الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المادة المضادة ومأساة انسان العقل المُغَيب

السيد نصر الدين السيد

2016 / 12 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


مقدمة لا بد منها: المادة والمادة المضادة
في عام 1928 وجد الممتحنون صعوبة بالغة في إجازة رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب الإنجليزي بول ديراك. وقد كانت هذه الرسالة عملا فذا فقد نجح ديراك في الجمع بين نظريتين هما النسبية الخاصة والميكانيكا الموجية على الرغم من تباعد مجالي اهتماميهما. فمجال نظرية النسبية هو العالم "الماكرو" الذي تخبرنا حواسنا عن أحواله. اما مجال الثانية، الميكانيكا الموجية، فهو العالم "الميكرو" عالم الذرات والجزيئات التي يتطلب التعرف على احوالها معدات باهظة التكاليف. وإذا كان الامر كذلك فما هو سبب تخوف الممتحنين؟ كان السبب هو ان معادلة ديراك تتنبأ بوجود مادة مخيفة تحمل الفناء لكل من يلتقي بها انها "المادة المضادة". وصدقت النبوءة ولم يتأخر الأمر طويلا ففي سنة 1932 تمكن كارل اندرسون من اكتشاف وجودها فعليا. والمادة المضادة هي مادة تشبه تماما المادة التي نعرفها ولكن مكوناتها تحمل شحنات عكس الشحنات التي تحملها المادة العادية. فالإلكترون السالب والبروتون الموجب في ذرات المادة العادية يقابله الكترون موجب (بوزيترون) وبروتون سالب في ذرات المادة المضادة. ولقاء جسيم من المادة العادية مع جسيم من المادة المضادة يسفر عن فناءهم سويا وانطلاق قدر هائل من الطاقة.


ولا أخفي عليكم أنى لم أجد ظاهرة أفضل من ظاهرة "المادة المضادة" استخدمها لوصف تلك الكيانات التي ظهرت في الآونة الأخيرة. انها تلك "الكيانات المضادة" التي تحركها طاقة كراهية غير محدودة للآخر، أي آخر، فتحاول تدميره وتعمل على إفناءه. كيانات يصحبها الخراب أينما حلت ويسترجع سلوكها سلوكيات الانسان البدائي الذي لم يصقله بعد أدب الحضارات. وهي كيانات تتنوع اشكالها فهي قد تأخذ شكل جمعية خيرية او جماعة دعوية او هيئة علمية. تتغير الاشكال ولكن المضمون والقصد واحد لذا سنسميها "امارة القيراط الخامس والعشرين". والسؤال الآن لماذا يكثر وجود مثل هذه "الكيانات المضادة" في عالم الانسان، ويندر وجودها في عالم المادة الصماء؟ والاجابة ببساطة هي ان مكونها الرئيسي، "انسان العقل المُغَيب"، يتوفر بكثرة في بعض المناطق وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط.

والعقل المُغَيب هو عقل انسان يواجه واقع بالغ التعقيد، بتنوع مكوناته وتشابك علاقاته وتسارع احداثه، فيحاول ان يفهم ما يدور من حوله فيعجز عن الفهم ولا يجد من يساعده على الفهم من الفاهمين! هو عقل انسان يعيش في مجتمع يضعه على الهامش فلا يشركه في صناعة ما يمس حياته من قرارات. انه اذن انسان يعاني من عجز مزدوج عجز "الفهم" وعجز "الفعل" اللذان يأخذانه معا الي حالة "قلة الحيلة". ويصبح الانسان وهو في هذه الحالة لقمة سائغة للقائمين على إدارة شئون امارة القيراط الخامس والعشرين! وهم في العادة من مفسرو النصوص المقدسة والقائمين على حفظها ونشرها. والسؤال الآن كيف يتعامل مسؤولي الامارة مع انسان وهو في حالة "قلة الحيلة" ويستدرجوه ليصبح عضو فاعل في الامارة؟ والاجابة تأتي من تصفح أدبياتهم ومؤداها ان عملية تجنيده تتم عبر ثلاثة مراحل هي: مرحلة "الأفعل"، مرحلة "تغييب العقل" ومرحلة "التوجيه المميت".
وتهدف مرحلة "الأفعل" بتأكيد الدعاة لفرائسهم على أن ما يدعون اليه هو الأفضل مضمونا والأعلى شأنا. وتسعفهم النصوص المقدسة في دعواهم هذه. فعلى سبيل المثال في انجيل يوحنا (6:14) يعلن المسيح عن نفسه قائلا "أنا هو الطريق والحق والحياة، لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إلى الآب إلا بي". وفي القرآن سورة آل عمران (85) "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ". وهم بذلك يمنحوا من يتبعهم من السامعين شحنة معنوية تعوضهم عن احساسهم بوطأة العجز ومهانة التقصير. فهم الآن يمتلكون الأداة التي ستمكنهم من الفهم وتعزز قدرتهم على الفعل. وبالطبع تلازم قناعتك بأن ما تعتقده هو الأصح وهو الأفضل قناعة أخري هي ان الآخر كافر او مهرطق لا يستحق منك سوي الازدراء علي اقل تقدير. وهو الامر الذي تجسده، على سبيل المثال، عقيدة الولاء والبراء التي قال عنها الشيخ بن باز، مفتي السعودية الأسبق، "الولاء والبراء معناه محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم". هو الأمر الذي يؤسس لكراهية الآخر ويضع الأساس الديني للحروب الدينية والمذهبية.

وفي المرحلة الثانية، مرحلة "تغييب العقل"، يتعامل الدعاة مع مشكلة "عجز الفهم" لدى اتباعهم الجدد وذلك بإعفائهم تماما من مهمة التفكير المؤدية للفهم! وهي العملية التي تبدأ بالتساؤلات وتنتهي بالإجابات مرورا بالعقل وادواته الذهنية. وهم يعتبرون ان عملية الفهم هذه هي "فرض كفاية" لا "فرض عين" (*). وعليه فهم، وهم فقط، المخولون بالإجابة اسئلة الاتباع بنوعيها: الوجودية الكبرى والوجودية الصغرى. والأسئلة الوجودية الكبرى هي تلك التي مازالت تحير الإنسان حول الحياة والبعث والحساب والثواب والعقاب وغاية وجود الإنسان. وهي في مجملها أسئلة تتعلق بـ "عالم الغيب" الذي لا سبيل للتعرف على طبيعته إلا بالقبول المطلق بما جاء في النصوص المقدسة غير القابلة للنقاش. والتحقق من صدق أجوبة هذه الأسئلة فهو أمر مؤجل مكانه هو "عالم الآخرة" لا "عالم الدنيا".

اما الأسئلة الوجودية الصغرى فهي تلك المعنية بأدق تفاصيل حياتنا اليومية. والإجابة على هذه الأسئلة ليست من مسؤوليتنا بل هي أيضا من مسؤوليات الفقهاء. وهكذا لا يقدم الانسان صاحب العقل المغيب على فعل أي شيء دون استشارة او استخارة ممن يفقهون. وقد جاء في التقرير السنوي لدار الإفتاء المصرية أن عدد الفتاوى الصادرة عن الدار قد بلغ في عام 2015 أكثر من ستمائة وثلاثين ألف فتوي شملت كل ما يهم المسلم من أمور في مناحي حياته المختلفة. بينما كان عدد الفتاوي سنة 2010 هو 465‏ ألف فتوي. أي ان الزيادة في عدد الفتاوي على مدى خمس سنوات قد بلغت نحو 35%. ولعل القائمة التالية لعناوين الفتاوي التي تلقتها دار الإفتاء المصرية تلقي الضوء على مدى تأثير وتغلغل فكر "القيراط الخامس والعشرين" في عقول المصريين وغيرهم من شعوب هذه المنطقة التعسة.

عقد الزواج بالمنزل وإشهاره بالمسجد بنفس الصيغة
زواج مسيحي بمرتدة عن الإسلام وأحقيتها في ميراثه ونسب الأولاد
حدود الاستمتاع بين الزوجين
التحايل والغش في البضاعة المتفق على توريدها في المناقصات
ترك العامل مكان عمله للذهاب إلى صلاة التراويح
طبع كتاب بغير إذن صاحبه إذا كانت حقوق الطبع محفوظة
الاستيلاء على الأموال في بلاد غير المسلمين
إقامة مصنع لتصنيع المعادن الخاصة بالشيشة
الاتفاق بين المعامل والأطباء على عمولات مادية
توقيع الحضور لموظف غائب أو متأخر وحكم عمل مأمورية


وهكذا يهرب صاحبنا من حالة "عجز الفهم" ليقع في حالة "تغييب العقل" الذي تجعل منه "بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله". وأخيرا نصل آخر المراحل، مرحلة "التوجيه المميت"، وفيها يتم الإعلاء من شأن "الْآخِرَةُ " على حساب "الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ": ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [آل عمران 16، 17]، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20]، ﴿قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى﴾ [النساء: 77]. أما الجنة فهي المكان الذي فيه ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمكْنُونِ (23)﴾ [الواقعة].

وتنتهي مأساة انسان العقل المُغَيب" بخبر صغير عن تفجير انتحاري لنفسه في جمع من المصلين!

(*) "فرض الكفاية" في الفقه الإسلامي هو الفرض الذي إذا أدته فئة من المسلمين سقط عن الباقي. اما "فرض العين" فهو الذي طلب الشرع حصوله من كل عين، أي واحد من المكلفين، كالصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض الضغوط الدولية لوقف الحرب في غزة


.. أثار مخاوف داخل حكومة نتنياهو.. إدارة بايدن توقف شحنة ذخيرة




.. وصول ثالث دفعة من المعدات العسكرية الروسية للنيجر


.. قمة منظمة التعاون الإسلامي تدين في ختام أعمالها الحرب على غز




.. القوات الإسرائيلية تقتحم مدينة طولكرم وتتجه لمخيم نور شمس