قراءة أعماله فصاح قائلا: "هذا بلزاكنا". زد على ذلك أن محفوظ لم يحاول التجديد في مشروعه الروائي فكان كمن يعيد نفس السيناريو بطرق مختلفة في مجموع رواياته، حتى قال عنه عبد الله العروي أنه كرر نفسه حد التخمة. ناهيك عن وجود بعض الأعمال الروائية لمحفوظ ما كان عليه لينشرها إذ إنها أساءت لمشروعه أكثر مما كانت قيمة مضافة له، وهي الأعمال التي لم تجد صدى كبيرا، بل كانت محاولات تدرب في الكتابة، ولا نقصد هنا رواية "أولاد حارتنا" ذلك لأننا لا نناقش قناعة نجيب محفوظ ورؤيته للوجود أو الدين أو غير ذلك بقدر ما نناقش عمق مشروعه الأدبي. والأكثر من ذلك فقد كانت مشاريع روائية أخرى أعمق من تجربة الأستاذ نجيب محفوظ لكن لم يتم الاحتفاء بها كما يجب، خاصة تجربة الروائي السعودي عبد الرحمان منيف بوصفها تجربة عالجت إشكالات أعمق بكثير من الإشكالات التي عالجها محفوظ، ومن أهمها التحولات التي عرفتها المجتمعات الخليجية على مستوى المظهر دون أن يصاحبها تحول على مستوى المضمون، وظهور مدن حديثة بين ليلة وضحاها دون أن تنبني على تقعيد تاريخي مما سبب أزمة فكر وقيم. ويمكن أن نعالج الشرط السياسي أيضا في هذين التجربتين، فلا أحد سيرفض القول إن تعامل السلطة السياسية خاصة السعودية مع تجربة منيف، ومحاولة إقصائها لما سببته من كشف سوءة المجتمع والتاريخ السعودي والخليجي عامة، وهو ما سبب في طمس هذه التجربة العميقة ولم تأخذ حقها بالقدر الذي أخذته تجربة الأستاذ محفوظ، خاصة إذا استحضرنا مواقفه السياسية في أزمة مصر والقضية الفلسطينية والكيان الصهيوني.
ومن جهة أخرى يمكن أن يلعب شرط القوة والانتماء الحضاري أو الثقافي عاملا أساسيا في مسألة الاعتراف، فمثلا لا يمكن إنكار التجربة الروسية في الرواية، خاصة في عهد روسيا القيصرية، وما أنتجته هذه الحقبة من كتاب فرضوا وجودهم في الساحة الأدبية الدولية، بل أصبحوا في مصاف الأدباء العظام، ك: دوستويفيسكي وتولستوي... لكن السؤال المطروح هو لم الاعتراف بكتاب روسيا القيصرية في مقابل طمس حقبة شغلت حوالي قرن من الزمن؟ لا يعقل أن يتوقف الإنتاج الأدبي في عهد الاتحاد السوفياتي، هل لأنه كان يقف في الجهة المقابلة للهيمنة الغربية؟ أم لأنه لم ينتج شيئا؟ الأكيد أن التحولات التي عرفتها روسيا إبان حقبة الاتحاد السوفياتي كانت أعمق وأكثر حافزية للكتابة من حقبة روسيا القيصرية وقد تشكل مرتعا أخصب للإنتاج الروائي من هذه الأخيرة، وربما هذا ما سيفسر أيضا التصنيف المجحف في حق الرواية العربية والشرقية الذي قامت به مجلة theGuardian البريطانية حول أحسن مائة رواية عالمية، هذا التصنيف الذي لا نجد فيه رواية عربية واحدة، بل إن أغلب الروايات المصنفة إن لم نقل كلها هي روايات غربية بالدرجة الأولى كتبت بالانجليزية تليها الروايات التي كتبت بالإسبانية ثم الروايات باللغة الفرنسية وبنسبة قليلة الروايات الروسية. إذن فإن هذا التصنيف لم يتصف بالموضوعية والحيادية بقد ما اتصف بالذاتية ونرجسية المركزية الأوربية والأمريكية، فلا يعقل أن لا تكون ولا رواية عربية واحدة في هذه الروايات المائة.
يلعب الانتماء الطبقي للكاتب أيضا دورا حاسما في مسألة الاعتراف، ذلك إذا تجاوزنا كون الرواية ملحمة بورجوازية كما أقر "فريدريك هيغل" حيث ولدت من رحم التحول الاقتصادي الذي عرفته أوربا، إلا أنها في العالم العربي ارتبطت بظهور الطبقة المتوسطة وبنضالاتها، لكنها أصبحت اليوم رهينة حتى بالطبقات الفقيرة والمهمشة، وبالتالي فإن العالم العربي لم يتح المجال لكثير من المبدعين في مجال الرواية لتقديم أعمالهم وإيصالها للقارئ، نظرا لصعوبة النشر وعدم القدرة على تغطية نفقاته، في حين وصلت روايات أخرى لم تكن بالمستوى المطلوب، والسبب في ذلك بسيط، وهو أن أصحابها إما يشغلون منصبا مهما، أو لكونهم يتوفرون على علاقات جيدة أهلتهم لتشهير أعمالهم. زد على ذلك أن الوسط الذي يعيش فيه الكاتب لا يقل أهمية عن كل العوامل المشار إليها، فالكاتب الذي يعيش في المدن الكبرى يكون أكثر حظا وتأهلا للاعتراف به من الكاتب الذي يعيش في المدن العربية المهمشة،
ننتقل إلى مسألة الاعتراف وعلاقتها بالجوائز، والأكيد هنا أن المسابقات التي تحتفي بالكتابة الروائية تكاد تكون معدودة على رؤوس الأصابع، خاصة الكبرى منها التي يمكن إجمالها في جائزة البوكر وجائزة كتارا ثم جائزة الشيخ زايد، ولعل المطلع على هذه الجوائز وشروطها سيقف على حجم العقبات التي تقف بين روائي مبتدئ وهذه الجوائز، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أسم الروائي يلعب دورا أساسيا لا سواء بالنسبة للجوائز بل حتى بالنسبة للقراء، فيكفي أن يكتب كاتبا مغمور كلاما ولو كان تافها حتى تنهال عليه "الاعجابات" و"المشاركات" والتصفيقات في حين عندما يكتب كاتب ما زال يقبع في الظلام الكلام نفسه بل كلاما أكثر عمقا ورزانة منه لن يلتفت إليه إلا قلة من الناس في أغلبهم العائلة والأصدقاء. إذن فلجن الجوائز الروائية تكيل في أغلب الأحيان بمكيالين، وتغلب عليها قناعات خارج الأدب، وهو أمر لم تسلم منه حتى أضخم جائزة في العالم (نوبل) التي ما زال النقاش حول موضوعيتها جاريا. والمتتبع للشأن الروائي العربي سيقف على مسـألة أساسية أخرى، ألا وهي التمايز الكبير بين ثقافة الاعتراف في المشرق وثقافة الاعتراف في المغرب، ففي هذا الأخير تتضاعف الصعوبة لنزع الاعتراف، وهو ما دفع بالكثير من المغاربة إلى طبع أعمالهم في دور نشر مشرقية، ذلك لأن ثقافة تقديس الاسم مستشرية أكثر في الدول المغاربية، ولسنا هنا نناقش من باب الذاتية بل حينما نستحضر مؤخرا رواية نوميديا للروائي المغربي "طارق بكاري" وصعودها للائحة القصيرة لجائزة البوكر ثم حصولها بعد ذلك على جائزة المغرب للكتاب لم تكن لتحصل على هذه الجائزة لولا اختيارها في اللائحة القصيرة للبوكر، حيث إن جائزة المغرب للكتاب لا تكاد تمنح إلا لأسماء معروفة لها باع طويل في الكتابة، وقد تحكمها قناعات أخرى لا تحقق شرط الموضوعية.
في ختام هذا المقال نخلص إلى القول إن الاعتراف برواية ما أو بروائي ما لا يعكس بالضرورة عمق عمله، أو قيمته الأدبية العالية، بل يعكس فقط الظروف والشروط التي أنتجته، وبالتالي يمكن أن تكون هناك أعمال وصلت من الشهرة ما بلغ الآفاق، في حين أنها أعمال لم تصل من العمق أو من القيمة ما يؤهلها لذلك، والعكس صحيح تماما، فهناك أعمال قيمة جدا لم تجد نصيبها من الاعتراف، كما يوجد روائيون ربما غادروا الحياة دون أن يتم الاحتفاء بهم بالشكل المطلوب وإعطائهم حقهم كما ينبغي. كل هذا يجب أن يدفعنا إلى التخلص من مشكلة تقديس الأسماء، وأن نتذوق الأدب بعيدا عن شروط إنتاجه، أو الأحكام المسبقة، لأنها غالبا تكون أحكام قيمة خالية من الصدق والحقيقة، ولنتذكر أننا في الأخير نقرأ عملا لا نقرأ إنسانا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??