الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بورتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي (3)

وديع العبيدي

2016 / 12 / 2
سيرة ذاتية


وديع العبيدي
بورتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي (3)
أحيانا.. وأنت تقرأ لبعض الشعراء.. أو بعضا من شعرهم، يغلب عليك شعور بأنّ أحدا ما يراقبك من مكان ما.. طبعا لا أقصد الله.. وانما أحد أكثر فظاعة.. احد مسلّح بوجه عبوس، ومستعدّ دائما للاطلاق بدون تروّ.
ان الكتابة فنّ عجيب.. فن يتصل بالخلق، الذي يدعونه (ابداع) تواضعا، باعتبار ان الخلق، صفة ملتصقة بالكائن الأزلي غير المنظور، والكاتب انسان منظور وغير أزلي.
صلاح نيازي لا يكتب عن نفسه، ولا يكتب عن أشياء راهنية تحصل أمامه وأمامنا. وهذا يجعلنا نفتقد أية معرفة مسبقة عما يكتب أو يقول. كأننا بذلك نوجد في غرفة جرداء معتمة أو شديدة البياض بشكل يعجز النظر، فيما يأتينا صوته من مكان ما، منسابا بهدوء ورتابة يومية.. مثل حنفية ماء متروكة في بيت قديم.
لذلك لا يوجد جديد في شعر صلاح نيازي. أعني جديد بالمنظور الزمني. جديد بمعنى طري وطازج. لكن هذا غير الجديد له جاذبية المجهول. لذة الغيب، - بالنسبة للعقلية الشرقية-. والكلمة الأخيرة لها قاموس خاص في لغة الشاعر..
في الأوقات الحرجة
أغبطكم أيها الشعراء، وفي السرّ أحسدكم
كيف تأتيكم الأفكار ناضجة كالتين المفلوع؟
أية حوصلة تمضغ لكم الشعر وتزفه بأفواهكم؟ / ص3 - مج وهم الأسماء
ان شاعرية صلاح نيازي كبيرة وغنية ومعطاء، ولكنها أسيرة بيد صلاح نيازي الانسان، وصلاح نيازي انسان كبير وقلب نقي ولكنه لم يستطع التحرر من الحالة العراقية، الحالة العراقية بكل ملابساتها وانتكاساتها المفجعة والمفجئة. ماذا لو لم يكن الدكتور الشاعر صلاح نيازي عراقيا؟.. ثمة غير قليل –بين السطور/ وراء الستائر- من المتربّصين لسوء فهم هكذا فرضية!، وهو افتراض قائم ومطروح لكل مبدع عراقي جنزرته ظروف بلده الناتجة من الحمق وعدم الجدارة بهكذا وطن!- لكنني أريد بذلك الفصل بين الشاعرية كمقدرة ابداعية استثنائية، المقدرة الفكرية والصبر على المعنى والفكرة والمفردة، وبين الهوية الوطنية التي تتحول إلى وصمة أو داء.. تمرغ أبناءها في الوحل أو ترسلهم للجحيم.
ان الحياة العراقية وكل ما يتعلق بها وينطلق منها من أدب وفكر وفن واقتصاد وسياسة وفكر اجتماعي ملتبس بالصورة العسكرية والعنف العسكري، ولم يكن صدام حسين والاحتلال الأمريكي إلا تكثيفا وتركيزا وتجسيدا لتلك الفكرة أو الظاهرة السخيفة في بعدها الآني أو التاريخي البعيد، في محاولة غير بريئة لابقاء البلد وأهله في حالة نزف واستهلاك ذاتي مدمر، بحسب مقولة التوراة: "من يأخذ بالسيف، فبالسيف يؤخذ"، والدم لا يرويه غير الدم، و(الحرب تلد أخرى)..
وفي سفر التكوين العبراني تجسيد دقيق لهذه السوريالية الفاقعة والمذهلة..
فبعدما يموضع صورة الفردوس في الجغرافيا العراقية في الفصل الثاني (تك 2: 14)، تتغير لهجة الكلام في تغيير مفاجئ في الفصل الحادي عشر (تك11: 6- 9): إن كانوا كشعب واحد ينطقون بلغة واحدة، قد عملوا كلّ هذا منذ أول الأمر، فلن يمتنع إذن عليهم أي شيء عزموا على فعله. هيّا ننزل إليهم، ونبلبل لسانهم، حتى لا يفهم بعضهم كلام بعض. وهكذا شتتهم الربّ من هناك على سطح الأرض كلّها، فكفّوا عن بناء المدينة. لذلك سميت المدينة "بابل"، لأنّ الربّ بلبل لسان أهل كلّ الأرض. وبالتالي شتتهم من هناك في أرجاء الأرض كلّها.!.
أليس كلّ عراقي مجروح في داخله يتساءل لماذا العراقيون، دون كلّ الشعوب، لا يستطيعون أن يكونوا/ يصيروا - شعبا واحدا..
لماذا العراقيون حتى اليوم تتعدد لغاتهم وألوانهم وكواءفهم وأصولهم الأثنية –وكل فئة تزاود على الاخرى-، ورغم مرور قرون الزمان، يرفضون التحول إلى شعب واحد ولغة واحدة بريئة من الانقسامات والصراعات والاحقاد المتشظية..
لماذا هم رغم مساحة بلادهم وانخفاض معدل كثافة الاستيطان وثروات بلدهم الطبيعية، يتوزعون سطح الأرض.. مثل يتامى ثكلتهم أمهاتهم..
لماذا يعجز هذا العراق الذي منه انطلقت اللغات والأمم والمعارف والثقافات النابضة حتى اليوم، بما فيها الديانات وآباؤها ورموزها، يعجز عن ضم أبنائه واحترامهم.. أم أنه يبقى أرضا محروقة.. لا تصلح لغير الهروب والهجران!..
أنا أختلف مع من يصف التوراة والكتب الدينية -تسليما- بالأساطير والخرافات.. لأنهم بذلك يروجون، عرفوا أو جهلوا، لقطع الصلة بين ما يحدث على أرض الواقع من أحداث وفبركات سياسية واجتماعية، اقليمية ودولية، وبين دور النص الديني في توجيه وتسيير الأفكار والأشخاص المخططين والمشرفين على تلك السياسات.
أكثر منه، يوحون لمن يصدقهم، أنهم لا يؤمنون بالخرافات، ولا يجسدونها في تفاصيل حياتهم اليومية. أرجو أن لا يستمر البعض في سذاجته أو بلاهته محيلا الأمور للصدفة، أو المبالغة في الوهم. ليس الأسكندر وحده ترك بلده وجاء ليموت في بابل، ولا فارس وحدهم النزلاء الدائمون في فنادق العراق، ولا الأميركان يأتون من أقصى الأرض لهدم حصون بابل وتجفيف مياه العراق وانتاجه الزراعي، وجعل صورة الشخصية العراقية، تبدو الأكثر انحطاطا على سطح الأرض، وكل هذا طبعا باسم الدمقراطية وحقوق الانسان..
هناك إرث ثقيل في العراق.. على القارئ أن يعين –إذا عناه الأمر- ذلك الذي أحال مجد العراق إلى عبء وخطيئة، وأحال بذلك الاكرام والتقدير إلى لعنة أبدية، وسخر السماء نفسها لرعاية الأثم واللعنة العراقية..
هذا الإرث التاريخي، بكل انعكاساته الدينية والاجتماعية – يمكن ملاحظته جيدا في الأدبيات الاسلامية والاسرائيليات-، يثقل كاهل الفرد العراقي بكل تبعاته. فالفرد العراقي هو الوحيد بين سكان العالم، يدفع ثمن شيء لم تقترفه يداه ولا أيدي ذويه.. يكفي أن تكون عراقيا.. لكي يطأطأ أحدهم رأسه ويقول.. أوه.. عراق.. بابيلونيا..عراق.. نبوخذ نصر.. أشور بانيبال.. يزيد.. صدام..
أو يقول.. عراق.. حنوك.. نينوى
وما تزال كلمة نمرود لها معاني سلبية..
علما أن ما قاموا به هو البناء والعمران.. الذي تتفاخر به البلدان اليوم، بعماراتها الزجاجية والفولاذية.. اعتبر سبّة لمن قاموا به قبل التاريخ..
ربما لهذا السبب أيضا.. يتسلط الفكر الديني المريض الموروث، ليحني ظهور العراقيين تحت ذكرى لعنات تاريخ –مقدس-.. فإله السماء (ينزل بنفسه) على أرض بابل ليشتت أهلها ويبلبل لسانها.. المفروض أن أرض بابل/ (باب ايل) وكل ما يحيطها من شنعار ونفر ونينوى هي أرض مقدسة، لأنها لامست أقدام الإله.. لكن هذا النزول الالهي وتجليه لأهل بابل يجري تأويله سلبيا، فقط لقطع البركة عن أرض العراق..
ما هو موقف العراقيين من أتباع الديانات القديمة، ولم لم يخطر لهم التوسل والتضرع لإله السماء لانقاذ بلدهم من غضبه الأزلي.. هناك نصوص وطنية كثيرة في بلدان أخرى هي سبب بركة لأهلها.. فهل لذلك مثيل عند العراقيين.. هل هناك عراقي يطلب بركة لبلده في صلواته وعبادته.. أم أنه ما زال يردد نصوصا مكتوبة تشدد اللعنة على بلده ونفسه، دون أن يبدي حراكا..
طيب.. تدمدم.. تعتقد أنني خرجت من النص.. بينما أنا أقودك درجات في العمق.. أحيلك فقط للموروث الديني والشعبي في الشعر العراقي.. وأختلف معك، فلا اعتبره دالة للاصالة، وانما دالة عبودية وانجرار قسري للخلف والغيب.. والشاعر يعاني وهو يستعرض قسمات التاريخ اللئيمة، بينما تشتعل أكف الجمهور بالتصفيق.. لا يصفقون للشاعر، ولكن لرموز العبودية والمرض المعششة في ثقافتهم التربوية.
وقد تكفلت قصيدة التسعينيات العراقية – تحديدا- بمواجهة ومحاكمة الرموز التاريخية والدينية العراقية، لأنها سبب انحناء كاهل الشخصية العراقية، ومصادرة الارض والانسان والحياة في ارض الرافدين.
ويمكن القول انه ما من قصيدة لصلاح نيازي لم تنطلق من مغارة التراث والميثولوجيا، ولم تتعرض -طويلا- للمساءلة والمداولة والتشذيب والترشيق قبل رؤيتها النور. فالمستور والمختزل في لغة نيازي، يكاد يعادل المنشور.
الرقيب الديني- الرقيب الاجتماعي- الرقيب السياسي، ثلاثة رموز بوليسية قمعية تتعايش داخل حجرة تفكير الشاعر، رغم أنه يعيش خارج بلده، وفي بلد يوصف باحترام الانسان والفكر والرأي وحماية الحريات.
لا أستطيع تقديم جواب كامل عن طول ظلال الرقيب في نصوص الدكتور صلاح نيازي. ولكني لا أتردد في كشف مظاهر القمع الداخلية، حتى لو كانت موروثة تربويا ودينيا، أو سائدة في بيئة معينة كأمر واقع.
واقعنا ومستقبلنا يقتضي منا اطلاق الحريات والأفكار والطاقات والمشاعر، بغير قيود. ولكن الذي قام به الغزو الانجلوامريكي في العراق، هو اطلاق العنف ولغة الدم والاحقاد والاطماع والغرائز الوحشية في أحط وأعنف مستوياتها. فهذه هي صورة الدمقراطية الامريكية العابرة للقارات، وهي ما دفعت توني بلير للقول في جوهانسبيرغ، في مؤتمر للحركات الاشتراكية، ان بلده ليس كفيلا بادخال الدمقراطية في العراق!. ولكن لماذا اعيد العراق قرنا للخلف، واعيد المجتمع العراقي قرونا الى وراء؟..
من حق الناس العاديين مراوغة التفكير، والتنصل مما يمكن ان يتعب عضلة القلب، ولكن الشاعر المفكر لا يتاح له ذلك. ويبقى ذلك السؤال يتعقبه، والواقع – الوطني والغربي- يخذله.
قصيدة صلاح نيازي محاصرة بين منفيين، منفى وطنه العراقي المعصوب العينين، ومنفى وطنه الانجليزي الذي لم تترك سياساته وجيوشه العراق، الا جثة متفسخة. فلا هو قادر أن يصرخ، أو يشكو. لا هو قادر ان يعترض، أو يعارض، باسم الدمراطية الشرقية، ولا باسم الدمقراطية الغربية. ولعل مركز الاشكالية هنا، ان مسيرة الزمن بعد نصف قرن على منفى الشاعر، أو قرن على الدولة الحديثة في العراق، ان تعود الاحوال الى ما كانت عليه قبل دخول الحداثة والتمدن، بين سطوة التخلف الاجتماعي والخرافة، وبين ردة الفكر الى اشكاليته السياسية البنيوية.
في كل شعري لا توجد قصيدة واحدة تتغزل بلندن أو التايمز، بعد نصف قرن!، يقول الدكتور صلاح نيازي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة سقوط صاروخ أطلق من جنوب لبنان في محيط مستوطنة بنيامين ق


.. إعلام سوري: هجوم عنيف بطائرات مسيرة انتحارية على قاعدة للقوا




.. أبرز قادة حزب الله اللبناني الذين اغتالتهم إسرائيل


.. ما موقف محور المقاومة الذي تقوده إيران من المشهد التصعيدي في




.. فيما لم ترد طهران على اغتيال هنية.. هل سترد إيران على مقتل ن